خطبة: التسبيح من أحب الكلام إلى الله
أحمد عبدالله صالح
أيها الأحباب الكرام، في صحيح الجامع من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحبُّ الكلام إلى الله أن يقول العبد: سبحان الله وبحمده))، وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا يضرك بأيِّهِنَّ بدأت)).
ولهذا، عمل اليوم الذي يحبه الله هو عمل من أعمال اللسان وهو: التسبيح يا كرام.
التسبيح هو الثناء الكامل على الله مع رغبة ورهبة، ويعرِّفه العلامة المفسر الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: "بأنه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله".
ورد ذكر التسبيح في القرآن أكثر من ثمانين مرة، وفي مفتتح سبع سور من القرآن الكريم: في سورة الحديد، وسورة الحشر، وسورة الصف، وسورة الجمعة، وسورة التغابن، وسورة الإسراء، وسورة الأعلى.
وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يدعوه ربه سبحانه لأن يكون له من المسبحين فيقول له: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، ويقول له: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 96]، ويقول: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3].
وكما جاء عند الإمام مسلم رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه)).
والتسبيح يا كرام هو الذكر الذي كانت تردده الجبال والطير مع نبي الله داود عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 79]، ولما خرج زكريا عليه السلام من محرابه دعا قومه للتسبيح: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 11]، وهذا نبي الله موسى عليه السلام يدعو ربه أن يجعل معه أخاه هارون وزيرًا؛ ليعينه على التسبيح، فقال: ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ﴾ [طه: 29 - 34].
والتسبيح هو ذكر الملائكة؛ قال تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشورى: 5].
ولذلكم؛ فإننا نعيش في عالم يضج بالتسبيح، لكننا أحيانًا لا نلتفت ولا نبالي ولا نهتم أو لا نفقه ذلك: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44]؛ فكل ذرة في هذا الكون يا كرام توحد الله وتسبحه؛ فالسماء على عظمتها، والأرض على سعتها، كلتاهما مطيعتان لله، ممتثلتان لأمر الله، مسبحتان بحمد الله.
كل ما في الكون من حيوان ناطق وغير ناطق، ومن أشجار ونبات، وجامد وغير جامد، وحي وميت، يسبح بحمد الله بلسان الحال ولسان المقال على غير لغتنا المعهودة لنا، يحيط بها علام الغيوب.
فإذا كان هذا الكون كله بمن فيه مسبحًا لله، فأين موقعي، وأين موقعك من هذا الكون المسبح؟
أين مكاني ومكانك؟ كم هو رصيدي ورصيدك اليومي من التسبيح لله؟ ألسنا الأَولى من هذه المخلوقات بتسبيح الله؟ ألسنا الأحرى من هذه الكائنات بالتسبيح له سبحانه وتعالى؟
حتى النمل الصغير يا مؤمنون يقدس الله تعالى ويسبحه؛ قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: ((قرصت نملة نبيًّا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة، أحرقت أمةً من الأمم تسبح)).
بل إن هناك جمادات تسبح الله، وكانت تحب رسول الله وتسلم عليه؛ قال عليه الصلاة والسلام كما روى ذلك مسلم: ((إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن))، وقال عليه الصلاة والسلام كما روى ذلك الترمذي، وصححه الألباني: ((ما من مسلم يلبي - أي: في الحج أو العمرة - إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر - أي: طين - حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا)).
والسماء والأرض تبكيان حزنًا على فراق المؤمن؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا فقد المؤمن مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها - بكت عليه السماء والأرض".
وبالعكس من هذا، تفرح السماء والأرض برحيل العصاة، ويستريح العباد والشجر والدواب بموت الفاجر؛ ففي الحديث المتفق على صحته؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب))، يؤيد ذلك ما أخبرنا الله سبحانه عن قوم فرعون: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 29].
فيا عباد الله، عظموا الله بقلوبكم، عظموا الله بألسنتكم، عظموا الله بجوارحكم، عظموه بكل شيء فيكم وقدِّروه حق قدره، ولا تكن تلك الجمادات والنباتات والحيوانات أعقل من البعض وأكثر خشيةً وتعظيمًا: ﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19، 20].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول ما سمعتم، واستغفروا الله لي ولكم من كل ذنب، فيا فوز المستغفرين ويا نجاة التائبين...
الخطبة الثانية
أما بعد:
فأحبتي الكرام، التسبيح راحة، التسبيح فوز وسعادة وقرب، فما خاب من سبح الله، ولا ضاع ولا خسر ولا هلك من سبح الله تعالى.
أيها المسلمون:
للتسبيح ثمار وفوائد مهمة يجنيها كل مسبح في عاجل الأمر وآجله؛ ومن أهم هذه الفوائد والثمار:
♦ حصول المسبح على راحة ورضا النفس، وما أسماها من غاية، وما أعلاها من كرامة، وما أكرمها من منزلة: رضًا في الدنيا والآخرة!
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130]، فهل تريد الرضا النفسي؟ تريد أن يرضيك الله؟ طبق هذه الآية بحذافيرها، بتسبيحك في الليل والنهار: قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وفي آخر الليل وفي أول النهار.
♦ ومن فوائد وثمار التسبيح أنه خير من الدنيا وما فيها:
خير من عقارات الدنيا وأموالها، وذهبها وفضها، ولؤلؤها وزبرجدها، وياقوتها ومرجانها... والثواب المترتب على التسبيح أكثر من ثواب من تصدق بجميع الدنيا؛ كما أخبر بذلك الحبيب صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)).
♦ ومن فوائد وثمار التسبيح أنه علاج للصدور وترياق للأنفس والقلوب:
علاج للقلق، علاج للوساوس، علاج للهموم، علاج للأحزان، علاج للأوجاع والآلام، علاج لضيق الصدر؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [الحجر: 97]، وهذا الضيق يحتاج لبلسم شافٍ وترياق كافٍ وعلاج وافٍ وهو: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 98].
♦ ومن فوائد وثمار التسبيح أنه وسيلة لكسب الحسنات وحط الخطايا وإن كثرت:
ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)).
وفي الحديث الآخر لأبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأتِ أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)).
وفي الحديث الذي حسنه الألباني، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: سبحان الله مائة مرة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، كان أفضل من مائة بدنة)).
أحبتي الكرام:
ونختم خطبتنا بما أخبرنا به القرآن الكريم عن نبي الله يونس عليه السلام الذي التقمه الحوت؛ فقال الله عنه: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [الصافات: 143، 144]، ماذا كان يقول في تسبيحه؟ اسمعوا ماذا قال تعالى عن تسبيحه: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، فإذا ما حلت بك نائبة فكن من المسبحين، في الليل سبح، وفي النهار سبح، في اليسر سبح، وفي العسر سبح.
اللهم اجعلنا ممن يسبحونك كثيرًا، ويذكرونك كثيرًا بكرة وأصيلًا، يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين.
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.