وحنينه أبدا لأول منزل!
د. محمد إبراهيم العشماوي
نفسي تحنُّ بفطرتها إلى الحياة الأولى - فلقد كانت بسَاطتها سرَّ حلاوتها - وتَنفِر من أطوارها المتلاحِقة التي خلعَت عنها ثوبَ البساطة، وكسَتها ثوبَ التعقيد، فصارت هذه الحياة بالنِّسبة لي شيئًا مرًّا كالعلقَم، أتجرُّعه ولا أكاد أُسيغه، ولكَم أشعر بصفاء النَّفس وهدوء الخاطِر حين أجلس تحت ظلِّ شجرة، في ضَحوة الشمس، أتبرَّد من حرارة الجوِّ، وآكل من ثِمار الأرض، وأشرب من مياهها، وأتوضَّأ من مَعينها، وأصلِّي على ضفاف النَّهر بين الحقول الخضراء!
ولكَم تتكدَّر نفسي ويضيق خاطِري حين تُحاصرني صفائحُ الحديد وجدران الأسمنت وقوائم الخشَب، وتتسلَّط عليَّ أشعة الكهرباء ونحن في ضوء النهار، وينفذ الهواءُ الصناعي في جوِّ الصيف إلى مسام جلدي، فيؤذيني، كما تؤذيني الحرارةُ المصطنعة في برد الشِّتاء!
وتطاردني عوادِم السيارات وأبخرة المصانِع والضجيج الصاخِب في كلِّ مكان؛ لتنقضَّ جميعها على جسدي المتهالِك، فتأكل ما تبقَّى من صحَّته وقوته!
إلى متى أيتها الحياة المعقَّدة تؤذين البسطاء أمثالي؟!