
09-07-2021, 03:23 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,269
الدولة :
|
|
رد: مغازلة التاريخ في النص الشعري
فأبو همَّام هنا يَتستَّر خلف إحدى الشخصيات التي يتم رسمُ صورتها النصيَّة بوصفها شخصيةً تحمل القِيَم الفكرية ذاتها التي يَقتنع بها هذا الشاعر، "فالقائل في الزمن القديم ليس إذًا سوى قناع رقيق جدًّا وضَعه الكاتب، وقد عَمِل جُهده؛ ليَلفت نظر المروي له إلى العلاقة الحميمة بينهما"[14]، ويترك هذه الشخصية في مواجهة المتلقي؛ ليتَّقي بذلك التصادم المباشر مع المتلقِّين، فالسارد يتَّكئ على التاريخ، ويفيد من سياقاته التي تَمنح البطل غطاءً شرعيًّا، وكأن المبدع يُراوغ عبر هذه الممارسة التقنية الوضعَ القاهر الذي يراه فارضًا حضورَه من عصور سابقة، وصولاً إلى عصره - "ومن هنا تغدو الشروط التاريخية للنصِّ عناصر أساسية في بلوغ دلالة النص ذاته، وليستْ عواملَ خارجية مُسقطة عليه إسقاطًا"[15] - حيث تتكرَّر مُعطياته، وتنسخ ملابساته.
فأبو همَّام يُكسب نصَّيْه مذاقًا خاصًّا منذ بنية العنوان، بفَضْل اقتران عنوانيهما بمتلفظين ذوي بريقٍ صَنَعته عوامل الشهرة التاريخية، بما يَدعم من مقبوليَّة النص؛ حيث "إن ظهور هذا الحدث أو الوحدة التوزيعيَّة، إنما يشير إلى وعي الراوي بتخيُّليَّة السردي؛ حيث يُضفي على محكيه ملامحَ تذهب بالمروي عليه إلى الوثوق في القصة التي يتمُّ تقديمها، عن طريق إيهامه بانتساب الأحداث والمواقف، وتفاصيل المشهد المقدَّم، وكذلك الفضاء الزماني والمكاني - إلى المرجع الواقعي"[16].
إنَّ إفادة أبي همَّام من القِيَم الإنتاجية الباذخة لفِعل الاستدعاء - تُقَدِّم قرينة بالغة الأهميَّة على وعي مُبدعنا العميق بالتراث ومصاحباته، ووَعْيه الأكثر عُمقًا بطبيعة الذات المستقبِلة لنصوصه، وهي الذات العربية التي يشكِّل التوثيق أحدَ أهم مرتكزاتها، فهذه الأسماء المستدعاة تؤدِّي دورها في تأطير النص الشعري التخيُّلي بحدود الفكر التوثيقي المُتجذِّر في وعي الذات العربية الإسلاميَّة، فالنصوص تَنفتح عبر هذا الاستدعاء المكثَّف للشخصيَّات المرجعيَّة بسياقاتها الزمنيَّة، وملابساتها الخاصة على فضاء الواقع، الذي يُسهم في توثيق الفعل، ومن ثَمَّ إقناع المتلقي - المُغرم بالتوثيق - بوجهة النظر المُقدَّمة؛ باعتبار أنَّ معطيات التراث "تمثِّل لدى الأجيال المختلفة تواصُلاً نفسيًّا واجتماعيًّا، وثقافيًّا وحضاريًّا، وهو يحمل في طيَّاته عوامل اصطفاء تفرز القِيَم التي تكون مناط الاعتزاز لدى الأُمة"[17].
فاستدعاء الشخصيات التاريخية تؤشر إلى مغازلة الشاعر للرصيد الثقافي للمتلقي، "فمثل هذه الشخصيات مشحونة بمعنى مُسبق يذكِّر بحقيقة خارجة عن النص، أو بمعرفة غير متصلة مباشرة به، فالأسماء المكانية تنشِّط ثقافته الجغرافية، والأسماء التاريخية توقِظ مخزون معارفه عن الماضي على اختلاف مجالاته، والأسماء الثقافية تذكِّره بقصص قُصَّت عليه؛ ولذا فإنَّ الكاتب إذ يَستخدم اسمًا من هذه الأنواع يُحاول ما استطاع أن يحترمَ رصيد القارئ الثقافي"[18]، وكأنَّ أبا همَّام - عبر هذه الممارسة - يُعلن تعاطيه مع مفردات البِنْية الثقافيَّة الفائتة، التي تُلِح على ضرورة توافُر المرجعيَّة التاريخيَّة لِمَا يتمُّ إبداعه، وهو ما يستحضر بالتبعيَّة الكثير من الحكايات والنوادر التي تَزخر بها مُتُون كتب الأخبار العربية القديمة، والتي تدور حول شعراء كبار نَسبوا أشعارهم - في بداية مشوارهم الشعري - إلى أسماء أخرى شهيرة؛ حتى يختبروا القيمة الحقيقية لإبداعهم، أو ليسخروا من السياق المَعْني بالأسماء والألقاب أكثر من عنايته بالقيمة الجمالية، إنه التُّراث الذي لَم يرغب أبو همَّام في الانعتاق من سُلطته، فقام بمدِّ روافد الفكر التوثيقي داخل نصوصه، وكأنه بهذا يَضغط على عقليَّة المتلقِّي لتحقيق هدفه الإقناعي؛ لأنَّ "البنية الدَّلالية للعمل الإبداعي هي ثمرة التناسق الكلي للأجزاء والعناصر، فالتناسق يشكِّل رُوح العمل الإبداعي؛ لأنه يَنبع من الجماعة، والفاعل الحقيقي للإبداع لا يتوقَّف على مستوى الفرد المبدع، ولكن على مستوى الجماعة، ودلالة التناسق تتجسَّد من خلال الانسجام بين الفردي والاجتماعي"[19]؛ مما يجعل تفعيل هذا الانسجام شرطًا لتحقيق غاية النص التواصُليَّة وإنتاجيَّته الدَّلالية.
وهنا ينبغي علينا أن نواصِل إذعاننا لحسِّ التساؤل الداخلي، فنحاول الإجابة عن السؤال التالي: "لماذا وقَع اختيار الشاعر على هذين الاسمين دون غيرهما؟"، هل لأن شاعرنا أستاذ أكاديمي مرموق، مُتخصِّص في الدراسات الأندلسية، ومِن ثَمَّ فهو الأكثر أحقيَّة من غيره بالاستناد إلى تراث هذه المنطقة المُفعمة بالثراء؟
نتصوَّر أنَّ الحقيقة تَنفلت من هذا الربط المنطقي، وإن لَم تُجاوزه بشكلٍ كامل، فشخصيَّتا المُعتمد بن عبَّاد وابن حزم، تَطرحان قرينة تاريخية يُمكن أن تُسهم في تقديم تفسير يُبرِّر اختيار الشاعر لهما دون غيرهما، هذه القرينة تتمثَّل في السِّياق الحضاري الذي يَجمع هاتين الشخصيتين، إنه فضاء "الأندلس"، وما يُثيره هذا التعالق من شجنٍ عميق يَعمد الشاعر إلى استثارته؛ لدَعْم هدفه في إشعار مُتلقِّيه بفجاعة الحاضر الذي يُمكن أن يكون الماضي - وما انطوَى عليه من مظاهر الفقد والاستلاب - نسخةً مُكرَّرة منه، "ولعلَّ الحلم الأندلسي يكون من أصفى الرُّؤى التي بَقِيت في الثقافة العربية الوسيطة وأشدها إثارةً؛ لأنَّه مُفعم بمذاق الحياة، مشغول بتمثيلها على طريقته الخاصة"[20]، فالاستدعاء هنا ينهض بمهمَّة التحفيز العاطفي للمتلقِّي، الذي يستدعي فور وقوع عينه على هذه الأسماء أبيات ابن خفاجة الشهيرة التي ترسم صورة مثالية للأندلس، فيربط بينها وبين الفردوس المنتظر؛ يقول ابن خفاجة:
يَا أَهْلَ أَنْدَلُسٍ للهِ دَرُّكُمُ 
مَاءٌ وَظِلٌّ وَأَنْهَارٌ وَأَشْجَارُ 
مَا جَنَّةُ الخُلْدِ إِلاَّ فِي دِيَارِكُمُ 
وَلَوْ تَخَيَّرْتُ هَذَا كُنْتُ أَخْتَارُ 
لاَ تَختَشُوا بَعْدَ ذَا أَنْ تَدْخُلُوا سَقَرًا 
فَلَيْسَ تُدْخَلُ بَعْدَ الجَنَّةِ النَّارُ 
إنه الحلم البديع الذي استحالَ كابوسًا يؤرِّق الذات العربية حتى يومنا هذا، إنه الجُرح الذي لَم يندمل حتى اليوم، وإن حاوَلنا إقناع أنفسنا بحتميَّة التصالُح مع الواقع والخنوع لمُقتضياته، وهو ما يُراهن عليه شاعرنا؛ ليُثير انتباه مُتَلقِّيه منذ الكلمة الأولى في نصِّه الذي يَطرح منذ عتبته ثنائية الماضي والحاضر.
إن اختيار هاتين الشخصيتين الأندلسيَّتين، يُصبح أحدَ سُبُل جَذْب المتلقي إلى النص، ودَفْعه إلى التعاطي معه، بوصفه نصًّا يتناغم مع المفردات التشكيلية الجمالية، والقِيَميَّة الأيديولوجية، والعاطفية التأثيرية المشحونة بها ذاكرة المتلقي، مُؤسِّسًا بهذا منطقةَ البين بين الضروريَّة، "التي يجب أن يقفَ فيها النص الذي نحلم به، النص الذي لا ينتمي بكامله إلى السياقات الواقعيَّة والتاريخيَّة، والذاتية المختلفة التي أنْتَجَته أو شارَكتْ في إنتاجه، ولا يرفض هذه السياقات في الوقت نفسه، النص الذي لا ينتمي بكامله إلى القِيَم الجماليَّة الخالصة، ولا يُفَرِّط في تلك القِيَم في الوقت نفسه"[21].
وتبقى لكلِّ شخصيَّة روافدُها المرجعيَّة التي تُغري باستغلالها، وهي روافد يَنتظمها خيط المثالية إلى حدٍّ كبير، فابن حزم هو النموذج التشخيصي اليوتوبي للذات العربية الإسلاميَّة، هذه اليوتوبيَّة المستمدَّة من قدرته اللافتة على الجمع بين أمور نَحسبها في وقتنا الراهن من الصعوبة بمكان، فهو القصَّاص البارع، والفيلسوف القادر على سَبْر أغوار العُشَّاق والمحبِّين، والمُنظِّر الحصيف الذي صاغ رؤيته للحبِّ عبر خطاب يجمع بين جمال القصِّ وعُمق الرؤية، وبلاغة المنطق، وهو الفقيه إمام المذهب الظاهري المتبحِّر في علوم الدين.
إنها الثنائية التي يُدرك الشاعر صعوبة تحقُّقها في عصرنا الحالي، هذه الصعوبة التي تعكس تقهقُرَ القِيَم الحقيقيَّة للحضارة العربية، فشاعرنا باختياره لشخصية ابن حزم؛ ليُعيد بَعْثها من مَرْقدها الأثير، إنما ينتقد واقعه بشراسة إبداعيَّة، تضعنا في مواجهة أنفسنا أمام مرآة الماضي، التي تكشف لنا عجزَنا على أن نكون ورثة أوفياءَ لأسلافنا العِظام، الذين صاغوا بوعيهم العميق خطاب الحضارة العربية، ناجين بأنفسهم وبأُمَّتهم من شَرَك الرُّؤية الأُحادية المتعصِّبة التي ترفض التجاور الطبيعي بين الديني والدنيوي.
أمَّا المُعتمد بن عبَّاد، فهو نموذج للبطل العربي القادر على جَمْع ما تفرَّق، وإعادة توحيد الأُمَّة، ورَفْض الاستسلام للآخر الغازي، والاستعانة بإخوانه في مواجهة أعدائه، فضلاً عن أنَّ حياته زاخرة بالأحداث ذات الطابع الدرامي، الموزَّعة بين قَصص الحبِّ بأُفقها الساحر، ومظاهر الخيانة والمذلَّة والاغتراب بآفاقها القبيحة.
إنَّ القراءة الأسلوبيَّة لعنواني القصيدتين تَطرح الكثير من الأسباب التي تُبَرهن على بلاغة الممارسة الاستدعائية التي لَجَأ إليها الشاعر، ففي عنوان "مِن آخر كلمات ابن حزم" يَجترح الجزءُ الأول في بنية العنوان دَلالةً لا تقلُّ أهمية عمَّا يَطرحه اسم ابن حزم، فحرف "مِن" وما يُشير إليه من اجتزاء أو بعضيَّة، يُمكن التعامل معه بوصفه تيمةً تقليديَّة، يُمكن اللجوء إليها؛ لتحقيق غرض الشاعر صاحب الرؤية البصيرة في رفدِ نصِّه بمزيد من الأبيات في قادمات الأيام، دون خشية من الوقوع في فخِّ التناقض أمام المتلقي، عندما يعود ليستغل صوت الشخصية بعد أن يكون قد أثبَت في وقت سابق أن منصوصَه الشعري هو آخر ما تفوَّهت به الشخصية، كما أنَّ هذه الـ"من" تحمي الذات الشاعرة من الوقوع تحت مساءلة المتلقي العليم بأن آخِرَ كلمات ابن حزم - على سبيل المثال - لَم تكن شعرًا، فـ"مِن" تهدف إلى تحقيق التجاور بين النص الوارد على لسان الشخصية في إطارها المتخيَّل، والنص الوارد على لسان الشخصية في حضورها المرجعي!
ما المقصود إذًا بـ"آخر كلمات.." يقدم هذا الجزء في بنية العنوان إمكانيَّة لإعادة قراءته بوصفه أحدَ ملامح الطابع الثوري في القصيدة، هذا الطابع الذي يمكن فَهْمه من لفظ "آخر" - المضاف إلى كلمة "كلمات" - الذي قد يُشير إلى صَمْت ابن حزم بعد انتهائه من إنشاد قصيدته، والصمت هنا صمت موحٍ، بوصفه صمتًا يعكس موقف الصامت، وكأنَّ ابن حزم بصمته هذا يُضيف إلى نصِّه مزيدًا من البريق والتوهُّج، ويَمنح ذاته مزيدًا من العُلو والشموخ المتحقَّق عبر الخطاب الحكيم الذي يَطرحه في نصِّه، "فالحكمة تختزل في طيَّاتها برامجَ للفعل: مُحدِّدة لدائرة فعل الذات، وراسمة لتخوم وطبيعة هذا الفعل، كما أنها تحتوي على سلسلة من النعوت تُسهم استقبالاً في تمييز الذات عن باقي الشخصيات الأخرى، وتحديدها كبطل؛ أي: كمركز"[22]، إنها الرسالة الأخيرة، التحذير الأخير، الصرخة الأخيرة، التي يغدو الصمت بعدها بديلاً مقنعًا لذاتٍ بذَلَت الكثير في التحذير والتوضيح.
إذا كانت الرؤية التفسيرية السابقة تَستند إلى بلاغة الصمت، فإنَّ رؤية تفسيرية أخرى قد ترى في هذا الجزء من بنية العنوان دليلاً على شعريَّة الموت، فكلمة "آخر" توحي أنَّ النص ليس سوى الوصيَّة النهائية التي يخلِّفها ابن حزم للأجيال القادمة قبل أن يُغيبه الموت، إنها لحظة فارقة مُفعمة بالخصوصيَّة على مستوى الإرسال والاستقبال، ومن ثَمَّ فالمُستقبِل يُدرك فداحة الخسارة التي سيتعرَّض لها إذا ما تغافَل عن مضمون هذه الوصيَّة، فبقدر ما يحقِّق هذا الانتقاء الزماني - من قِبَل الشاعر - للحظة الوصيَّة من توتُّر درامي، وتسارُع إيقاعي، بقدر ما يَدعم مقبوليَّة المُوصَى به، وتعميق الشعور بإمكانية مضاعفة الخسارة - حال عدم الإنصات الكامل لهذا الملفوظ - ومِن ثَمَّ زيادة درجة الاهتمام بالمذكور التالي، فرُبَّما تكون هذه هي الفرصة الأخيرة للإفادة من خبرة صاحب الوصيَّة العتيقة ذات المذاق الخاص، وتتَّسع "بوصلة" التوجيه؛ لتنتقلَ من "مستقبلي ابن حزم"، إلى القارئ الخارجي الذي يستشعر جديَّة الوصيَّة بفِعل تعالقها بحدثِ الموت الوشيك، وهو حدَث يترسَّخ في الخلفيَّة الذهنيَّة الإنسانيَّة بالجديَّة والجلال والتأمُّل؛ مما يجعل من اختيار النصِّ لحظةَ الموت الموشك - إحدى الحِيَل الفنيَّة ذات الطابع الانتقائي التي يَلجأ إليها الشاعر، والتي يصل الفعل من خلالها إلى أقصى مراحل فاعليَّته الإنتاجيَّة، وهو ما يجعل "القارئ أكثر ثِقةً في صِدقها، فالقارئ إذا لَم يشعر بهذا الصدق، فإنه لن يُقبل عليها، ولن يَنفعل معها"[23]، فالمتلقي يجد ذاته يُبدِّد جزءًا كبيرًا من شكوكه في المادة المُستقبَلة عندما تأتي لحظة الموت؛ لترسِّخ لمصداقيَّة الوصيَّة.
وإذا انتقَلنا إلى العنوان الآخر، نجده يرتكز على فِعل الوصيَّة، ولكنها الوصيَّة المكتوبة الحاضرة بحضور الرسالة الموجهة إلى ملوك الطوائف "من المُعتمد بن عبَّاد إلى ملوك الطوائف"، ويُمكن للمتلقي الحصيف - هذا المتلقي "المفترض الذي يتلقَّى كلَّ الخطابات، ومن مختلف مُرسليها بحيث يغدو مضمَّنًا في كل الخطابات"[24]- أن يتوقَّع ما سينطوي عليه النص القادم من تحذيرات، وتذكيرات، واستصراخات، تنطلق من لَدُن الذات المُرسلة، وتُوَجَّه إلى المستقبلين الحاضرين في وعي المتلقي، بوصفهم نماذجَ للتفكُّك والاستهتار والهزيمة.
إن استنادَ بنية العنوان هنا على طرفين (مُرسِل ومُستقبِل) يُسهم في إسباغ البُعد الوعظي أو العِبَري على النص القادم، بما يَجعلنا بصدد خطاب يقوم "على وظيفة العبرة والمعرفة، والسرد العربي الكلاسيكي يُدَعِّم هذين البُعدين؛ سواء في جانب الثقافة الرسميَّة، أو الشعبيَّة، وإذا كان البُعد الأول مشتركًا (العبرة)، فالمضمون الديني أسْهَم بشكلٍ كبير في تركيز هذا البعد (اتِّخاذ العِبرة من أيِّ حكي يتعلَّق بما مضى)، (أحداث ووقائع الأُمم السابقة)، وتحصيل المعرفة من خلال التعرُّف على ما جرى في ملك الله، وهذه المعرفة هي التي تدعم، وتدعو إلى استخلاص العبرة"[25]، وعلينا هنا ألاَّ نغفل أن استحضار الوصية يعضد من موقف الذات الشاعرة واعتدادها بنفسها، عبر حضور صوتها عبر صوت شخصيَّة تقوم بدور مرسل الوصيَّة؛ حيث تؤشر الوصيةُ إلى العلاقة السُّلطوية التي تَجمع الشخصية المستدعاة المرسلة - ومن ورائها الشاعر - بالطرف الآخر المستقبل، وذلك بما تنطوي عليه من إدراك صاحب الوصية قيمةَ ما يتضمَّنه خطابه من قضايا جوهرية، تتماس مع اهتمامات مجموعة المستمعين، فالتمسُّك بفِعل الوصية يعكس على نحو صريح الإيمانَ العميق بجدوى ما سيتمُّ إرساله عبر الشفرة الشعرية.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|