فهذه الصّورة المبهمة والغامضة للشرقي سمحت للغرب بأن يُسقط الجانب السلبي فيه ويرمي به على الشّرق، خصوصا صفة الشّبق الجنسي والعنف المتأصّل. فهـاهو ذا أحد الكتّاب الغربيين (ريموند شواب Raymond Schwab) "يعتبر بأنّ كلمة شرقي كانت مرادفا لِـ"غريـب" و"غامض" وعميـق ومَنَـوي"[21].
وما هذه المقولة من وجهة التحليل النفسي إلاّ تعبير عن نفسية الأوروبي، إذ إنّ الكثير من دوافعنا وغرائزنا الفطرية (بما فيها غريزة الجنس) - بعدما تُكبت في اللاشعور ولا يُسمح لها بالظهور في الوسط الاجتماعي – تتّخذ لها أشكالا أخرى وطرقا غير مباشرة فتصبح بذلك غامضة وعميقة عن شعـور الفرد وخصوصا عن الأنـا الأعلى (Sur-Moi) الّذي هو الرّقيب الأخلاقي في الشخصية، وذلك حتّى تجد لها متنفَّسا في المجتمع أو وسيلة تظهر فيها بشكل تقبله القيم الاجتماعية والخلقية. ولعلّنا لا نبتعد عن المنطق إذا ما قلنا إنّ إطلاق صفة "منوي" أو "جنسي" على الإنسان الشّرقي الّذي هو غامض ومبهَـم ما هي إلاّ عملية إسقـاط[22] (Projection) للجانب السلبي (الجنسي) في شخصية الغربي على الشّرقي؛ لأنّه - الأوروبي- لا يمكن أن يعترف بها بينه وبين نفسه. فهذه الدوافع الجنسية غامضة في شخصيته غموض الشّرقي وغريبة وعميقة في الوقت نفسه غرابة ذلك الشرقي وعمقه كذلك، ممّا يجعل الغربي يحسّ بالدونية والنقص إذا ما اعترف بهذه الميول الجنسية؛ وهذا ما يجعله يُسقط ويرمي بهذه الصّفات - الّتي تَحُطُّ من شأنه - على الآخر (الشّرقي).
فالكبت الجنسي الّذي كان يعاني منه الغربي جعله يصف الإنسان الشّرقي بالشّبـق الجنسي، وذلك حتّى يجد له تفريغا ومتنفّسا عمّا يَكبته ويرغب فيه. ولعلّ أصدق دليل على ذلك ما كان يمارسه الرّحّالة الأوروبيون من مُتع جنسية في الشّرق حينما يجدون الفرصة للتعبير عن هذا الكبت - الّذي يعانون منه - خارج مجتمعهم وأهلهم. ومن بين هؤلاء الرّحّالـة (بورتون Burton) إذ "كانت الحرية الجنسية واحدة من حريات تطّلع إليها: ففي الهند مارس (بورتون) أوّل اتّصال جنسي كامل له، وكما فعل أكثر أقـرانه، بحث عن خدمات امرأة محليّة تُلبّي له... احتياجاته المادية دون أن يلتزم حيالها بأيّ ربـاط أدبي أو عاطفي، وبذلك تكون هي مدبّرة منزله وهي متنفّـسه الجنسي جميعا"[23].
كما يجب أن ننتبه إلى أنّ المفكّرين الغربيين - حتّى هم كذلك - لم يروا من الشّرق إلاّ ما أراد هذا الشّرق أن يبديه لهم، أو بالأحرى ما أرادهم أن يبحثوا عنه فيه، بعملية اصطفائية "غير علمية ولا موضوعية". وفي الحالين أنشأ هؤلاء صورة للشرق إنشاءً يعتمد على ما ترسّب في الذاكرة الجمعية الغربية من مقولات، وعلى ما صنعه الخيال الشعبي من تصوّرات، شكّلت الفضاء لمجمل الأفكار الغربية، وشكّلت بالتّالي أداة ضغط لم يستطع المفكّرون الغربيون الفكاك من إسارها، أو التّحرّر من ربقتها. وهكذا كان هؤلاء يرون ما أسقطه اللاّوعي عندهم، أكثر مما يرون بأعينهم ومنطقهم العقلي، فيقومون بعملية انتقائية فجّة لما جاؤوا يبحثون عنه. فالشّرق عند بعضهم موطن الحكمة، وبلاد شهرزاد وشهريار، والسندباد، وشعبه مجموعة من الشعراء والحكماء والفلاسفة. بينما كان عند آخرين بلاد التّخلّف، والجمود، والسّكون، وشعبه مجموعة من الكسالى، والمتعصّبين، المحبّين للعنف والمتعطّشين للدّماء. وفي الحالين- وكما يبدو واضحاً- فإنّ الشّرق عبارة عن عناصر مشتّتة، منمَّطة، لا رابط بينها، تمثّل لحظات معزولة من سياقها الموضوعي، لخدمة الأفكار المسبقة الّتي تتحكّم بهؤلاء الباحثين وبأبحاثهم[24].
ومن هنا نستطيع القول بأنّ الشّرق قد حقّق كلَّ الاحتياجات الّتي أرادها الغرب منه، سواء الاحتياجات النّفسية منها أو الدينية أو الاجتماعية. فكلمة "شـرق" تُثير فورا تداعيات كثيرة في ذهنية الأوروبي مثـل: الشّرقي المسلم، المحتال، ألف ليلة وليلة، الصّحراء، الرقص، الحروب الصليبية، الإنجيل، الجواري، الحريم ...إلخ.
ومع هذا كلّه، فمن الإنصاف أن نذكـر بأنّه قد ظهر من الأوروبيين مَن اعترف بعظمة الشّرق؛ "فبعد دراسته للّغة العربية، اعترف "هيـردر Herder 1803-1744) بعظمة اللغات السّامية وأهمّها العربية والعبرية والآرامية والحبشية. واطَّلع على أمثلـة قليلـة من الشعر العربي، فظهر له أنّ الشعر أجمل تعبير عن ثقافة شعب من الشعوب"[25]. لكنّ الملاحظة الّتي يمكن أن نضيفها هنا وهي أنّه مع هذا الاعتراف الموضوعي والنّزيه إلاّ أنّ هذا القول مع غيره من الأقوال، جاء ليرسم صورة أخرى عن الشّرقي، وإن كانت في الحقيقة صحيحة فهي من خلال التأويلات المتعمّدة من بعض الغربيـين، أخذت منحىً آخر من التشويه: فهي صورة الشّرقي الّذي يعشق الشعر وينشده بل ويجعله ترجمان أحاسيسه الدفينة وعواطفه الجياشة مثل عاطفة الحب. فأشعـار العرب على وجه الخصوص مليئة بالغزل والحب. لكنّ بعض التأويلات المتعمّدة من الغرب جعلت الشعر العربي محصورا فقط في الحبّ والغزل والمجون وطلب اللذّة لتصل إلى أنّ الشّرقي جنسي حتّى في شعره يبحث عن اللّذات الحسّية.
ولا يمكننا أن نختـم هذه الدّراسة دون التّعرّض إلى أحد أهمّ المفكّرين الغربيين المعاصرين الّذين اعترفوا بعظمة الشّرق وفضحوا خرافات بلدانهم وأساطيرها الخاصّة بمدنية الغرب وحضارته ودونية الشعوب الشّرقية. هذا المفكر الغربي هو "روجيـه غـارودي"؛ فهو يعيب على بلاده النظرة الأحادية الّتي بها تحكم على الحضارات الأخرى فتَسـمُها بالتخلُّف والبدائية لأنّها لم تُساير طريقتها وتَتَّبع منهجها فيقول: "إنّ الغرب ينصِّب نفسه قاضيا على جميع الحضارات الأخرى- لأنّـه يعتبر أنّ المسار الّذي يتبعه مثالي وأنّه المسار الوحيد الممكن- ويحكم بالتّالي على شعب وحضارة وعلم أو تقنية بأنّها بدائية أو نامية أو متخلّفة، وفقا لنقطة وجودها على هذا المسار، أي وفقا لكثرة أو قلّة تشابهها معها"[26]. بل إنّ هذا المفكر الشجاع لَيسخر من المؤرخين الغربيين حينما يطلقون لفظة "الغـزوات البـربرية" على غزوات البرابرة لروما وسقوطها في أيديهم عام 476م وعلى غزوات أخرى، بينما يبدّلون هذه التسمية - وهذا ما يثير عجبه وسخطه - عندما تكون الغزوات من صنع الأوروبيين، فيصبح اسمها "الاكتشافات الكبرى"[27].
ولعلّ هذا أكبر دليل يقدّمه شاهد، على همجية الغرب وأحادية تفكيره وتلاعبه بالمعلومات والأحداث التاريخية الّتي تظهره على أنّه حاملُ الحضارة ومكتشف القارات بينما من جهة أخرى، تُظهر الآخر (الشّرقي) همجيا بدائيا ومتخلّفا. لكنّ هذا المفكّر يحاول أن يُزيل بعض ما لُـفِّق لصورة الشّرقي والحضارة الشّرقية - وخاصة الحضارة الإسلامية - من صفات لا تَمُتُّ إليها بصلـة والّتي ما تزال راسخة في أذهان الكثير من الغربيين. فقد اعترف صراحة بعظمة الحضارة العربية الإسلامية وبمدى تأثيرها على مدنية الغرب إذ يقول في ذلك: "إنّ الحضارة العربية الإسلامية لقّحت الماضي وهيّأت المستقبل طوال ألف سنة. ونقلت إلى أوروبا - عبر إسبانيا وصقيلية - ثقافة حملت مسؤوليتها ألف عام، ومارست تأثيرها على الغرب، بترجمة الآثار الإسلامية إلى اللاتينية... إنّ هذه الآثار الآتية من إسبانيا وصقيلية رسمت منعطفا في رؤية الغرب للعالم"[28].
ومع أنّه قد ظهرت نزعة غربية تحاول فهـم الشّرق من جديد فهْما مبنـيا على الدراسة الموضوعية لثقافته وحضارته فإنّنا يجب ألاّ ننسى بأنّ غالبية روايات الرّحلات الأوروبية عن الشّرق شَابَهها التّحامل وداخَلَها الافتراض. فلا يُنْـكَر بأنّ هذه الروايات أدّت بشكل أو بآخر إلى توسيع معرفة الغرب للعالم؛ إلاّ أنّ هذه المعرفة كانت مشوَّهة خدمت إلى حدّ بعيد الاستعمار ورؤيته الإمبريالية والتسلّطية. وللأسف لا يزال بعض هذا التشويه موجودا بيننا حتّى اليوم بالرّغم من زوال الاستعمار منذ مدّة. ولعلّ أصدق ما يدلّ على بقاء هذه الخلفية الذهنية المشوّهة عن الشّرق لدى الغربيين هو ما يحدث الآن ونحن في القرن الواحد والعشرين، حيث ما يزال الشّرق- والإسلام على وجه الخصوص- يُوسـم بالعنيف والشهواني، بل ظهرت صفة أخرى ألصقـها هؤلاء بالإسلام والمسلمين والّذين هم منها بَراء، هذه الصفة هي الإرهـاب. فإذا كان العـداء للإسلام جزءا لا يتجزَّأ من البنية العقلية للشعوب الغربية والرّحّالة الغربيين في القرون الماضية، فإنّه لا يزال كذلك - ونحن داخلون على الألفية الثالثة - ضمن البنية العقلية للإنسان الغربي ولاشعـوره الجـمعي[29] (Incocscient Collectif) الآن. ولا أَدَلّ على ذلك ما يحدث الآن في البلدان الإسلامية وما يلاقيه المسلمون في العالم من حصار واستئصال تحت غطاء القضاء على الإرهاب الدولي الّذي يمثّله هؤلاء.
[1] ينظر:
Edward Said : L'Orientalisme : l’Orient crée par l’Occident - Traduit par : Catherine Malamoud – Editions du Seuil – Paris – 1980 – p 70.
[2] رنا قباني- أساطير أوروبا عن الشّرق: لَفـّقْ تَسُـدْ- ترجمة: د. صباح قباني- دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر - دمشق- الطبعة الأولى- سنة 1988 - ص 36.
[3] المرجع نفسـه – ص 19.
[4] المرجع نفسـه – ص 19.
[5] ينظر : د. ميجان الرويلي و د. سعد البازعي- دليـل النـاقد الأدبي – المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء (المغرب) وبيروت ( لبنان) - الطبعة الثانية - 2000 - ص30.
[6] ينظر : محمد راتب الحلاق - نحـن والآخـر : دراسة في بعض الثنائيات المتداولة في الفكر العربي الحديث والمعاصر الشّرق/الغرب - التراث/الهوية - الممكن/الواقع- منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق -1997- ص15.
[7] ينظر : رنا قباني- أساطيـر أوروبا عن الشّرق – مرجع سابق - ص 19 و20.
[8] ينظر : المرجع نفسه – ص 19 و 20.
[9] لوحة أوجان دي لاكـروا - Delacroix " موت ساردانا بـالو- La Mort de Sardanapale " الّتي رُسمت ما بين سنتي 1827م و1828م وهي لوحة زيتية على قماش بطول 395 سم وعرض 495 سم، توجد الآن في متحف اللوفر بباريس (Musée du Louvre, Paris).
[10] ينظر: دونكان هيث، جودي بورهام - الـرومـانسيـة - ترجمة: عصام حجازي- مراجعة وإشراف وتقديـم: إمـام عبد الفتاح إمام - المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة - الطبعة الأولى 2002 - ص161.
[11] المرجع نفسـه – ص 46.
[12] المرجع نفسـه – ص 22.
[13] المرجع نفسـه – ص 25.
[14] المرجع نفسـه – ص 25.
[15] Joelle Redouane – L’Orient arabe vu par les voyageurs anglais – Office des Publications Universitaires (O.P.U ) – Alger – 1988 – p 139.
[16] ينظر : رنا قباني - أساطير أوروبا عن الشّرق – مرجع سابق- ص 26.
[17] المرجع نفسـه – ص 27.
[18] ينظر : المرجع نفسـه – ص 27.
[19] ينظر : L'Orientalisme – Edward Saïd - مرجع سابق - ص72.
[20] ينظر: باقر بري - إضاءات على كتاب الإستشراق لإدوار سعيد - دار الهادي للطباعة والنشر - بيروت - الطبعة الأولى 2002 - ص61.
[21] المرجع نفسـه – ص 67-68.
[22] الإسقـاط: Projection: هو عملية هجـوم لاشعـورية يحمي بها الإنسان نفسه من خلال إلصاق عيوبه وأخطائه ونقائصه ورغباته المحرّمة أو المستهجنة بالآخرين. ويمكن اعتبار ذلك عبارة عن لوم للآخرين على ما فشل هـو فيه، بسبب ما يضعونه أمامه من عقبات وما يُوقعونه فيه من زلاّت أو أخطاء. وعلى سبيل المثال إنّني أكره شخصا ما ولكنّي أقول للآخرين هو يكرهني؛ بهذه الطريقة أتخفّف من إثمي. وبالمعنى التحليلي النفسي المحض، يدلّ الإسقاط على العملية الّتي ينبذ فيها الشخص من ذاته بعض الصّفات والمشاعر والرّغبات وحتّى بعض"الموضوعات " الّتي يتنكّر لها أو يرفضها في نفسه، كي يموضعها في الآخر، سواء أكان هذا الآخر شخصا أم شيئا. فالإنسان، إذا زاد ضغط الدوافع أو ضغط المُثُل على ذاته إلى درجة يشعر معها بالقلق والتوتّر، فإنّه يحاول أن يخفّف من هذا العبء النفسي الثقيل وذلك بأن ينسب هذا العبء إلى مصدرٍ في العالم الخارجي.فالفرد الّذي يخاف من نزعاته و ميوله العدوانية والجنسية، تلجأ الأنا داخل ذاته إلى التّخفيف من حدّة هذه الميول ووطأتها حين تنسبها إلى الآخرين، أي أنّ الآخرين هم الّذين يميلون إلى العدوان والجنس، وليس ذات الفرد. لمزيد من التوسع يراجع:
- جان لابلانش، ج . بونتاليس- معجم مصطلحات التّحليل النّفسي- ترجمة: مصطفى حجازي- ديوان المطبوعات الجامعية - الجزائر- الطّبعة الاولى- 1985- ص70.
[23] ينظر : رنا قباني - أساطير أوروبا عن الشّرق – مرجع سابق -ص 84.
[24] ينظر: محمد راتب الحلاق- نحـن والآخـر - مرجع سابق - ص 16 -17.
[25] ينظر : برند مـانوئيل فـايشر - الشّـرق في مـرآة الغـرب - دار سراس للنشر (تونس) وديوان المطبوعات الجامعية - الجزائر - سنة 1983 - ص 65.
[26] روجيه غـارودي – وعــود الإسـلام – الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – الطبعة الأولى 1984 – ص 104.
[27] ينظر : المرجع نفسـه - ص 21.
[28] المرجع نفسـه - ص 139.
[29] اللاشعور الجمعي Incocscient Collectif – هو، بالمعنى الّذي حدّده " يونغ": ما في لاشعور الفرد، ربما يكون من أصل سلفي أي يرجع للأسلاف. وهو مجموع الصفات غير الشعورية الّتي لم يكتسبها الفرد بل هي موروثة. وهي غرائز بما هي حوافز على القيام بأفعال تقتضيها ضرورة ما، دون أن تتدخّل الواعية (الشعور) في استشارتها. فالغرائز، والنماذج البدئية "Archétypes " مجتمعة، تشكّلُ اللاشعور الجمعي والّذي لا يتكوّن من محتويات فردية خاصّة فقط، بل ومن محتويات جماعة أو أمّة أو جنس بشري معيّن ويتكوّن كذلك من محتويات عالمية ذات حدوث نظامي.
لمزيد من التفصيل، يمكن مراجعة:
كمال الدسوقي: ذخيـرة علـوم النـفس – الدار الدولية للنشر والتوزيع – القاهرة، الجزء الأوّل، ص 695.
وكذلك كتاب: كارل غوستاف يونغ :علم النـفس التحليـلي– ترجمة وتقديم: نهاد خياطة - دار الحوار- دمشق- الطبعة الأولى سنة 1985 ص293.