أسراب الراجعين إليك
أ. محمود توفيق حسين
خلع كل واحدٍ منهم قميص غفلته الذي بللته دموعه، وألقاه تحت قدميه غير آسف عليه، وخرج راجعًا إليك يتهم نفسه، ويذكر نعماءك.
كل واحد من هؤلاء يهرب إليك بجلده الذي يرغب في نجاته من النار، يخرج وهو لا يعرف إن كان يلوم جوارحه التي خانك بها، أم أنّ جوارحَه تلومه؟
والقلب يكاد يذوب فوق شمع الخجل منك وهو يذكر بكل أسًى اللهوَ والتقصيرَ والجرائم والغدرات والموبقات.
كل ما كان العبد يفتك بنفسه به خلف الجدران، وهو يتقي أن يراه أحد من الناس، وتناسى أن رب الناس يراه.
كل واحد من هؤلاء الآن يخرج وهو يعرفك، ويخشاك، وذنوبه السوداء أمامه تطفو على ذاكرته كما يرعب القرشُ المبحرينَ في صغار القوارب.
كلهم خجَلٌ منك.. وأملٌ فيك..
وها هي ذي رؤوس الدروب نفسُها التي كان يسلك فيها اللاهون للأبد، العاصون للأبد، الضاحكون للأبد، الشرِهون للأبد، تمتلئ شيئًا فشيئًا بالأسراب، أسرابِ الراجعين إليك.
وإن هذه المدنَ جميعَها وإن اتسعَت، لَتنوءُ بخروج مثلهم من أصحاب الحاجات، وتنفلت من فوضى الصاعدين في الطرقات، وتفتقد الشعور بالأمن.
وإن سلاطين الأرض لا يتحملون أن تخرج الجموع بهذه الأعداد إلى أسوار القصور طلبًا لشيءٍ، أي شيء، ويشعرون بالتهديد من شدة الإلحاح، حتى وإن أحسن الناس الطلب، ويشعرون بالفلاح إن يئس الناس وعادوا إلى مآويهم، حتى وإن بدا على وجوههم الضيق.
أما أنت - سبحانك - وعبادُك!
فلك فيهم شأنٌ آخر
فلك مُلكٌ لا يهدده الخروج
ولك غنًى لا يؤثّر فيه الطلب
وإنك تحب إلحاح من يرجونك
ولا تحب منهم أن ييأسوا من الدعاء.
وأنت تحث المؤمنين بك على العودة إليك؛ فها هي ذي أسرابُ الراجعين إليك.. لا تردَّهم، واغفِر لهم يا رَحيم..
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾.