عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 04-06-2021, 04:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,269
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فلسفة الموت والحياة في معلقة طرفة بن العبد

فَلَوْ كُنْتُ وَغْلاً فِي الرِّجَالِ لَضَرَّنِي

عَدَاوَةُ ذِي الأَصْحَابِ وَالْمُتَوَحِّدِ




وَلَكِنْ نَفَى عَنِّي الرِّجَالُ جَرَاءَتِي

عَلَيْهِمْ وَإِقْدَامِي وَصِدْقِي وَمَحْتِدِ




لَعَمْرُكَ مَا الأَيَّامُ إِلاَّ مُعَارَةٌ

فَمَا اسْطَعْتَ مِنْ مَعْرُوفِهَا فَتَزَوَّدِ




سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً

وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ




وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ

بَتَاتًا وَلَمْ تَضْرِبْ لَهُ وَقْتَ مَوْعِدِ




عَنِ الْمَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ

فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي







(2)


بعد أن عرضنا القصيدة، والظُّروفَ الموضوعيَّة التي أحاطت بها وبكاتبها، من خلال تقسيمها إلى مقاطع سبعة، وإعطاء كلِّ مقطعٍ عنوانًا من واقع الظَّرف الموضوعي الذي أملاه، أو الموضوع الذي يتخلَّله، نودُّ أن نشير إشارة سريعة إلى أنَّ مناهج النقد الأدبي قد اختلفَت فيما بينها حول الوظيفة التي يؤدِّيها النقد للعمل الأدبي، إلاَّ أن القليل منها هو الذي انصبَّت وظيفتُه على تفسير العمل الأدبي وتقييمه، من خلال لغة العمل نفسه، بينما دارت باقي المُحاولات النقديَّة حول النص.



وإذا كان الأدَبُ - ومنه القصيدة - تعبيرًا عن الحدْس بالأشياء، وكان النَّقد ينصبُّ على الدراسة الثقافية لذلك التعبير؛ فقد تنوَّعَت مناهجُ النقد الأدبي، وتنوَّعَت - تبعًا لها - الوظيفةُ التي يقوم بها الناقدُ بحسب المنهج الذي يتبعه، إلاَّ أن هناك اتجاهًا من الاتجاهات النقدية الحديثة يركِّز على تفسير النص الأدبي، وإبراز عطاءاته من خلال لغة النَّص نفسه، بل ويغالي في سبيل ذلك، فيصل إلى حدِّ اعتبار مؤلِّف النص، أو كاتبه عنصرًا ثانويًّا في اكتشاف ما يدلُّ عليه النصُّ، وما يمكن أن ينتج عنه بشكل موضوعي.



كذلك نود أن نشير إلى أن كثيرًا من الدراسات التي تناوَلَت الشِّعر الجاهليَّ قد دارت حول النصِّ، ولم تنفُذْ إلى النصِّ ذاته، بل نظرت له من الخارج بحسب مجموعة الموضوعات التي تناولَتْها القصيدة.



ومن هنا ظهر مفهوم الأغراض الذي قسم القصيدة إلى أقسام، كل قسم يتناول غرضًا من الأغراض المذكورة، وأصبحت القصيدة الجاهلية في نموذجها المثالي محددة بعدد من الأغراض: الوقوف على الأطلال - الغزل - وصف الناقة - وصف الليل - وصف الفرس - وصف الرحلة في الصحراء - وصف المطر...



إلى آخر ما هنالك من الأغراض التي رأى النقد - وبخاصة أصحاب الاتجاه النفسي - أنها أدَّت إلى فقدان القصيدة للوحدة الموضوعيَّة، والوحدة العضوية، والوحدة النفسية، والوحدة الفنية؛ وذلك بحسبان أنَّ هذه المفاهيم يجب أن تكون واضحةً في القصيدة.



ولقد ظهر عددٌ من الدراسات التي حاولت أن تنحو منحًى جديدًا في دراسة الشعر الجاهلي، وذلك بالتركيز على النص الشعري، واستنطاقه؛ للوصول إلى ما يحتويه من القيم الجمالية والفكرية، وغيرها.



لقد كان هدف هذه الدراسات هو لغةَ النصِّ الشعري الذي يحوي - في رأي هؤلاء النفر من النقَّاد - المضمونَ الحقيقيَّ للقصيدة، هذا المضمون الذي يتمثَّل في إظهار روح واحدة، ووحدة نفسيَّة وفكرية واحدة، تُهيمن على القصيدة.



وبالنظر إلى حياة "طَرفة" الذي عانى اليُتم صغيرًا، وعَرف معنى الموت بفقد أبيه - يمكن أن نجد مفتاحًا يبين ملامح فلسفة خاصة، نستقيها من القصيدة، مستمدة في الأصل من تجربة "طرفة" الشخصية، التي تدس بين ثنايا القصيدة مشكلة الروح العام لها، ومظهرة جوًّا نفسيًّا واحدًا يهيمن على القصيدة رغم مقاطعها المتنوعة وأغراضها المتعددة، هذه الروح العامة هي التي تشكِّل وحدة الجو النفسي، وتبدأ من أول أبيات القصيدة بذلك التقليد الفني الذي درج عليه كثير من القصائد الجاهليَّة، وهو الوقوف على الأطلال:



لِخَوْلَةَ أَطْلاَلٌ بِبَرْقَةِ ثَهْمَدِ

تَلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ




بِرَوْضَةِ دَعْمِيٍّ فَأَكْنَافِ حَائِلٍ

ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكِي وَأُبْكِي إِلَى الغَدِ




وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ

يَقُولُونَ لاَ تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَلَّدِ








إن "طرفة" الذي يفتتح المعلقة بهذه المقدمة الطَّلَلية يتحدث عمَّا حدث في لقائه مع الأطلال، بعد وصفها ذلك الوصف الذي جاء عند غير واحد من شعراء الجاهلية: الطلل، وشم أو كتابة تكاد أن تكون قد انمحَت وضاعت معالمها "كباقي الوشم"، كما أن "طرفة" لا يطلب من رفقائه الوقوف للبكاء، كما فعل امرؤ القيس: "قفا نبك"، بل إنه ينخرط بالفعل في البكاء، ويرتبط فعل البكاء بالفعل "ظل": "ظللت بها أبكي"؛ ليفيد امتداد حالة البكاء فترة من الزمن، حتى إن صحبه وقد رأوه قد اشتد في البكاء، وسيطر عليه الأسى - يرقون له، ويشفقون عليه، إنهم وإن شاركوه الأسى - وربما قد شاركوه البكاء أيضًا - ينبهونه إلى أن البكاء يجب ألا يصل إلى حد الهلكة؛ أسًى، "يقولون: لا تهلك أسًى وتَجَلَّد".



وهو في موقفه هذا عن الأطلال يتذكر صاحبته (المالكية)، ولعله لقب لـ"خولة" بعد أن ذكرها بالاسم، وفي الانتقال من ذِكر اللقب بعد الاسم - استعادةٌ لصاحبة تلك الذكرى:



كَأَنَّ حُدُوجَ الْمَالِكَيَّةِ غُدْوَةً

خَلاَيَا سَفِينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَدِ




عَدَوْلِيَّةٌ أَوْ مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ

يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي




يَشُقُّ حَبَابَ الْمَاءِ حَيْزُومُهَا بِهَا

كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ الْمُفَايِلُ بِاليَدِ








إن الصورة التي يرسمها الشاعر لرحيل محبوبته، وما هي فيه من الهوادج مع صاحباتها، مخلفة المكان التي كانت به أطلالاً خرساء، وهي صورة السفن التي تشقُّ عباب الماء، يعرضها الشاعر في ثلاثة أبيات على طريقة الترشيح؛ فبعد أن شبَّه الهوادج بالسُّفن، يسترسل في تأمُّل الصورة، ولعل في ذلك نوعًا من الاسترجاع لتفاصيل الوداع بلحظاته التي انطوت على قدرٍ كبير من المشاعر التي يختلط فيها الحزن بالدَّهشة بالأسى، وهو ما جعل الشاعر يطيل في حركة الهوادج التأمُّلَ وضرب المثال.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.79%)]