عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 25-05-2021, 03:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,370
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الإشراف التربوي وإعداد المعلمين في السنة النبوية



1- تحديد المنهج التعليمي وتطويره:
هناك تعريفات عديدة قدَّمها علماءُ التربية للمنهاج، بصيغٍ مختلفة، وأساليبَ متعددةٍ، فيرى بعضهم "أن المنهاج هو: الإجابة على السؤال التالي: "ماذا تُعلِّم المدارس؟"، أما (سيرجيوفاني وستارات) فيستعملان التعريفَ التالي للمنهاج: "ذلك الذي يفترض في التلميذ أن يُواجِهَه، وأن يَدرُسَه، وأن يُمارِسَه، وأن يَحْذِقَه"[21].

أما ما يتعلَّق بتطويره وتعديله، فقد "اقترح تايلر (Tyler) أربعةَ أسئلة رئيسة تتعلق بالمنهاج والتدريس:
1- ما الأغراض التربوية التي يجب أن تسعى المدارسُ لتحقيقها؟
2- ما الخبرات التربوية التي يمكن توفيرُها، والتي تؤدِّي إلى تحقُّق هذه الأغراض؟
3- كيف يمكن تنظيمُ هذه الخبرات التربوية بفعالية؟
4- كيف نستطيع أن نقرِّر ما إذا تحقَّقتِ الأهداف أم لم تتحقق؟"[22].

وبالنظر إلى واقع العملية التعليمية في عهده - عليه الصلاة والسلام - نجد أن الغرض التربويَّ الأول والأساس، الذي يسعى المعلمون إلى تحقيقه من وراء نشاطِهم التعليمي - هو الجانبُ الإيماني المتمثِّل في فهْم تعاليم الإسلام فهمًا صحيحًا، والعمل على تطبيقها تطبيقًا كاملاً في حياتهم العملية بمجالاتها المختلفة.

ولهذا؛ فإن دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية هي الوسيلة الأولى لتحقيق هذا الهدف، وبالتالي فإنها هي الإجابة المنطقية للسؤال الذي يدور حوله المنهجُ التعليمي: "ماذا تعلِّم المدارس؟".

ومن هنا نجد أن محتوى المنهج التعليمي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم على هذين العنصرين: القرآن والسنة؛ كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث مُعاذًا وأبا موسى إلى اليمن، فأمَرَهما أن يُعلِّما الناسَ القرآنَ"[23].

2- مشاركة المتعلمين في اختيار المنهج:
لم يكن تحديد محتوى المنهج التعليمي مهمةً خاصة بالمشرف التربويِّ ممثَّلاً في النبي - عليه الصلاة والسلام - فحسبُ؛ بل كان للتلاميذ المتعلمين دورٌ في تحديد هذا المحتوى، على ضوء ما فهموه من متطلبات الحياة ومستجداتها، كما يدلُّ على ذلك حديثُ أنسٍ - رضي الله عنه -: أن أهل اليمن قَدِموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ابعثْ معنا رجلاً يعلِّمْنا السُّنةَ والإسلام، قال: فأخذ بيد أبي عبيدةَ، فقال: ((هذا أمين هذه الأمَّة)).

فهنا نجد أن المتعلمين أو التلاميذ هم الذين حدَّدوا محتوى المنهج التعليمي الذي يريدون دراسته، وهو الإسلام والسنة، وطلبوا من النبي - عليه الصلاة والسلام - بوصفه وليَّ الأمر، أو الجهة العليا المسؤولة عن مهمة الإشراف التربوي - أن يختار لهم المعلِّمَ المناسب الذي يقوم بتدريس هذا المحتوى، فاختار لهم أبا عبيدة - رضي الله عنه.

3- مراعاة التدرج في تطبيق المنهج:
من روائع الإشراف التربوي لدى النبي - صلى الله عليه وسلم -: تنبيهُ المعلمين إلى ضرورة التدرُّج مع المتعلمين في تطبيق المنهج التعليمي، بأن يكون الاهتمام أولاً بالأساسيات ثم الفرعيات، أو الأهم ثم المهم؛ حتى لا يكون هناك نفورٌ من التلاميذ، أو اختلاط في المفاهيم، إذا تمَّ تقديمُ المعلومات دفعةً واحدة.

ومن الأمثلة على ذلك: حديثُ ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا - رضي الله عنه - إلى اليمن فقال: ((ادْعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن همْ أطاعُوا لذلك، فأعْلِمْهم أن الله قد افترض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلةٍ، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تؤخذُ من أغنيائهم، وتردُّ على فقرائهم))[24].

فهذا الحديثُ يمكن اعتبارُه أصلاً للتدرُّج في تطبيق المنهج، كما يمكن اعتباره أساسًا لفكرة تعديل المنهج وتطويره بما يلبي احتياجاتِ المجتمع، ويتناسب مع تطوُّره الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ونحو ذلك.

4- كتابة المنهج وتوثيقه:
بالرغم من المفهوم السائد لدى كثيرٍ من الناس من أن فكرة الكتابة والتدوين لم تكن مستعملةً بصورة واضحةٍ في العصر الإسلامي الأول، فإننا نجد أدلةً تشير إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اهتمَّ بجانب إعداد المناهج التعليمية، وسن كتابتها وتدوينها؛ لتكون نبراسًا يسير عليه المعلِّمون في سبيل إنجاح عمليتهم التعليمية على الوجه الأكمل.

ويبدو أن كتابة المنهج التعليمي جاءتْ في مرحلة متأخرة من حياته - عليه الصلاة والسلام - اقتضتْها ظروفُ المرحلة وتطوراتُ الحياة، حيث لم تَعُدِ التعليماتُ الشفهية تكفي لتلبية متطلبات العملية التعليمية التي كان يقوم بها أصحابُه المعلمون المبتعثون إلى الأماكن النائية، ولعلهم من خلال بعثاتهم السابقة اكتشفوا وجودَ بعض الظواهر والمستجدات التي تستدعي إعدادَ منهجٍ مكتوب؛ ليسير عليه المعلمون في عملهم التربوي، دون أن يحتاجوا إلى الرجوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يطرأ لديهم من الأمور والمستجدات، خاصة مع بُعْدِ المسافات، وصعوبة المواصلات في ذلك الوقت.

وخيرُ مثالٍ للمنهج التعليمي المكتوبِ في عهده - صلى الله عليه وسلم - هو هذا الكتاب الذي كَتَبَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزمٍ - رضي الله عنه - حين بَعَثَه إلى اليمن يُفقِّه أهلَها، ويعلِّمهم السُّنةَ، ويأخُذ صدقاتِهم، فكتب له كتابًا وعهدًا، جاء فيه ما يلي:

((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، عهدٌ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمَرَه بتقوى الله في أمْره؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ الحق كما أمره الله، وأن يبشِّرَ الناس بالخير ويأمُرَهم به، ويعلِّم الناس القرآن ويفقههم فيه، وينهى الناس، ولا يمس أحدٌ القرآنَ إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين لهم في الحق، ويشد عليهم في الظلم، فإن الله - عز وجل - كره الظلم ونهى عنه؛ وقال: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، ويبشِّر الناسَ بالجنة وبعملها، ويُنذِر الناسَ النارَ وعملها، ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدِّين، ويعلِّم الناسَ معالمَ الحج وسُننَه وفرائضه، وما أمر الله به، والحج الأكبر والحج الأصغر...)) إلى آخر هذا الحديث الطويل[25].

فهذه نبذة عن عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنهاج التعليمي وتطويره، في إطار ممارسته لوظيفته الإشرافية على مسار العمل التربوي المتبع في عهده - عليه الصلاة والسلام.


المبحث الرابع
إعادة تشكيل أو تركيب البيئة التعليمية



يرى التربويون أن "من طُرق تحسين التدريس التي تتضمن تغييراتٍ في المنهاج، وفي سلوك المعلم: طريقةَ إعادة تشكيل البيئة التعليمية، ويستطيع فريقٌ تعليمي (teaching team) أن يوفِّر تعليمَ مجموعة كبيرة، أو مجموعة صغيرة، أو فرد واحد، مضيفًا بذلك أساليبَ متنوعةً من التعليم، وموجدًا جوًّا مثيرًا يزداد فيه انتباه التلميذ... وقد تكون هناك حاجة إلى إعادة تنظيم أعضاء هيئة التدريس في المدرسة؛ لأجل تنشيطهم لتجويد التعليم؛ فرفقاء التعليم، ومعاونو المعلمين، والأقسام، والأزواج، والأسر التعليمية - تشترك جميعُها في تطوير منحى تعاوني لتعليم التلاميذ، وقد يتطلب تسهيلُ عملِ مثلِ هذه المجموعاتِ مساعدةً إشرافية"[26].

وقد لا يخطر في بال هؤلاء المنظِّرين أن رسولنا الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - قد سبقهم إلى هذه النظريات، وطبَّقها تطبيقًا عمليًّا، أدَّى إلى أروع النتائج في مجال تحسين العملية التعليمية.

فمن النماذج التي نجدها في هذا الإطار: قصةُ عُمير بن وهب الجمحي، الذي هداه الله للإسلام، وشهد شهادة الحق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فقِّهوا أخاكم في دينه، وأقرِئوه وعلِّموه القرآن))، فلما قدم عمير مكةَ أقام بها يدعو إلى الإسلام، فأسلم على يديه أناسٌ كثير[27].

فنحن هنا أمام حالةٍ استطاع فيها فريقٌ تعليمي (teaching team) أن يوفر تعليمَ فرد واحد، مضيفًا بذلك أساليبَ متنوعة من التعليم، وموجدًا جوًّا مثيرًا ازداد فيه انتباه التلميذ؛ فأدَّى إلى تحقيق أفضل النتائج في أقل وقت ممكن.

وننتقل إلى أنموذجٍ آخرَ تتجلى فيه فكرةُ تعديل البيئة التعليمية بصورةٍ أكملَ وأوضح، وذلك في قصة وفد عبدالقيس التي يرويها أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - فيقول: "كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((جاءكم وفدُ عبدالقيس))، قال: ولا نرى شيئًا، فمكثنا ساعة، فإذا هم قد جاؤوا، فسلَّموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((أبَقِيَ معكم شيء من تمرِكم؟ - أو قال: مِن زادِكم؟ -))، قالوا: نعم، فأمر بنِطَعٍ، فبسط، ثم صبوا بقية تمرٍ كان معهم، فجَمَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه وقال: ((تُسمُّون هذه التمرَ البرنيَّ، وهذه كذا، وهذه كذا؟ - لألوان التمر -))، قالوا: نعم، ثم أمر بكلِّ رجل منهم رجلاً من المسلمين، ينزله عنده، ويقرئه القرآن، ويعلِّمه الصلاة، فمكثوا جمعةً، ثم دعاهم، فوجدهم قد كادوا أن يتعلَّموا، وأن يفقهوا، فحوَّلهم إلى غيره، ثم تركهم جمعة أخرى، ثم دعاهم، فوجدهم قد قرؤوا وفقهوا، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد اشتقْنا إلى بلادنا، وقد علم الله خيرًا، وفقهنا، فقال: ((ارجعوا إلى بلادكم))[28].

فمن هذا الحديث نستنتج عددًا من المبادئ التربوية الهامة التي تضمنتْها الممارسةُ الإشرافية للنبي - عليه الصلاة والسلام - والتي نلخصها فيما يلي:
1- تأليف قلوب المتعلمين، وكسر الحواجز بينهم وبين معلميهم:
يَظهر لنا هذا المبدأُ من خلال سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أعضاءَ الوفد عما بقي معهم من الزاد، ولم يكن ذلك عن احتياجٍ لأخْذ ما تبقَّى لديهم من التمور؛ وإنما لتحقيق جوٍّ من التآلف والتواصل بين أعضاء الوفد، وبين أصحابه المقيمين معه في المدينة؛ بدليل أنه جَمَعَ أصحابَه لحضور هذه المناسبة السعيدة، وأكَّد هذا الاتجاهَ بذكر أسماء التمور بحسب المصطلحات المتعارف عليها عند أعضاء هذا الوفد القادمين؛ حتى يطمئنوا إلى توفر الأرضية التواصلية المشتركة بينهم، خاصة وأن اللغة أداةٌ للتواصل والتفاهم.

2- تطبيق مفهوم الأسر التعليمية:
يتمثَّل هذا المبدأُ في توزيع أعضاء الوفد القادمين على الصحابة، وإسنادِ مهمة تعليم كلِّ واحدٍ منهم إلى معلِّم بعينه يقيم معه في منزله، ويتولَّى مهمةَ تعليمه، وتربيته على مبادئ الإسلام وأحكامه وشعائره.

3- اختبار نجاح العملية التعليمية من خلال أثرها على المتعلمين:
المتعلِّم هو أساس العملية التعليمية؛ ولذلك فإن قياس نجاحِها أو فشلها يتوقَّف على معرفة أثرِها على هذا المتعلم، ومدى استفادته من النشاط التعليمي الذي أقيمَ من أجْله، ولذلك حينما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتأكَّد من نجاح العملية التعليمية لم يسألِ المعلمين عن أدائهم؛ بل اتَّجه رأسًا إلى المتعلمين للتحقُّق مما لديهم من معلومات، وما استفادوه في هذه الفترة من خبرات عَملية وعِلمية.

وقد جاء في روايةٍ لأحمدَ بنِ حنبل عن بعض وفد عبدالقيس: "ثم أقبل علينا رجلاً رجلاً، فعرضنا عليه ما تعلَّمنا وعلِمنا، فمنَّا مَن علِم التحياتِ، وأمَّ الكتاب، والسورةَ، والسورتينِ، والسُّننَ"[29].
4- إعادة تشكيل البيئة التعليمية:
وتعتبر عملية تغيير البيئة التعليمية وإعادةِ تشكيلها من أهم الملامح التربوية في المنهج النبوي؛ لضمان تجديد حيويَّة المتعلمين، وإثارةِ انتباههم، وتهيئةِ الظروف المناسبة لنجاح العملية التعليمية.

5- مراعاة مشاعر المتعلمين وتقدير ظروفهم الحياتية:
ويبدو لنا هذا الجانب في سماحه - عليه الصلاة والسلام - للوفد بالسفر إلى بلادهم حين أعلنوا عن رغبتهم في السفر، وصرَّحوا باشتياقهم إلى بلادهم، فلم يَعُدْ من المنطقي تربويًّا أن يستبقيَهم عنده بعد تصريحهم هذا، لا سيما أنهم قد تحصلوا على قسطٍ وافر من العلم والفقه في الأسبوعين اللذين أمضوهما في التعليم على يد الصحابة، وبإشرافٍ تربوي مباشر من النبي - عليه الصلاة والسلام.

لكن تقدير الظروف الحياتية يظلُّ مشروطًا بعدم مصادمتها لأصلٍ من الأصول الشرعية المعتبرة في الإسلام؛ ولذلك عندما طلب هؤلاء الوفدُ من رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أن يأذَنَ لهم في شراب بعض أنواع النبيذ المنتشرة في بلادهم، بدعوى ضرورات البيئة، لم يسمح لهم بذلك، وأعلن لهم أن كل ما بلَغَ حدَّ الإسكارِ، فهو حرام.


المبحث الخامس
ممارسة الصحابة للإشراف التربوي وإعداد المعلمين



واصَلَ الصحابةُ - رضوان الله عليهم - جهودَهم التعليمية التي بدؤوها على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا ينشرون التعليم حيثما حلُّوا في البلاد التي فتَحُوها، أو تلك التي أنشؤوها، خاصة أولئك الصحابةَ الحفَّاظ الذين اشتهروا بتعليم القرآن وغيره منذ حياة النبي - عليه الصلاة والسلام.

وقد أدَّى اتِّساعُ الفتوحات الإسلامية وتزايُدُ أعداد الداخلين في الإسلام، أفرادًا وجماعاتٍ وشعوبًا - إلى إحساس الصحابة - رضوان الله عليهم - بضرورة أن يكون هناك نوعٌ من التحديث في مسار العملية التعليمية، بما يلبي متطلباتِ هذه المرحلة، ويفي بحاجات المتعلمين الراغبين في التعرُّف على أحكام الإسلام، وإتقانِ تلاوة القرآن الكريم، والوقوفِ على أسراره وأحكامه ومعانيه، فاستدعى ذلك أن يهتموا بجانب الإشراف التربوي - وإن لم يسمُّوه بهذا الاسم - ويمارسوه بصور مختلفة، تمثِّل بعضَ مظاهر العملية الإشرافية بمعناها الحديث.

وكانت الجهة الأولى المهتمَّة بممارسة الإشراف التربوي في هذه المرحلة هم الخلفاءَ الراشدين - رضوان الله عليهم - حيث كانوا يمارسون عملياتِ الإشراف التربوي على مسار العملية التربوية والتعليمية بنِسَبٍ مختلفة، وأشكال متنوعة.

وما اهتمامُهم بجمْع القرآن الكريم وتدوينِه في عهد أبي بكر الصديق، ثم في عهد عثمانَ بنِ عفان - رضي الله عنهما - إلا نوعٌ من ممارسة هذا الإشراف التربوي، وحرصهم على حماية القرآن - أساس التعليم ومرجعيته الأولى في الإسلام - من أن يطرأ عليه تغيير، أو يتعرض للضياع.

بَيْدَ أن أبرز الخلفاء الراشدين اهتمامًا وممارسةً للإشراف التربوي في مجالاته المختلفة هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الذي لم تكن عنايتُه بإرسال البعثات التعليمية أقلَّ من عنايته بإرسال الجيوش الجهادية.

ولذلك نجد عددًا من الصحابة يوصفون بأن عمر بن الخطاب بعَثَهم لمهمات تعليمية، ومن الأمثلة على ذلك:
1- عبادة بن الصامت، بعثه عمر بن الخطاب ليعلِّم الناس القرآن[30].
2- عبدالله بن مغفل المزني - رضي الله عنه - كان أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعلِّمون أهل البصرة[31].

وكان عمر - رضي الله عنه - يبعث مع هؤلاء المعلمين رسائلَ إلى الجهات المستهدَفة، يشرح لهم فيها الهدفَ من إرسال هؤلاء المعلمين، والمكانةَ التي يتمتَّعون بها، والتنبيه على ضرورة الاستفادة من خبراتهم ومعارفهم، كما جاء عن حارثة بن مضرب، قال: كتب إلينا عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إني قد بعثتُ إليكم عمارَ بن ياسر أميرًا، وعبدالله بن مسعود معلِّمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من أهل بدرٍ، فاسمعوا، وقد جعلتُ ابنَ مسعود على بيت مالكم، فاسمعوا، فتعلَّموا منهما، واقتدُوا بهما، وقد آثرتُكم بعبدالله على نفسي"[32].

فهذا اتِّجاه تربوي مهم، ينبغي أن يحرص عليه المشرفون التربويون بتعزيز مكانة المعلم، وبيان فضله ومنزلته؛ حتى يتشوق المتعلمون أو التلاميذ إلى الاستفادة منه، ومد جسور التواصل معه.

ويبلغ اهتمامُ عمرَ بنِ الخطاب بهذه البعثات التعليمية إلى درجة خروجه مع المعلمين وتشييعه لهم إلى خارج المدينة، وتزويدهم بكل ما لديه من خبرات وتوجيهات؛ حتى يؤدُّوا رسالتهم على الوجه المطلوب.

كما جاء عن قرظةَ بنِ كعبٍ قال: بعث عمرُ بن الخطاب رهطًا من الأنصار إلى الكوفة فبعثني معهم، فجعل يمشى معنا حتى أتى صِرارَ - وصرارُ ماءٌ فى طريق المدينة - فجعل يَنفُض الغبارَ عن رجليه، ثم قال: إنكم تأتون الكوفة، فتأتون قومًا لهم أزيزٌ بالقرآن فيأتونكم، فيقولون: قدم أصحاب محمدٍ، قدم أصحاب محمدٍ، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فاعلموا أن أسبغ الوضوء ثلاثٌ، وثنتان تجزيان..."[33].

ولم تكن ممارسة الإشراف التربوي على المعلمين مقصورةً على الخلفاء وحدهم في العهد الراشدي؛ بل كان كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - يقومون بأداء هذه المهمة، بحسب مواقعهم والظروف المحيطة بهم.

وخير مثال على ذلك منهجُ أبي الدرداء - رضي الله عنه - الذي كان يتَّبعه في تعليم القرآن الكريم في مسجد دمشق، حيث كان يقسم تلاميذه إلى مجموعات، ويعين لهم مقرئين، "فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، لكل عشرةٍ منهم مقرئٌ، وكان أبو الدرداء قائمًا يستفتونه في حروف القرآن - يعني المقرئين - فإذا أحكم الرجلُ من العشرةِ القراءةَ، تحوَّل إلى أبي الدرداء، وكان أبو الدرداء يبتدئ في كل غداة إذا انفتل من الصلاة، فيقرأ جزءًا من القرآن، وأصحابه محدقون به يسمعون ألفاظَه، فإذا فرغ من قراءته، جلس كلُّ رجل منهم في موضعه، وأخذ على العشرة الذين أضيفوا إليه"[34].
فهذا الأسلوب الذي اتَّبعه أبو الدرداء يمكن اعتبارُه أنموذجًا مبكرًا للتعليم المصغر للمعلمين أثناء الخدمة، الذي بدأتْ تدعو إليه حديثًا المؤسساتُ التعليمية في أمريكا وغيرها، بعد أن كان مقصورًا على تأهيل المعلمين قبل الخدمة.

والتعليم المصغر "أداة إشراف مفيدة، توفِّر خبراتٍ للتطوير المهني قبل وأثناء الخدمة، ويركِّز التعليم المصغر على سلوك الطالب، وتوقيتِ الدروس، والخطط المتماسكة التي تبني نشاطاتها وتقويمها على الأهداف السلوكية للدرس، كذلك يوفر التعليم المصغر فرصًا للتدريب على مهارات التحليل الذاتي، وتطوير مفهوم ذات إيجابي، في الوقت الذي يعمل على تطوير مستوى متقن من أداء المهمة"[35].

الخاتمة:
وبعد، فهذه صورة عامة عن جذور ومبادئ الإشراف التربوي في العصر الإسلامي الأول، كما طبَّقه النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أرساه من قواعدَ نظريةٍ تُعِينُ المعلمين على أداء رسالتهم التعليمة بصورة جيدة.

وأهم النتائج التي تمخض عنها هذا البحثُ ما يلي:
1- سبْقُ معلِّم البشرية النبي - عليه الصلاة والسلام - في تأصيل وتطبيق عمليات الإشراف التربوي، وريادته في هذا المجال، بصورة ينبغي أن يهتدي بها علماءُ التربية في سبيل تحسين العملية التعليمية والارتقاء بها.
2- عرفت مسيرة الإشراف التربوي في العهد النبوي بمرحلتين: أولاهما مرحلة إعداد المعلمين قبل الخدمة، والمرحلة الثانية كانت مرحلة الإشراف وتأهيل المعلمين أثناء الخدمة.
3- شملتِ العملية الإشرافية في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جوانبَ متعددةً، منها: تعديلُ سلوك المعلمين، وتطويرُ المنهاج، وإعادةُ تشكيل البيئة التعليمية.
4- كان العمل الإشرافي الذي مارَسَه النبي - صلى الله عليه وسلم - منسجمًا مع التصور الإسلامي لما ينبغي أن يكون عليه المجتمعُ المسلم، كما كان ملبيًا لكل متطلبات العملية التعليمية، كما تقتضيها الحياةُ الاجتماعية والتطورُ الحضاري والعلمي في تلك المرحلة.
5- واصَلَ الصحابة - رضوان الله عليهم - جهودَهم التعليمية التي بدؤوها على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تكن ممارسة الإشراف التربوي على المعلمين مقصورةً على الخلفاء وحدهم في العهد الراشدي؛ بل كان كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - يقومون بأداء هذه المهمة، بحسب مواقعهم والظروف المحيطة بهم.
هذا؛ وفي الختام أسأل الله - تعالى - أن يجعل هذا الجهدَ المتواضع خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

قائمة المصادر والمراجع:
1- عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن: مختصر تاريخ دمشق، ط 1، 1998 م، دار الفكر، بيروت.
2- ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني: سنن ابن ماجه، ج: 1، ت: محمد فؤاد عبدالباقي، (ب.ت)، دار الفكر، بيروت.
3- ابن هشام، أبو محمد عبدالملك الحميري: السيرة النبوية، ج 1، تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، ط 1، 1411هـ، دار الجيل، بيروت.
4- الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبدالله: معرفة الصحابة، ج 18، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، ط 1419 هـ، دار الوطن - الرياض.
5- البخاري، الإمام محمد بن إسماعيل بن المغيرة: صحيح البخاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
6- البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين: دلائل النبوة، ج 6، ط 2، 1418هـ، تحقيق: عبدالرحمن محمد عثمان، دار الفكر - بيروت.
7- الدارمي، عبدالله بن عبدالرحمن أبي عبدالله: سنن الدارمي، ج 1، ت: فؤاد أحمد زمرلي وخالد اليسع العلمي، ط 1، 1407، دار الكتاب العربي، بيروت.
8- السجستاني، سليمان بن الأشعث أبو داود الأزدي: سنن أبي داود، ج 9، ت: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الفكر، بيروت.
9- الصنعاني، عبدالرزاق: المصنف، ج 1، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مكتبة مراد ملا، الأستانة - تركيا.
10- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار، ج 4، تحقيق: العلامة محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي - القاهرة.
11- عبيدالله، د/ أحمد عمر: العلاقة بين الإشراف التربوي والإشراف الفني، ورقة مقدمة في ورشة العمل الخاصة بـ (تطوير عمل الموجه التربوي)، في الفترة 28 - 29 ديسمبر 2004 م، وزارة التربية والتعليم بجمهورية السودان.
12- عبيد الله، د/ أحمد عمر: مذكرة في الإشراف التربوي، مقدمة لطلاب فرقة الماجستير بمعهد الخرطوم الدولي للغة العربية، عام 2005، مطبوعة على الحاسوب.
13- فيفر، ل. إيزابيل، وجين دنلاب: الإشراف التربوي على المعلمين، ترجمة: محمد عيد ديراني، ط2، 1997م، منشورات الجامعة الأردنية، عمان.
14- النووي، يحيى بن شرف: شرح صحيح مسلم، ج 1، ط 2، 1392هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
15- النيسابوري، الإمام/ مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري: صحيح مسلم، ط 1992م، دار الكتب العلمية، بيروت.





ـــــــــــــــــــــــ
[1] عبيدالله، د/ أحمد عمر: "العلاقة بين الإشراف التربوي والإشراف الفني"، ورقة مقدمة في ورشة العمل الخاصة بـ(تطوير عمل الموجه التربوي)، في الفترة 28 - 29 ديسمبر 2004م، وزارة التربية والتعليم بجمهورية السودان، ص 1.


[2] فيفر، ل. إيزابيل، وجين دنلاب: "الإشراف التربوي على المعلمين"، ترجمة: محمد عيد ديراني، ط2، 1997م، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، ص 24، 25.
[3] ابن هشام، أبو محمد عبدالملك الحميري: "السيرة النبوية"، ج 1، تحقيق: طه عبدالرؤوف سعد، ط 1، 1411هـ، دار الجيل، بيروت، ص 343.
[4] الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبدالله: "معرفة الصحابة"، ج 18، تحقيق عادل بن يوسف العزازي، ط 1419هـ، دار الوطن - الرياض، ص 5.
[5] سنن ابن ماجه، لمحمد بن يزيد بن ماجه القزويني، ج: 1، ت: محمد فؤاد عبدالباقي، "ب.ت"، دار الفكر، بيروت، ص: 83.
[6] لا تزرموه: لا تقطعوا بوله.
[7] صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، ج 2، ص 133، حديث رقم 429، ط 1992م، دار الكتب العلمية، بيروت.
[8] صحيح البخاري، للإمام محمد بن إسماعيل بن المغيرة البخاري، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يسروا ولا تعسروا، حديث رقم 5663، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[9] الصنعاني، عبدالرزاق: "المصنف"، ج 1، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مكتبة مراد ملا، الأستانة - تركيا، ص 424.
[10] النووي، يحيى بن شرف: "شرح صحيح مسلم"، ج 1، ط 2، 1392 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص458.
[11] صحيح مسلم، ج 9، باب ثبوت الجنة للشهيد، حديث رقم: 3522، ص 497.
[12] صحيح مسلم، ج 10، حديث رقم: 3730، ص 255.
[13] صحيح مسلم، ج 12، حديث رقم: 4443، ص 155.
[14] البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين: "دلائل النبوة"، ج 6، ط 2، 1418هـ، تحقيق عبدالرحمن محمد عثمان، دار الفكر - بيروت، ص 3.
[15] صحيح مسلم، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي، حديث: 810.
[16] "شرح النووي على صحيح مسلم"، ج 3، ص 164.
[17] سنن أبي داود، لسليمان بن الأشعث أبي داود السجستاني الأزدي، باب في كسب المعلم، حديث رقم: 2964، ج 9، ت: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الفكر، بيروت ص 267.
[18] "عون المعبود شرح سنن أبي داود"، ج 7، ص 404.
[19] عبيدالله، د/ أحمد عمر: "مذكرة في الإشراف التربوي"، مقدمة لطلاب فرقة الماجستير بمعهد الخرطوم الدولي للغة العربية، عام 2005، مطبوعة على الحاسوب، ص 2.
[20] عبيدالله، د/ أحمد عمر: "العلاقة بين الإشراف التربوي والإشراف الفني"، المرجع السابق، ص 1.


[21] فيفر، ل. إيزابيل، وجين دنلاب: "الإشراف التربوي على المعلمين"، مرجع سبق ذكره، ص 147.
[22] المرجع نفسه، ص 147، 148.
[23] "مسند أحمد"، باب حديث أبي موسى الأشعري، ج 40، ص 40.
[24] صحيح البخاري، باب وجوب الزكاة، حديث رقم 1308.
[25] "دلائل النبوة"، للبيهقي، ج 6، ص 13.
[26] فيفر، ل. إيزابيل، وجين دنلاب: "الإشراف التربوي على المعلمين"، المرجع السابق، ص 27.
[27] الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير: "تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار"، ج 4، تحقيق العلامة محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي - القاهرة، ص 77.
[28] "مصنف عبدالرزاق"، ج 9، ص 201.
[29] "مسند أحمد"، بقية حديث وفد عبدالقيس، ج 31، ص 150.
[30] "معرفة الصحابة"، لأبي نعيم الأصبهاني، ج 13، ص 438.
[31] "مصنف ابن أبي شيبة"، ج 6، حديث رقم: 11.
[32] "المستدرك على الصحيحين"، للحاكم، ج 13، ص 126.
[33] "سنن الدارمي"، لعبدالله بن عبدالرحمن أبي عبدالله الدارمي، ج 1، حديث رقم: 286، ت: فؤاد أحمد زمرلي وخالد اليسع العلمي، ط 1، 1407، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 318.
[34] ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن: "مختصر تاريخ دمشق"، ط1،1998م، دار الفكر، بيروت، ج 1، ص 32.
[35] فيفر، ل. إيزابيل، وجين دنلاب: "الإشراف التربوي على المعلمين"، المرجع السابق، ص 49.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.15 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.71%)]