وسائل الإعلام
الرائي (التلفزيون)
د. فهمي قطب الدين النجار
جامعة الجريمة:
لذلك هاجَم كثير من العلماء (التلفزيون)، أو بالأصح البرامج التلفزيونيَّة المملوءة بالعنف واللصوصيَّة، وتمجيد المُجرِمين وتلميع وجوههم وسلوكهم، ومنهم (ستيفن بانا) الطبيب النفسي والأستاذ بجامعة كولومبيا؛ إذ يقول: "إذا كان السجن هو جامعة الجريمة، فإن التلفزيون هو المدرَسة الإعدادية لانحِراف الأحداث".
ويؤكِّد (جير هارد كلوسترمان) ذلك، فيقول: "إن تأثير التلفزيون وما ينشأ عنه من إيحاءات للطفل أمر خطير جدًّا في حالة الطفل المعوَّق، وهو عادة طفل عُدواني قوي، شرس، يَشعُر بالإحباط، ويتأثَّر بأفلام العنف تأثُّرًا مُباشِرًا، وعندما يُصاب الطفلُ بالإحباطِ ويشعُر بخيبة الأمل لعجزِه عن الحصول على ما يَعرِضه عليه التلفزيون، أو يفعل ما يفعله الآخرون، فإنه يُصاب بالتوتُّر والقلق؛ مما يؤدي مِن ثَمَّ إلى الانحراف.
وتوضِّح دراسات العالم الفرنسي (جان حيرو) أسباب سوء التكيُّف بين المُنحرِفين في باريس، ويرجع هذه الانحرافات إلى مُشاهَدة أفلام العُنف.
ويرى علماء الاجتماع أن التلفزيون يُشيع في النشء حبَّ المغامرة والتحرُّر مِن القيود، والاتصال بعالم الكبار، كما يقوِّي ميولَهم بأن يُصبِح لهم كِيان، ولكنهم يرون أيضًا أن التطرُّف بالمشاهدة قد يؤدِّي إلى الانحِراف[7].
وقد ثبَت مِن دراسات العلماء (أن أفلام العنْف والمغامرة والأفلام البوليسيَّة) تُخيف الأطفالَ وتُروِّعهم، حتى إن بعضهم يُحاول مغادرة المكان، والبعض الآخر يُصاب بالغثَيان، والبعض يُصاب بأمراض نفسيَّة كالتبول (اللاإرادي)، أو حالات الذُّعر والكابوس في أثناء النَّوم.
وتدلُّ الإحصاءات الأخيرة التي أُجريَت في إسبانيا أن 39% من الأحداث المُنحرِفين قد اقتبَسوا أفكار العنف من مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج العدوانيَّة، التي تدور أحداثها حول ارتكاب الجرائم، وطُرُق الاعتداء على الناس.
ويُدلِّل العلماء على آرائهم هذه بأمثلة كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
• في مدينة (بوسطن) الأمريكية رسَب طفل عمره 9 سنوات في مُعظَم مواد الدراسة، فاقترح على والده أن يُرسِل صندوقًا من الحلوى المسمومة إلى المدرسة، وعندما استوضحَه والده ذلك، قال: إنه أخَذَ الفِكرة من برنامج تلفزيوني.
• في مدينة بون الألمانية قامت فتاتان في الثانية عشرة من عُمرهما بقتل صبي غريب عنهما، اتضح للمحقِّق في هذه الجريمة أنهما شاهدتا في اليوم السابق لارتكاب الجريمة فيلمًا تلفزيونيًّا، انتهى بجريمة قتل ضد نجم الفيلم.
• ومِن أحدث ما ذُكِر في هذا المجال أن طفلاً فرنسيًّا عمره خمس سنوات أطلق رصاصة على جار له عمره سبع سنوات وأصابه إصابة خطيرة، بعد رفض الأخير أن يُعطيه قطعة من اللبان، وقد ذكَر الطفل في أقواله للشرطة أنه تعلم كيف يَحشو بندقية والده عن طريق مُشاهَدة الأفلام في التلفزيون[8].
ونسأل: ما التفسير النفسي لتأثير التلفزيون على الأطفال في مجال أعمال العنف أو غير ذلك من التأثيرات السلوكية؟
وقد توصَّل العلماء إلى أن للتقليد والمُحاكاة تأثيرها على الطفل أو الناشئة؛ فعندما يَعرِض التلفزيون شخصيات مُعيَّنة، ويُبيِّن مشاعرَهم، ويُقدِّم قيمَهم بشكل درامي، فإن الأطفال مُستعدُّون لاستيعاب الأفكار والقيم عاطفيًّا، ففي المسلسلات التلفزيونية نُلاحِظ أن الشرير أو الوغد يَحصُل على كافَّة المزايا؛ الأرض والمال والمنازل والحدائق والنساء، وكل هذا نتيجة لاعتداءاته وغلظته، فالنمط السلوكي البراق هو النمط المُعادي للجميع.
ويذهب بعض علماء النفس أيضًا إلى أن المسلسلات العنيفة والبرامج (البوليسيَّة)، تَخلق في النشء شُعورًا بالبلادة وعدم المبالاة، ويَنجُم عن ذلك نوع مِن الشلل في الإحساس، والقيام بردود أفعال غليظة بعيدة عن أي شفقَة أو تَعاطُف[9].
وهكذا، فإن التلفزيون أصبحَ في مُعظم الدول مجرد جهاز ناقل لإنتاج فني ضَعيف هابط تتخلَّله إعلانات جذابة ومُثيرة للغرائز، ويذهَب بعضُهم إلى القول بأن الناس لا يأخُذون هذه البرامِج وهذه الإعلانات مأخَذَ الجِدِّ؛ وإنما يَنظُرون إليها على أنها مجرَّد تسلية، غير أن علماء النفس يؤكِّدون مِن ناحية أخرى أن ما لا يأخُذُه الناس مأخذ الجِد هو الذي يؤثِّر أبلغ الأثر، فليس الترفيه التلفزيوني بأمر ثانوي يُمكن أن نُهمِله أو نهوِّن من شأنه، فمثل التلفزيون كمثل الماء والنار، له جاذبية وسحر؛ لأنه يتحرك ويؤثِّر ويسحر ويَخلب الألباب، ويجعل الناس يُشاهِدون ما يُعرَض على شاشاته، وهنا تَكمُن الخطورة[10].
وفي دراسة لسلبيات التلفزيون في البلاد العربية، كان نتيجة الاستبيان الذي توصَّل إليه الباحث كما يلي[11]:
يؤدي التلفزيون إلى انتشار الجريمة والعنف 41% يؤدي التلفزيون إلى انتشار ضعْف الإبصار 64% يؤدي التلفزيون إلى انتِشار شيوع الرذيلة 41% يشغل المُشاهِدين عن المطالَعة والقراءة 64% يشغل التلاميذ عن الاستِذكار 63% يؤدي إلى شيوع أساليب النصْب والاحتيال 47% يؤدي إلى تقييد حركة الجسم وحِرمانه من الرياضة 44% يؤدي إلى السلبيَّة والكسَلِ والتراخي 46% بالنسبة لأفراد المجتمع يضرُّ أكثر مما ينفَع 72%
ونتيجة لهذه الدراسات العلمية؛ فإن كثيرًا من العائلات الغربية لا تَملِك جهاز تلفزيون في البيت رغم أن اقتناء هذا الجهاز أصبح اليوم في متناول الجميع، أما الذين لا يستطيعون الاستغناء عنه، فإنهم في الوقت نفسه يتعاملون معه بكثير من الصرامة، فيَختارون برامجَهم، ويُعلِّمون أطفالهم أن يتعاملوا معه بنفس الطريقة، بل تجري العادة اليوم أن يأوي الطفل الغربي إلى فراشه في ساعة مُبكِّرة، بغضِّ النظر عن وجود جهاز تلفزيون أو عدم وجودِه.
• وفي عام 1977م ظهر كتاب ذو أهمية في الأسواق الأمريكية من تأليف (ماري وين) وقد أسمته (المُخدِّر الكهربي)، وكان سببًا لضجة كبيرة عند الآباء وعلماء النفس والمربين؛ لقد أكَّد الكِتاب أن مشاهدة الأطفال للتلفزيون تُسبِّب عندهم نوعًا من الإدمان، وأنها تُحوِّل جيلاً كاملاً منهم إلى أشخاص من (الزومبي) - أي الذي دخلت أجسامهم قوة خارقةً فصارَت تتحرَّك من خلالهم - يتميَّزون بالسلبية وعدم التجاوب، ولا يَستطيعون اللعب والابتِكار، ولا يستطيعون حتى التفكير بوضوح[12].
• وفي دراسة حديثة لتأثير التلفزيون للمُؤلِّفة السابقة وآخرين، تقول بأن الأطفال الذين يُشاهِدون كثيرًا التلفزيون يُبدون تدهورًا واضحًا في الذاكرة والقُدرة على التعليم بطريقة صحيحة لاستيعاب اللفظ والكلام المكتوب، وربما دخلْنا في العصر الذي تُحشى فيه المعلومات مباشرة إلى العقل الباطن عند الجَميع[13].
يتبع