
18-06-2021, 12:32 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,221
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (6)
صـ67 إلى صـ79
[ ص: 67 ] وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْمَطْلُوبِ قَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ تَقْرِيبِيٌّ يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ طَرِيقٌ لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَإِنْ فُرِضَ تَحْقِيقًا .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ ; فَهُوَ الْمَطْلُوبُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ ، كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْرِهِ ، أَوْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ ; فَقِيلَ : إِنَّهُ هَذَا الَّذِي أَنْتَ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْ مَعْنَى التَّخَوُّفِ فَقِيلَ : هُوَ التَّنَقُّصُ ، أَوْ مَعْنَى الْكَوْكَبِ فَقِيلَ : هَذَا الَّذِي نُشَاهِدُهُ بِاللَّيْلِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ; فَيَحْصُلُ فَهْمُ الْخِطَابِ مَعَ هَذَا الْفَهْمِ التَّقْرِيبِيِّ حَتَّى يُمْكِنَ الِامْتِثَالُ .
وَعَلَى هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ فِي الشَّرِيعَةِ ; كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ ، وَغَمْطُ النَّاسِ ; فَفَسَّرَهُ بِلَازِمِهِ الظَّاهِرِ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَكَمَا تُفَسَّرُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ بِمُرَادِفَاتِهَا لُغَةً ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَظْهَرَ فِي الْفَهْمِ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ [ ص: 68 ] السَّلَامُ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمُورِ ، وَهُوَ عَادَةُ الْعَرَبِ ، وَالشَّرِيعَةُ عَرَبِيَّةٌ ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أُمِّيَّةٌ ; فَلَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْبَيَانِ إِلَّا الْأُمِّيُّ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مَشْرُوحًا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
فَإِذًا التَّصَوُّرَاتُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هِيَ تَقْرِيبَاتٌ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَمَا قَامَ مَقَامَهَا مِنَ الْبَيَانَاتِ الْقَرِيبَةِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : - وَهُوَ مَا لَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ - ; فَعَدَمُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْجُمْهُورِ أَخْرَجَهُ عَنِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ ; لِأَنَّ مَسَالِكَهُ صَعْبَةُ الْمَرَامِ ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ الْحَجِّ : 78 ] كَمَا إِذَا طُلِبَ مَعْنَى الْمَلِكِ ، فَأُحِيلَ بِهِ عَلَى مَعْنًى أَغْمَضَ مِنْهُ ، وَهُوَ مَاهِيَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْمَادَّةِ أَصْلًا ، أَوْ يُقَالُ : جَوْهَرٌ بَسِيطٌ ذُو نِهَايَةٍ وَنُطْقٍ عَقْلِيٍّ ، أَوْ طُلِبَ مَعْنَى الْإِنْسَانِ فَقِيلَ : هُوَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ الْمَائِتُ ، أَوْ يُقَالُ : مَا الْكَوْكَبُ ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ جِسْمٌ بَسِيطٌ كُرِيٌّ ، مَكَانُهُ الطَّبِيعِيُّ نَفْسُ الْفَلَكِ ، مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُنِيرَ ، مُتَحَرِّكٌ عَلَى الْوَسَطِ ، غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَيْهِ ، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْمَكَانِ ; فَيُقَالُ : هُوَ السَّطْحُ الْبَاطِنُ مِنَ الْجِرْمِ الْحَاوِي ، الْمُمَاسُّ لِلسَّطْحِ الظَّاهِرِ مِنَ الْجِسْمِ الْمَحْوِيِّ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ ، وَلَا يُوصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ أَزْمِنَةٍ فِي طَلَبِ تِلْكَ الْمَعَانِي ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى هَذَا ، وَلَا كَلَّفَ بِهِ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ هَذَا تَسَوُّرٌ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ ، وَقَدِ اعْتَرَفَ أَصْحَابُهُ [ ص: 69 ] بِصُعُوبَتِهِ ، بَلْ قَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُتَعَذِّرٌ ، وَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوا أَنْ لَا يُعَرَّفَ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ ; إِذِ الْجَوَاهِرُ لَهَا فُصُولٌ مَجْهُولَةٌ ، وَالْجَوَاهِرُ عُرِّفَتْ بِأُمُورٍ سَلْبِيَّةٍ ; فَإِنَّ الذَّاتِيَّ الْخَاصَّ إِنْ عُلِمَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَاهِيَّةِ لَمْ يَكُنْ خَاصًّا ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ، فَكَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لِلْحِسِّ فَهُوَ مَجْهُولٌ ; فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ الْخَاصُّ بِغَيْرِ مَا يَخُصُّهُ فَلَيْسَ بِتَعْرِيفٍ ، وَالْخَاصُّ بِهِ كَالْخَاصِّ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا ; فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى أُمُورٍ مَحْسُوسَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ، وَذَلِكَ لَا يَفِي بِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ ، هَذَا فِي الْجَوْهَرِ ، وَأَمَّا الْعَرَضُ ; فَإِنَّمَا يُعَرَّفُ بِاللَّوَازِمِ ; إِذْ لَمْ يَقْدِرُ أَصْحَابُ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَيْضًا ; مَا ذُكِرَ فِي الْجَوَاهِرِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الذَّاتِيَّاتِ لَا يَقُومُ الْبُرْهَانُ عَلَى أَنْ لَيْسَ ذَاتِيٌّ سِوَاهَا ، وَلِلْمُنَازِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِلْحَادِّ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ ثَمَّ وَصْفٌ آخَرُ لَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ ; إِذْ كَثِيرٌ مِنَ الصِّفَاتِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا : لَوْ كَانَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ آخَرُ مَا عُرِفَتِ الْمَاهِيَّةُ [ دُونَهُ ] ; لِأَنَّا نَقُولُ : إِنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ إِذَا عُرِفَ جَمِيعُ ذَاتِيَّاتِهَا ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ ذَاتِيٌّ لَمْ يُعْرَفْ ، حَصَلَ الشَّكُّ فِي مَعْرِفَةِ الْمَاهِيَّةِ .
فَظَهَرَ أَنَّ الْحُدُودَ عَلَى مَا شَرَطَهُ أَرْبَابُ الْحُدُودِ يَتَعَذَّرُ الْإِتْيَانُ بِهَا ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا فِيهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى تَقَرَّرَ ، وَهُوَ أَنَّ مَاهِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ لَا يَعْرِفُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا بَارِيهَا ; فَتَسَوُّرُ الْإِنْسَانِ عَلَى [ ص: 70 ] مَعْرِفَتِهَا رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ ، هَذَا كُلُّهُ فِي التَّصَوُّرِ .
وَأَمَّا [ فِي ] التَّصْدِيقِ ; فَالَّذِي يَلِيقُ مِنْهُ بِالْجُمْهُورِ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُ الدَّلِيلِ فِيهِ ضَرُورِيَّةً أَوْ قَرِيبَةً مِنَ الضَّرُورِيَّةِ ، حَسْبَمَا يَتَبَيَّنُ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ ، وَقُوَّتِهِ .
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; فَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ طَلَبُهُ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ الْقُرْآنُ عَلَى أَمْثَالِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [ النَّحْلِ : 17 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [ يس : 79 ] إِلَى آخِرِهَا .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [ الرُّومِ : 40 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الْأَنْبِيَاءِ : 22 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [ الْوَاقِعَةِ : 58 - 59 ] .
وَهَذَا إِذَا احْتِيجَ إِلَى الدَّلِيلِ فِي التَّصْدِيقِ ، وَإِلَّا فَتَقْرِيرُ الْحُكْمِ كَافٍ ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مَرَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ فِي بَثِّ الشَّرِيعَةِ لِلْمُؤَالِفِ وَالْمُخَالِفِ ، وَمَنْ نَظَرَ فِي اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ عَلِمَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا أَيْسَرَ الطُّرُقِ ، وَأَقْرَبَهَا إِلَى عُقُولِ الطَّالِبِينَ ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ مُتَكَلَّفٍ ، وَلَا نَظْمٍ مُؤَلَّفٍ ، بَلْ كَانُوا يَرْمُونَ بِالْكَلَامِ عَلَى عَوَاهِنِهِ ، وَلَا يُبَالُونَ كَيْفَ وَقَعَ فِي [ ص: 71 ] تَرْتِيبِهِ ، إِذَا كَانَ قَرِيبَ الْمَأْخَذِ ، سَهْلَ الْمُلْتَمَسِ ، هَذَا وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى نَظْمِ الْأَقْدَمِينَ فِي التَّحْصِيلِ ; فَمِنْ حَيْثُ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ إِيصَالَ الْمَقْصُودِ ، لَا مِنْ حَيْثُ احْتِذَاءُ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ .
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُرَتَّبًا عَلَى قِيَاسَاتٍ مُرَكَّبَةٍ أَوْ غَيْرِ مُرَكَّبَةٍ ، إِلَّا أَنَّ فِي إِيصَالِهَا إِلَى الْمَطْلُوبِ بَعْضَ التَّوَقُّفِ لِلْعَقْلِ ; فَلَيْسَ هَذَا الطَّرِيقُ بِشَرْعِيٍّ ، وَلَا تَجِدُهُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَا فِي السُّنَّةِ ، وَلَا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الصَّالِحِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مَتْلَفَةٌ لِلْعَقْلِ وَمَحَارَةٌ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ بِخِلَافِ وَضْعِ التَّعْلِيمِ ، وَلِأَنَّ الْمَطَالِبَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ وَقْتِيَّةٌ ، فَاللَّائِقُ بِهَا مَا كَانَ فِي الْفَهْمِ وَقْتِيًّا ، فَلَوْ وُضِعَ النَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ غَيْرَ وَقْتِيٍّ ; لَكَانَ مُنَاقِضًا لِهَذِهِ الْمَطَالِبِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الْإِدْرَاكَاتِ لَيْسَتْ عَلَى فَنٍّ وَاحِدٍ ، وَلَا هِيَ جَارِيَةٌ عَلَى [ ص: 72 ] التَّسَاوِي فِي كُلِّ مَطْلَبٍ إِلَّا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا قَارَبَهَا ; فَإِنَّهَا لَا تَفَاوُتَ فِيهَا يُعْتَدُّ بِهِ فَلَوْ وُضِعَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ هَذَا الْمَطْلَبُ ، وَلَكَانَ التَّكْلِيفُ خَاصًّا لَا عَامًّا ، أَوْ أَدَّى إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَوْ مَا فِيهِ حَرَجٌ ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى .
[ ص: 73 ] كُلُّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ فَطَلَبُ الشَّارِعِ لَهُ إِنَّمَا يَكُونُ [ مِنْ ] حَيْثُ هُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى التَّعَبُّدِ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى ، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ; فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ اعْتِبَارُ جِهَةٍ أُخْرَى فَبِالتَّبَعِ وَالْقَصْدِ الثَّانِي ، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهَا : مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلُ أَنَّ كَلَّ عِلْمٍ لَا يُفِيدُ عَمَلًا ; فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ غَايَةٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ ; لَكَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرَعَا ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَحْسَنًا شَرْعًا ; لَبَحَثَ عَنْهُ الْأَوَّلُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، [ ص: 74 ] وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَمَا يَلْزَمُ عَنْهُ كَذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ بِالتَّعَبُّدِ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بِعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [ النِّسَاءِ : 1 ] .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [ هُودِ : 1 - 2 ] .
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [ إِبْرَاهِيمِ : 1 ] .
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [ الْبَقَرَةِ : 2 ] .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [ الْأَنْعَامِ : 1 ] ; أَيْ يُسَوُّونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ ، فَذَمَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ الْمَائِدَةِ : 92 ] .
لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [ الْكَهْفِ : 2 ] .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الْأَنْبِيَاءِ : 25 ] .
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 2 - 3 ] .
[ ص: 75 ] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى ، كُلُّهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ ، وَإِنَّمَا أُوتُوا بِأَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ لِيَتَوَجَّهُوا إِلَى الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ مُحَمَّدٍ : 19 ] .
وَقَالَ : فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ هُودٍ : 14 ] .
وَقَالَ : هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [ غَافِرٍ : 65 ] .
وَمَثَلُهُ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي نُصَّ فِيهَا عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ، لَا بُدَّ أَنْ أُعْقِبَتْ بِطَلَبِ التَّعَبُّدِ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، أَوْ جُعِلَ مُقَدِّمَةً لَهَا ، بَلْ أَدِلَّةُ التَّوْحِيدِ هَكَذَا جَرَى مَسَاقُ الْقُرْآنِ فِيهَا أَلَّا تُذْكَرَ إِلَّا كَذَلِكَ ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ التَّعَبُّدَ لِلَّهِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِلْمِ ، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تُحْصَى .
وَالثَّالِثُ : مَا جَاءَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ رُوحَ الْعِلْمِ هُوَ الْعَمَلُ ، وَإِلَّا فَالْعِلْمُ عَارِيَةٌ ، وَغَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فَاطِرٍ : 28 ] .
وَقَالَ : وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [ يُوسُفَ : 68 ] .
قَالَ قَتَادَةُ : يَعْنِي لَذُو عَمَلٍ بِمَا عَلَّمْنَاهُ .
[ ص: 76 ] وَقَالَ تَعَالَى : مَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ . . . إِلَى أَنْ قَالَ : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الْآيَةَ [ الزُّمَرِ : 9 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [ الْبَقَرَةِ : 44 ] .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ [ الشُّعَرَاءِ : 94 ] ; قَالَ : قَوْمٌ وَصَفَوُا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ، وَخَالَفُوهُ إِلَى غَيْرِهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : إِنَّ فِي جَهَنَّمَ أَرْحَاءَ تَدُورُ بِعُلَمَاءِ السُّوءِ ، فَيُشْرِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ فِي الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : مَا صَيَّرَكُمْ فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا كُنَّا نَتَعَلَّمُ مِنْكُمْ ، قَالُوا : إِنَّا كُنَّا نَأْمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ وَنُخَالِفُكُمْ إِلَى غَيْرِهِ .
[ ص: 77 ] وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إِنَّمَا يُتَعَلَّمُ الْعِلْمُ لِيُتَّقَى بِهِ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا فُضِّلَ الْعِلْمُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُتَّقَى اللَّهُ بِهِ .
وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسِ خِصَالٍ ، وَذَكَرَ فِيهَا : وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ .
[ ص: 78 ] وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ : " إِنَّمَا أَخَافَ أَنْ يُقَالَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَعَلِمْتَ أَمْ جَهِلْتَ ، فَأَقُولُ : عَلِمْتُ ، فَلَا تَبْقَى آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آمِرَةٌ أَوْ زَاجِرَةٌ إِلَّا جَاءَتْنِي تَسْأَلُنِي فَرِيضَتَهَا ، فَتَسْأَلُنِي الْآمِرَةُ : هَلِ ائْتَمَرْتَ ؟ وَالزَّاجِرَةُ : هَلِ ازْدُجِرْتَ ؟ فَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ، [ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ] ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ " .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ أَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ [ ص: 79 ] الْقِيَامَةِ ، قَالَ فِيهِ : وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، فَقَالَ : مَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ الْقُرْآنَ ، قَالَ : كَذَّبْتَ ، وَلَكِنْ لِيُقَالَ : فُلَانٌ قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ .
وَقَالَ : إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|