عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 09-07-2021, 03:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,269
الدولة : Egypt
افتراضي مغازلة التاريخ في النص الشعري

مغازلة التاريخ في النص الشعري


علاء عبدالمنعم إبراهيم غنيم







نزعت العقليةُ العربية منذ القِدم إلى إقامة علاقة تآزُر بين فنِّ الشعر من جانب، والأسطورة ومفرداتها المشدودة إلى بلاغة الإغراب وجماليَّات الإدهاش من جانب آخرَ، فما بين شياطين الشعراء وربَّات الشعر وجنِّيَّاته، ودهاليز وادي عبقر ومتاهاته - توزَّعت الرُّؤى المفسِّرة لعملية الإنتاج الشعري، وعلينا ألاَّ نحدِّد أُفق قراءتنا النقديَّة لهذا الاقتران، فننظر إليه بوصفه أحد التجليات الأنثربولوجيَّة للذات العربية، المُفعمة بالإيمان بالغيبيَّات والإحالة إلى المجهول، وإنما ينبغي أن نتلقَّف ما تَطرحه هذه العلاقة التلازُمية من مؤشرات بالغة الأهميَّة، حول رؤية الذات العربية القديمة لفن الشعر، هذه الرُّؤية المؤطَّرة بمظاهر الإعجاب بما تَطرحه النصوص الشِّعرية من قِيَم جمالية: تُجاوز المألوف، وتُفارق المعتاد بما يحوِّلها - على مستوى الاستقبال - إلى نصوص ممسوسة بالحسِّ الأُسطوري، وكأن السياق المُستقبِل من فَرْط إعجابه بالنص الشعري، سعَى إلى مكافأة أصحابه بوضْعهم في طبقة خاصَّة، يُفارقون عبرها طائفة البشريين الذين لا يَملِكون ما يحوزه ساحرو البيان من إمكانات خاصة، تجعلهم يبيتون للحرف بالوصيد، ولا يلقونه إلاَّ والنار مشتعلة، فينجزون خطابهم الشعري الرائق.



إنَّها القَداسة الممنوحة المغازلة للنَّزق الشعري، والمتآلفة مع طبيعته المتأبِّية على الكبْحِ والترويض، ولأنَّ الشُّعراء قد وجدوا في هذه التفسيرات ما يُلبِّي بعضًا من طموحهم الثائر، ويرضي نذرًا يسيرًا من غرورهم المستحق؛ فقد سَعوا إلى ترسيخ هذا التلازم الثنائي عبر آليات متباينة، ينحو بعضها إلى التلفُّح بالسِّمة المباشرة، كالزعم بمصادقة الشياطين، والوقوع في غرام جنِّيَّات الشعر، أو عبر طريقة أقل مباشرة - وإن كانت أكثر دَلالة - تتمثَّل فيما ينتجونه من نصوص تَستثير ذائقة الذات المستقبلة، وتُحفزها إلى الإيمان بحدود المفارقة بين اللغة الشعرية ونظيرتها التداوليَّة.



ويُعَدُّ الدكتور عبداللطيف عبدالحليم (أبو همَّام) واحدًا من أكثر شعراء العربية المعاصرين إخلاصًا لهذا الفن العَصِي على البوح، وأشدهم تمسُّكًا بمفهوم الشعر المجاوز لفكرة الثورة على الشكل دون المضمون، مؤمنًا أنَّ حرية الشعر لن تتحقَّق بتحطيم أُطره وهَدْم أعمدته، وإنما بقُدرته على اجتراح قِيَمٍ دَلالية وجمالية جديدة، ولأن ربَّة الشعر قد تتدلَّل على عُشَّاقها الحقيقيين، ولكنها لا تُغفلهم؛ فقد بادَلت شاعرنا الكبير حبًّا بحبٍّ، وإخلاصًا بإخلاصٍ، فاختارَتْه؛ ليَفترعَ دَلالاتها الخِصْبة، ويرتوي من ماء الشعر العذب، ولأن شاعرنا خبيرٌ بمفاتن النصوص ورائحة شهوتها النافذة، فإنه لَم يُفوِّت هذه الفرصة، فهمَّ بها وهمَّت به؛ ليُنتجا نصوصًا بالغة الجمال والألقة، تَحفظ للشعر الحقيقي نَسْله وامتدادَه الأسطوري، ليغدو أبو همَّام الصوت الشعري الرصين المحتفِظ للشعر الموزون المقفَّى بمكانته الشامخة، وسط رُكام من التيَّارات الشِّعريَّة الثائرة والمتمرِّدة، والمعادية - في كثير من الأحيان - للشعر في صورته التراثيَّة.



وعلى الرغم مِن اتساع تجربة أبي همَّام الشعرية وامتدادها إلى ما يَقرُب من الخمسين عامًا، وتغلغُلها في التراث وانتهالها منه، فإنها ما تزال تحتفظ بوَهَج طزاجة التجربة، والأغرب أنَّ إفادة أبي همَّام من التراث وما يشتمل عليه من نماذج إنسانية، وشخصيَّات ذات حضور مرجعي محُدد، تزيد من إفعام نصوصه بالحيويَّة التي تُجدِّد الدماء في عروقها، فلا نستشعر يبوستها على الإطلاق، وتحقنها بالقِيَم الجمالية المُستجيبة لطموح المتلقِّي المعرفي، والمخاطبة لتجربته في التعامل مع النصوص المعطَّرة برحيق الأسطورة الشعرية، فنُلفيه في كثيرٍ من الأحيان يَلتقط بجسارة حدَثًا مؤطرًا بغياهب الماضي، ومُدثرًا بعتمة الانزواء؛ ليعيد هيكلته، مستدعيًا مهارته في تخطيط النصوص وتعميرها، فيبث رُوح الفن فيه؛ ليُخرج لنا نصًّا يتألَّق في حُلَّته الشعرية الزاهية، إنها الخبرة المُعتقة للشيخ الحكيم صاحب "أغاني العاشق الأندلسي"، و"لزوميات وقصائد أخرى"، و"هدير الصمت"، و"زهرة النار"، و"مقام المنسرح"، و"الخوف من المطر"، و"صائد العنقاء"، العليم بدروب المتاهات الشعرية، والمتمكِّن من السَّيْر بين مُنعقداتها النصيَّة بمهارة وثقة، والنجاة من فِخَاخها برصانة، والانعتاق من أَسْر غواية اجترار السابق وتَكراره بيُسر وبساطة، مستعينًا في هذا كله بوعيه الحقيقي والصادق بقيمة النص الشعري؛ لهذا يَصير الرهان النقدي الدائم على إبداع أبي همَّام رهانًا يَملِك مقوماته ومُغرياته التي يَصعُب أن ينفلتَ من غوايتهما الناقدُ.



وتسعى هذه الدراسة إلى مقاربة آليَّة توظيف أبي همَّام للشخصيَّات التاريخية في نصوصه الشعرية واستدعائه لها، مُنطلِقة من التساؤل حول الفائدة التي يَجنيها النَّص الشعري من استدعاء هذه الشخصيَّات؛ أي: ما القيمة الحقيقية التي أضافها استدعاءُ هذه الشخصيات إلى النص؟ وهو تساؤل عن مدى إنتاجيَّة فِعل الاستدعاء، وقياس درجة هذه الإنتاجية، وستتخذ الدراسة قصيدَتَي "من آخر كلمات ابن حزم" و"من المُعتمد بن عبَّاد إلى ملوك الطوائف" مادة له، مُتذرعة في هذا بالخيار الانتقائي الذي يرى في القصيدتين بنيةً تمثيلية[1] لإبداع أبي همَّام المرتكز إلى استدعاء الشخصيَّات التاريخيَّة.



العنوان: سطوة الاستدعاء:

يختار أبو همَّام لقصيدَتيه عنوانين شديدَي الفحولة على المستوى الدلالي، وهما: "مِن آخر كلمات ابن حزم"، و"مِن المُعتمد بن عبَّاد إلى ملوك الطوائف".



وتُقدِّم هذه العتبات النصيَّة عونًا للمتلقي؛ ليُهيِّئ أُفق انتظاره لاستقبال نصوص تَستند كفاءتها إلى استدعاء الشخصية التاريخية بمصاحباتها المتعدِّدة، في الوقت ذاته الذي تؤشر فيه اختيارات المبدع لهذين العنوانين إلى تعمُّده إغراقَ نصِّه الشعري منذ بدايته بهذا الحسِّ التاريخي المُتَّكئ على الماضي، فإذا كان العنوانُ هو أوَّل العناصر النصيَّة التي يستقبلها المتلقِّي، فإنه يمثِّل - على مستوى الممارسة البنائيَّة للنصِّ - العنصرَ الختامي الذي تُثبته الذات الشاعرة نتيجة مقاربتها العميقة للنص، فالعناوين تُحيل "إلى ذات متلفظة مختلفة عن الشخصيات المشاركة"[2]، فبنية العنوان هي: "بنية شعرية مركزية، باذخة في تكثيفها وتدليلها على كون النصِّ الماثل خلفها"[3]؛ مما يَجعلها أيقونة للدَّلالة التي يَستخلصها الشاعر، أو بالأحرى التي يريد الشاعر أن يدفعَ المتلقي إلى تبنِّيها في أثناء مقاربته للنص، فالعنوان هو أحد أشكال الطوبيك Le topic، كما يُحددها إيكو بقوله: "إنَّ الطوبيك أداة سابقة على النص، أو تصوُّر أَوَّلي عند القارئ"[4]، فهو "نقطة إرساء أَوَّلِيَّة داخل مسار التأويل، فكلُّ قراءة تنطلق من تصوُّر أَوَّلِي بشكل حَدسي في غالب الأحيان للمعنى؛ من أجْل تحديد الإمكانيات الدَّلالية أو البعض منها، يكون دور الطوبيك في هذه الحالة هو محاولة محاصرة شظايا المعنى المتولدة من الانفجار الأَوَّلِي لقراءة النص، وضَبْط السيموزيس[5] وتقليصه؛ من أجْل توجيه الدلالة نحو منحنًى معيَّن يتقاطع مع قصديَّة المؤلف"[6]، فالشاعر يفترض أسئلة المتلقي، ويُجيب عنها عبر وسائل غير مباشرة؛ كالعنوان الرئيس، والعناوين الفرعية، والكلمات المفتاحية، وبهذه الفرضية يَستند القارئ إلى بعض الدَّلالات، ويَستبعد البعض الآخر؛ بُغية الوصول إلى الانسجام التأويلي الذي يُطلق عليه التناظُر[7] Isotopic.



وبالطبع فإنَّ أبرز العلامات دَلالة على تعمُّد المبدع تأطير نصِّه بحدود السابق، وأكثرها دلالة على مغازلة التاريخ، هي العلامة الاسميَّة المُحيلة إلى شخصيتين ناجزتي الحضور على المستوى الواقعي التاريخي، وهما شخصيتا ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو محمد، ت 456هـ، والمُعتمد بن عبَّاد: محمد بن عبَّاد بن إسماعيل أبو القاسم المُعتمد بن المعتضد، ت 488هـ.



وعلينا ألاَّ نتعامل مع هذه المغازلة بوصفها مغازلةً مجَّانية، فلا يوجد ما هو مجَّاني أو عشوائي في الممارسة الإبداعيَّة بصورة عامة، وفي إنتاج شاعر فحل مثل أبي همَّام بصورة خاصة، فالشاعر الخبير يُدرك أنَّ ذاكرة الجماعات الإنسانيَّة تَمتلك مخزونًا كبيرًا من العلامات الاسمية المُحيلة إلى شخصيات ذات حضور مرجعي، "وقد يلجأ المبدع أحيانًا إلى هذا المخزون؛ ليستثمره في إغناء النص وشَحْنه بدَفق إيحائي عميق"[8]، مُعتمِدًا في هذا على القوة التأثيرية لعلاقات الحضور التي تتبدَّى بصورة تلقائيَّة فور ظهور العلامة الاسميَّة للشخصيَّة التاريخيَّة، فنحن "نستغل أسماء الأعلام بمختلف أنواعها؛ لتعزيز المعنى وتقويته"[9]، وهنا تحضر هذه العلامة في ذِهن المتلقي بمصاحبة حمولتها الدَّلالية الموزَّعة بين حضورها التاريخي الفائت، وحضورها السردي الحالي.



فالشاعرُ يَعمد منذ عَتبة النص إلى تأسيس علاقة توافُق بين واقعه السردي والواقع التاريخي لهذه الشخصية المستحضرة، محاولاً بهذا التوفيقَ بين شكلين من أشكال الخطابات: الخطاب السردي، والخطاب التاريخي، وهي محاولة لا ينبغي التعامُل معها باستهانة؛ نظرًا للمغايرة النوعية بين الخطابين، فإذا كان الخطابُ التاريخي ثابتًا ومُحايدًا في صورته الافتراضية المثالية، فإنَّ الخطاب السردي ينحو نحو الفرديَّة عبر تدخُّلات الشاعر، "من خلال تعيين موقفه الشخصي تُجاه هذا التاريخ"[10].



إنَّ بِنْيَة العنوانين تَجعلنا في مواجهة طرفين: أحدهما مُرسِل، وآخر مُستقبِل؛ فالمُعتمد بن عبَّاد وابن حزم يَحضران في موقع مُرسل الرسالة (النص الشعري)، في حين يحضر كلٌّ من ملوك الطوائف وجماعة ابن حزم في موقع المستقبِلين، ولا يحتاج الأمر إلى كثير جُهدٍ لإدراك ما يؤطّر الطرف المرسل من سِمة إيجابيَّة تتعارَض بشكلٍ حادٍّ مع التسليب المتعالق بحضور الطرف المستقبل.


إنَّ هذا التعارض الحاد يقدِّم طرحًا أوَّليًّا لعَزْف الشاعر على محور التناقض الملائم لرغبته في إشعار مُتلقِّيه بفداحة التبايُن في المواقف والأفكار والممارسات بين هذين الطرفين ومعادلاتهما المعاصرة، وكأنه بهذا يَضعه في مواجهة خيارين: أحدهما بالغ الصفاء والنقاء والمثالية، والآخر آسِن، مُغرق في القُبح والتشوُّه، مُدركًا بالطبع أن المتلقي سيتبنَّى موقف الشخصية المستدعاة.




إن استحضار الشاعر لهاتين الشخصيتين منذ عنوان القصيدة، لا بد وأن يتعالَق بمجموعة من الأهداف التي تتغيَّا الذات المبدعة تحقيقَها، والتي يظلُّ تحقُّقها مُرتهنًا بممارسة هذا الاستدعاء، فعندما يوظِّف المبدع شخصيات تاريخية في عمله، "فإنها عندما تحضر كبنية نصيَّة، فمعنى ذلك أنَّ لها وظيفة معيَّنة، يجب كَشْفها وتحليلها، ما دامت تأتي في سياق نصيٍّ مُحدَّد، وتتفاعل مع بنية نصيَّة معيَّنة"[11].



إنَّ استدعاء شخصيَّتي ابن حزم والمُعتمد بن عبَّاد بهذا الشكل السافر، والإيهام بأن َّالتالي هو إنتاج لفظي للشخصيَّتين، وهو إيهام فني يُدركه المتلقي بالطبع، دون أن يؤثِّر هذا الإدراك في قوَّته التأثيريَّة - يُتيح للشاعر فرصة استغلال ما تتمتَّع به الشخصيَّة المُستدعاة من حضور خاص لدى المتلقي؛ لتمرير خطابه، فاستحضار الشخصيَّات التاريخيَّة ذات القِيَم المرجعيَّة التداولية على المستويات الدينيَّة والثقافية والتاريخيَّة، يُحقِّق مزيدًا من الدعم للنص؛ حيث تعمل هذه العلامات اللغوية الرمزية بوصفها جسورًا إحاليَّة تغوي المتلقي - الواثق في إمكانات هذه الأسماء - بالوثوق فيما تَرويه الشخصيَّات التي تُحيل إليها هذه العلامات، وكأن المبدعَ يرتكز في عمليَّته الاتصاليَّة على نقاط التلاقي والتشارُك بين وَعْيه الفردي الذي تقف خلفه ذات المبدع بفردانيَّتها، ووعي الجماعة الذي يُعَدُّ المتلقي بؤرتَه الرئيسة المُنتجة له، والمحافظة عليه، أو المُعدلة فيه، فبنية العنوان هنا تزوِّد المتلقي "بقرائن تُفْهَم بصفة ارتدادية، ومن شأن هذه القرائن تَغْذيَة نشاط القارئ"[12]، الذي يؤسِّس في ذِهنه علاقة منطقيَّة بين شهرة الشخصيَّة التي تبثُّ النصَّ والنص المبثوث، ومن ثَمَّ فالمتلقي يجد نفسه مدفوعًا إلى التعاطف مع نصٍّ يَنطلق من لدن ذوات بأحجام المُعتمد وابن حزم، إنها تقنية القناع الأليفة التي يَلجأ إليها السارد؛ حتى لا يفقد مُتلقِّيَه منذ بداية النص، فذات الشاعر تُدرك أن نصَّها مشحون بمظاهر الألَم، التي قد تُصيب المتلقي بصدمة اكتشاف عيوبه، ومِن ثَمَّ فالشاعر يتلافى الصدام بلجوئه إلى توظيف تقنية القناع، "فالقناع رمز يتَّخذه الشاعر؛ ليُضفي على صوته نبرةً موضوعيَّة شبه مُحايدة، تنأَى به عن التدفُّق المباشر للذات"[13].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.72 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.09 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.27%)]