عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 09-07-2021, 03:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,269
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مغازلة التاريخ في النص الشعري

بهذه الكلمات الحادة، وبهذا الإيقاع الكلاسيكي الرَّصين، يستهلُّ أبو همَّام قصيدته التي يتوارَى فيها خلف قناع شخصيَّة "ابن حزم"؛ ليبثَّ من خلاله آهاته المُلتهبة الناتجة عن قَبْضه على جمار أوجاع الوطن، ويواصل أبو همَّام في قصيدة "من آخر كلمات ابن حزم" نَسْجَه لجَديلته الشعرية المميزة، التي يمثِّل الماضي لُحمتَها والحاضرُ سداها، وليس عصيًّا على المتلقي الذكي أن يُجرِّد الصوت الشعري من مركزية الاسم الحاضر في بنية العنوان، ويستبدلَ به اسم شاعرنا الهُمام، وأن يَربطَ بين قرطبة والقدس، ونظيراتها من المناطق العربية المُستباحة، وأن يرى في الروم قناعًا يتستَّر خلفه الصهاينة، ويبدو أنَّ شاعرنا لَم يرغب أن يُراهن على قدرات المتلقين المتباينة في الوصول إلى كلماته، فسعى إلى تصديرها إليهم بصورة مباشرة وفاجعة، عبر طرائق متعددة أبرزها البيت التالي:
تَهَوَّدَتْ - يَا لَلذُّلِّ - قُرْطَبَةٌ
فَلْيَهْنَأِ الرُّومُ حُقِّقَ الوَطَرُ[40]



إنَّ أبا همَّام في هذا البيت يتعمَّد إبراز معاصرة المأساة وتجدُّدها التلقائي، مستعينًا في هذا بلُعبة الإدماج، الإدماج المباشر للحاضر في سياق الماضي، فعبارة "تَهَوَّدت قرطبة" لا يُمكن فَهْمها إلاَّ إذا اسْتَبدَلنا بقرطبة القدس، فبتَكرار اختبار تأثير الحذف الافتراضي لقرطبة، ووَضْع القدس بدلاً منها، فإننا نصل إلى النتيجة ذاتها، فقرطبة لَم تكن في يوم ما يهوديَّة، واليهود على اشتهارهم فيها، لَم يكونوا في يوم ما هم المتحكِّمين الرئيسيين في مقاليد أمورهم - وإن قاموا بالعديد من الثورات، وأهمها فتنة العامة بينهم وبين المسلمين في عهد المُعتمد بن عبَّاد - إنها زعاقة الممارسة الإدماجيَّة المتعمَّدة، التي بقَدْر ما تفضَح خُطَّة الشاعر في الاختباء خلف صوت الشخصية التاريخية المستدعاة، بقَدْر ما تشفُّ عن مقصديَّته في إبراز مرارة المأساة التي يَعيشها، والتي لَم تترك له خيارًا سوى تعْرِية المسكوت عنه، وكأن الانفعال العاطفي يحفِّز الشاعر لمجاوزة خُطَطه التمويهيَّة، وفَضْح حضوره بمرجعيَّته الحاليَّة في سبيل إيصال كلمته للمتلقي وإشعاره بسوداويَّة الحاضر وألَمه.

إذا كانت هذه الأمور كلها تعضد ما سبَق أن ذكَرناه حول إفادة الشاعر من التاريخ، عَبْر ممارسة انتقائية تَنزع إلى اختيار التجارِب التاريخيَّة المؤلِمة؛ لاستثارة حِسِّ الفقْد لدى مُتَلقِّيه كخطوة ضروريَّة لإبراز قُبْح الحاضر والتحذير من قَتامة المستقبل، فإن استدعاءً آخرَ يتذرَّع به الشاعرُ، ويُجاوز عبره هذا النمط المباشر - الحاضرة بحضور اسم شخصيَّة ابن حزم - ويَجترح عبرَه دَلالات جديدة تَحقِن النصَّ بمزيد من الجُرعات التي تُحافظ على انسجامه وتناغمه، إنه الاستدعاء الضمني أو الاستدعاء غير المباشر، ويتأسَّس هذا النمط على غياب مَقصديَّة الاستدعاء من قِبَل المُبدع، فالشخصيَّة المستدعاة يتمُّ استحضارها عبر ملفوظها الذي يخضع لمرشحات الذات الشاعرة ولأغراضها من هذا الاستدعاء؛ حيث يتمُّ إيراد هذه الملفوظات في أثناء النص بطريقة عفويَّة؛ "إذ يتم التسرُّب من الغائب إلى الحاضر في غياب الوعي، أو يتم ارتداد النصِّ الحاضر إلى الغائب في نفس الظرف الذهني؛ مما يجعلنا في مواجهة تداخل بلا تداخل"[41]، ومِنْ ثمَّ تختفي علامات المقصديَّة، ويُصبح التعرُّفُ إلى حدود النص المستدعى - ومن ثَمَّ صاحبه - مُعتمِدًا بشكل أساسي على خبرة المُتلقي المعرفيَّة، فالمعروف أنه "لإدراك مغزى الإحالة يجب أن يتوافر المتلقِّي على معرفة خلفيَّة سابقة، وعلى سياق داخلي يَجعل التوجيه مُمكنًا"[42]، وفي ظلِّ غياب التوجيه السياقي الداخلي، تصير لمعارف المتلقي المتراكمة الدور الرئيس في تحديد أُطر عمليَّة التفاعل النصي وإدراك مغزاها، ولَمَّا كان المتلقون ليسوا على درجة واحدة من المعرفة، أصبَح من الطبعي أن يختلفوا في درجة الوعي بحدود النص المستدعى وتحديد شخصية صاحبه، كلٌّ حسب نوعية خلفيَّته النصيَّة، وهو ما يطبع عمليَّة الاستدعاء هنا بطابع المُرونة، بحيث يصير "التناص هو الإدراك من طرف القارئ للعلاقات التي توحِّد بين عمل أدبي وغيره من النصوص التي سبَقَته أو تَلَتْه، إنَّ هذه الأعمال الأخرى تكون تناص العمل الأدبي الأوَّل"[43].

إنَّ الشخصية التي يَستدعيها "أبو همَّام" هنا هي شخصيَّة "المتنبي"، الذي ملأ الدنيا وشَغَل الناس - على حدِّ تعبير ابن رشيق القيرواني[44] - وبخاصة قصيدته الذائعة التي مَطلعها:
عِيدٌ بِأَيَّةِ حَالٍ عُدْتَ يَا عِيدُ
بِمَا مَضَى أَمْ بِأَمْرٍ فِيكَ تَجْدِيدُ

أَمَّا الأَحِبَّةُ فَالبَيْدَاءُ دُونَهُمُ
فَلَيْتَ دُونَكَ بِيدًا دُونَهَا بِيدُ



إذ يتبدَّى لنا من الوَهلة الأولى التوافُق بين تجربة الشاعرين في النصَّين، فإذا كان ابن حزم - في نص أبي همَّام - يُعلن رفْضَه مُجاورة مجموعة الخانعين الذين قَبِلوا الذُّل وألِفُوا مَهانته؛ مما يؤشر لِمَا تتميَّز به الشخصية من اعتزازٍ بنفسها واعتدادٍ بعُروبتها، فإنَّ المتنبي في مفتتح قصيدة العيد يُعلن بوضوح مفارقته المعنويَّة للمحيطين به في مصر، وانعتاقه الرُّوحي والذِّهني من أَسْر حاكمهم "كافور"؛ إرهاصًا بالمفارقة الماديَّة التي ستتحقَّق فيما بعدُ.

إنها الافتتاحية البكائية التي تَكشف ما تتميَّز به شخصية الشاعر من إباءٍ وشُموخ، يُلحَّان عليه في رَفْض الانصياع لرغبات "كافور" أو مُهادنته، بل تلجأ الذات المعذَّبة إلى مهاجمة "كافور" نموذج السلطة الجائرة - من وجهة نظرها - ووَصْفه بأقذع الصفات:
مِنْ كُلِّ رِخْوِ وِكَاءِ البَطْنِ مُنْفَتِقٍ
لاَ فِي الرِّجَالِ وَلاَ النِّسْوَانِ مَعْدُودُ

أَكُلَّمَا اغْتَالَ عَبْدُ السُّوءِ سَيِّدَهُ
أَوْ خَانَهُ فَلَهُ في مِصْرَ تَمْهِيدُ

صَارَ الخَصِيُّ إِمْامَ الآبِقِينَ بِهَا
فالحُرُّ مُسْتَعْبَدٌ وَالْعَبْدُ مَعْبُودُ



إنَّ أبا همَّام الذي كتَب قصيدة شهيرة تحمل عنوان "المتنبي في ديوان كافور"[45] - وهي القصيدة التي تقمَّص فيها دور المتنبي وهو يهاجم كافورًا، وهذه القصيدة تتناصّ بصورة رائقة مع قصيدة "أمل دنقل" "من مذكرات المتنبي في مصر" - يستعيد في قصيدة "من آخر كلمات ابن حزم" صوت المتنبي، حتى إن الصفات التي يُنعَت بها أصحاب السلطة المعاصرون تتَّفق إلى حدٍّ كبير مع الأوصاف التي استعمَلَها المتنبي في هجائه لكافور الإخشيدي؛ يقول أبو همَّام:
كُلُّ خَصِيٍّ تَدْعُونَهُ مَلِكًا
وَمَا لَهُ هِمَّةٌ وَلاَ خَطَرُ

سِيَّانَ نغْريلَةٌ وَمُقْتَدِرٌ
كُلُّهُمْ بِالأَعَاجِمِ انْأَطَرُوا

وَالأُمَوِيُّونَ غَالَ نَخْوَتَهُمْ
أَنَّهُمْ بِالْمَهَانَةِ انْشَطَرُوا

يُسَطِّرُونَ الأَحْكَامَ نَافِذَةً
وَبِئْسَ مَا نَفَّذُوا وَمَا سَطَرُوا[46]



إنَّ الخصي هنا تتبدَّل دَلالته؛ ليصير رمزًا دالاًّ على العجز وعدم القدرة على حماية الأرض والعِرض، إنه "الرجولة المسلوبة التي تؤدي معنى الهزيمة، وتدفع إلى البكاء على العروبة المهزومة"[47]، فالهجاء هنا يجاوز وظيفته المباشرة في الإساءة للفرد المهجو ومهاجمته؛ ليَغدو هجاءً جماعيًّا للعصر وأفراده، فالأمويون ليسوا سوى رمزٍ يُحيل إلى الحُكَّام الذين لا يملكون سوى الكلمات، يتشدَّقون بها أمام شعوبهم، دون أن يبذلوا ما يستحقون عليه سُلطتهم، وهو ما يتناغم مع قول المتنبي:
إِنِّي نَزَلْتُ بِكَذَّابِينَ ضَيْفُهُمُ
عَنِ القِرَى وَعَنِ التَّرْحَالِ مَحْدُودُ

جُودُ الرِّجَالِ مِنَ الأَيْدِي وَجُودُهُمُ
مِنَ اللِّسَانِ فَلاَ كَانُوا وَلاَ الْجُودُ


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]