عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 20-05-2021, 05:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,741
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قراءة في ديوان: ملحمة التاريخ

يُطْوَى الْغُزَاةُ عَلَى رُبَاكِ وَتَنْمَحِي
وَتَظَلُّ دَارُكِ فِي جِهَادٍ أَمْثَلِ
والتاريخ يُسَجِّل للأفغان مَآثِر لا يعدُّها العَدُّ، ولا يحصيها الدارسون، فما بالها اليوم لا تبدي ولا تخفي؟!
قَدْ كُنْتِ ثَرْوَةَ أُمَّةٍ وَغَنَاءَ أَزْ
مِنَةٍ وَفَيْضَ مَنَابِعٍ لَكِ فَانْهَلِ

كَمْ عَالِمٍ دَفَعَتْ رُبَاكِ وَصَادِقٍ
دَاعٍ وَكَمْ يَوْمٍ أَغَرَّ مُحَجَّلِ

مَا بَالُ دَارِكِ أَحْوَلَتْ وَعَدَتْ عَلَيْ
هَا الْعَادِيَاتُ مَعَ الزَّمَانِ بِدهْكَلِ

وإذا كانت بلاد الأفغان قد ابتُلِيَت مرَّات بغُزَاة كان مصيرهم الهزيمة والاندِحار، فإن بغداد لم تكن بعِيدة عن تلك المآسي، بل لعلَّ ما أصابها أكبر من كلمات الوصف في لغات الكون كلها، ولا سبيل للنجاة سوى سبيل الله - سبحانه وتعالى - وسيُحاسب كل امرئ بعدالة ميزان الله - عزَّ وجلَّ - كلُّ ذلك نظَمَه الشاعر في العقد الأخير من ملحمته الشعريَّة، ملحمة التاريخ ودَوِيُّه، على بحر الكامل في سبعة وعشرين بيتًا:
بَغْدَادُ وَاأَسَفَاهُ هَذَا حَالُنَا
لَمَّا ابْتُلِيتِ فَمَنْ تَرَاهُ الْجَانِي

كَمْ مِنْ بَنِيكِ تَأَلَّبُوا وَتَنَاثَرُوا
فِرَقًا مُشَتَّتَةً وَهَوْجَ أَمَانِ

فَسَلِ الْمُسَادَ وَكَمْ رَمَى بِشِبَاكِهِ
وَكَمِ الَّذِينَ هَوَوْا إِلَى قِيعَانِ

هَذَا الْكِتَابُ وَتِلْكَ سُنَّةُ أَحْمَدٍ
نَطَقَا بِحَقٍّ صَادِقِ التِّبْيَانِ

لاَ يُعْذَرَنَّ سِوَى الَّذِي عَذَرَ الْإِلَ
هُ وَلَيْسِ بَعْدُ هُنَاكَ عُذْرٌ ثَانِ

هَذَا سَبِيلُ نَجَاتِنَا وَبِغَيْرِهِ
ذُلٌّ يُطِيحُ بِنَا وَقَهْرٌ ثَانِ

وبهذه القصيدة يصل الدكتور عدنان النحوي إلى خِتام ملحمة التاريخ، الشعرية، التي أراد لها أن تعبِّر عن المفهوم الإسلامي للملحمة، والذي يتلخَّص في الصراع الدائم الدائر بين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان، منذ أرسل الله - عزَّ وجلَّ - محمدًا - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وسيَبْقَى حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، ليستخلص الله من المؤمنين الشهداء، ويتوب عليهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويَقِينُهم في الدنيا أن ذلك هو الفوز العظيم، الذي يَتنافَس فيه المتنافسون.

وقد اقتَصَر الشاعِر في مُعظَم قصائده على النظرة العامَّة لهذا الصراع؛ من حيث أسبابه، وحقائقه، والنتائج التي يسعى لها كلُّ فريق، والفِرَق الثانوية التي تنمو عادة بينهما، وهم الذين يسمِّيهم القرآن الكريم بـ(المنافقين).

ولعلَّ في قدرات الشاعر على تحسُّس العِبَر والوقوف عليها دورًا كبيرًا في المواعظ التي سطرها عبر هذه الملحمة، ونادَى بأعلى صوته المؤمنين المخلِصين لينتَبِهوا، ويعملوا وَفْقَ شريعة الله التي أنزَلَها على محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لا يقصدون من عملهم سوى وجه الله - تعالى - لأنَّه السبيل الوحيد لِخَلاص الأُمَّة، وإعادتها إلى رايَة القيادة، ولتخرج البشرية من عبادة غير الله إلى عبادة الله، وتُنهِي الفتن التي ملأت الدنيا شرقها وغربها، ودخلت على المؤمنين في أخصِّ أماكنهم وسط المساجد، وفي عقر دارهم، وما غُزِي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.

ولو وقف الشاعر عند المواقف الجزئية في المَعارِك، التي يَعِيشها المُقاتِل في هجومه أو دفاعه، وما يراه أو يحسه ويَعتَلِج في خاطره، سواء عند انتِصاره أو عند نهايته - لوصلت ملحمته آلاف الأبيات، خاصَّة وأنه يحمل بين ضلوعه نفَسًا طويلاً، في قدرة فائقة على الوصف، ومعجم لغوي غني، وقدرة شاعرية متميِّزة.

فالمُقاتِل عند انتِصاره، وما أمدَّه الله به من قوَّة، فهو يده التي يبطش بها، وعينه التي يُبصِر بها، هدفه تبليغ رسالة الإسلام، وشريعة الله - سبحانه وتعالى - وهذا الكافر بين يديه يُقاتِل الله وجنوده، فهو حَقِير يذهب برجله إلى شفير جهنم، وتجحظ عيناه حين يرى الخاتمة المحتومة التي لا مفرَّ منها، فلا يملك إلا نظرة الأسى والذهول لفقده أعزَّ ما يملك وهي الحياة، والنعيم الحرام الذي تمتَّع به، فتمرُّ على عينه كلُّ صُوَرِ الفساد والضلال التي عاشَهَا، في الوقت الذي صار بصره اليوم حديدًا، فيرى ملك الموت المتأهِّب لينشط روحه، كما ينشط الحسك من الصوف، ويرى مقعده في النار، وتجهُّم الملائكة من الريح القذرة المنبَعِثة من روحه الكافرة الشرِّيرة، والتفصيل في هذا الموقف عند الشاعر له مَذاقٌ آخر، حين يختلط بالعواطف الجيَّاشة، والأحاسيس الرقيقة، والنفس اللماحة.

كما أن مشاعر النصر عند المؤمن وهو يُقدِم على التخلُّص من هذه النفوس الخبيثة، وما يَعتَلِج في صدره من أحاسيس تَرتَبِط بأوامر الله - عزَّ وجلَّ - وتنفيذها طلبًا لرضاه، وتمسُّكًا بشريعته، وما ينتظره من العِزَّة التي وعَدَه الله ورسوله، والفرحة تملأ قلوب المسلمين الذين يَنتَظِرون عودته، مُظَفَّرًا غانمًا سالمًا، يرفع راية الإسلام خفَّاقة عالية، تظلُّ بها الدنيا، وتنشر العدل والسماحة في الأرجاء.

كذلك الصورة الأخرى، صورة علو الكفر، وما تحمله من بغي وظلم وعدوان، وفِتَن لا يعلمها إلا الله، وسيطرة وقهر للعِبَاد، وارتفاع رايَة الكفر بما تحمله من الفساد والبُعْدِ عن شريعة الله، وانتشار الضلال، وسيطرة المادة، وغياب الأخلاق، وانتشار التعاليم الصِّهْيَوْنِيَّة الكافرة الباغية، مُقابِل انكسار شوكة المسلمين، ومشاعر الحزن والأسى على تَشَتُّتهم، وتفرُّق كلمتهم، وبُعْدِهم عن شريعة الله، وارتكابهم المعاصي، وما أذاقَهُم الله من الذلِّ على يد عدوِّهم بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير.

هذا ويتبع هذه الصُّوَرَ الميدانية صُوَرُ الأيامى، واليتامى، والثكالى، والنائِحين والنائِحات، والفجيعة بالأخبار المتوالِيَة من أرض المعركة، على الضعفاء الذين فقَدُوا أملهم ومُعِيلَهم، وحامِيَهم، والهدايا التي طالَمَا انتَظَروها، فجاءَهُم الموت، وفجيعته ومصيبته، فكانت السقطة أقوى، والطامَّة أكبر على نفوسهم.

ويتبع صورة علو الكافر حفلات الفساد، ومشارب الفتنة والضلال، واحتفالات الكبر والغوايَة، وإظهار القوَّة الظالمة التي تتحدَّى الله - تعالى الله عمَّا يصفون - ويظلم عباده، ويعلن عصيانه، ويتعدَّى على شريعته، ويدعو للكفر بها، ويحاربها، ويتَّهم أتباعها بكلِّ التُّهَم الباطلة المُضِلَّة، وما يتبعها من مُعانَاة المسلمين في كلِّ مكان يُسَيْطِر فيه الكفر، خاصَّة وأنه قد مدَّ مخالبه هذه الأيام حيث يشاء، فسبحان الله الذي يُمهِل ولا يُهمِل!

هذه هي الحلقة التي تكاد تكون مفقودة في المقارنة بين المفهوم الوثني للملحمة والمفهوم الإسلامي لها، فهناك الخيال والصور البعيدة عن الواقع، والتي اضطر كاتِبُوها لإدخال الآلهة في مَعارِكهم؛ ليجعلوها أكثر إثارة، ويَنتَزِعوا المشاعر من عُقُلها في الصدور، لينثروها حارَّة حارِقَة على الوجنات، مُلتَهِبة؛ لأنهم تحدَّثوا عن خصوصِيَّة الموقف الإنساني في اللحظات الحاسِمَة من الحياة، وهذا أمرٌ لا يُعجِز شعراءنا، بل حين يَقِفُون عنده سيبرزون؛ لأنهم سيعتَمِدون حقائق الأمور، بعيدًا عن الخيالات الكاذبة، وسيُصَوِّرون الحق كما أخبرهم به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نقلاً عن الله - سبحانه وتعالى - فإنه لا ينطق عن الهوى.

وهنا سؤال مهمٍّ: أيُّهم سيكون أكثر تأثيرًا على النفس؛ مَن اعتَمَد في وصفه على خيال كاذب، أم مَن اعتَمَد على خبر يقين؟! فسبحان الذي سخَّر لدينه وشريعته مَن ينصرها ويُقِيمها عبر التاريخ، وهو الذي لا يُغَيِّر ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم، ولا يُصِيب قومًا بمصيبة إلا بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير.

هذا، والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على خير الخلق، وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.69 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.69%)]