عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 09-07-2021, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,091
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:

﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾

قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25].

ذكر عز وجل وعيد الكافرين المكذِّبين للقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أَتْبع ذلك بالبشارة للمؤمنين الذين عملوا الصالحات، ببيان ما لهم من الجنات، وما لهم فيها من ألوان النعيم، والعيش المقيم، على طريقة القرآن الكريم في الجمع بين الترغيب والترهيب؛ ليجمع الإنسان في طريقه إلى الله بين الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء.

قوله: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم ولكلِّ مَن يصلح له الخطاب؛ أي: وبشِّرْ أيها الرسول، ومن قام مقامك.

والتبشير والبشارة: الإخبار بما يسُرُّ، مأخوذ من البَشَرة؛ لأن الإنسان إذا أُخبر بما يسُرُّه استنار وجهه واتسعَت بشَرَتُه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قطعة قمر[1]، كما قال كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل.

والتبشير سمة ظاهرة من سمات الدين الإسلامي الحنيف، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: ((بشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسِّرا)).

وينبغي أن يَستلهم هذا المعنى الدعاةُ والمصلحون والمربُّون، وأن يكونوا مبشِّرين لا منفِّرين، فإن رحمة الله سبقَتْ غضَبَه، وقد قال الله عز وجل لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا؛ أي: الذين صدَّقوا بقلوبهم وألسنتهم بكل ما يجب الإيمان به من أركان الإيمان الستة وغيرها.

﴿ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ أي: وعملوا الأعمال الصالحات بجوارحهم؛ أي: وصدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة؛ لأن الإيمان اعتقادٌ وقول وعمل، وفي هذا ردٌّ على المرجئة الذين يقولون: يكفي مجرد الإيمان بلا عمل.

وفي حذف الموصوف وهي "الأعمال"، والاكتفاء بالصفة وهي "الصالحات": تنبيهٌ إلى أن المهم في الأعمال كونها صالحة.

والعمل إنما يكون صالحًا إذا توفر فيه شرطان: الأول: الإخلاص لله عز وجل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، مَن عمل عملًا أشرَكَ معي فيه غيري ترَكتُه وشِركَه))[2].

والشرط الثاني: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ))[3].

وفي لفظ: ((من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ))[4].

ويجمع الشرطين قولُ الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ [النساء: 125].

أي: ومن أحسن دينًا ممن أخلص العمل لله، وهو متَّبِع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [لقمان: 22].

وسميت الأعمال الصالحة بهذا الاسم؛ لأن بها صلاحَ أمر الإنسان في دينه ودنياه وأخراه، وبها يكون صالحًا لجوار الرحمن في جنات النعيم[5].

﴿ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ﴾؛ أي: بأن لهم جنات، وهذا وما بعده هو المبشَّرُ به.

أي: فإن لهم عند الله جناتٍ، و"جنات" جمع "جنة"، وهي في اللغة البستان كثير الأشجار والثمار، سمي بذلك لأنه يجُنُّ ويستر مَن بداخله بأشجاره الكثيرة الملتفِّ بعضُها على بعض، كما قال تعالى: ﴿ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾ [النبأ: 16]، والمراد بالجنات المساكن والمنازل التي أعدَّها لأوليائه المتقين وحزبه المفلحين، فيها من ألوان النعيم ما لا يعلمه إلا الله، كما قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطَرَ على قلب بشر))[6].

قال ابن القيم من قصيدة له طويلة في وصف الجنة ومدح نعيمها[7]:
فللهِ ما في حشوِها مِن مسرَّةٍ
وأصنافِ لذَّاتٍ بها يُتنعَّمُ

وللهِ بَرْدُ العيشِ بين خيامِها
وروضاتِها والثغرُ في الروضِ يَبسِمُ

وللهِ واديها الذي هو موعدُ ال
مزيدِ لوفدِ الحُبِّ لو كنتَ منهمُ

بذيَّالك الوادي يهيمُ صَبابةً
محبٌّ يَرى أن الصبابة مغنمُ

وللهِ أفراحُ المحبِّينَ عندما
يُخاطِبُهم مِن فوقِهم ويُسلِّمُ

وللهِ أبصارٌ ترى اللهَ جهرةً
فلا الضيمُ يغشاها ولا هي تَسأمُ

وللهِ كم مِن خيرةٍ إنْ تبسَّمتْ
أضاءَ لها نورٌ مِن الفجرِ أعظمُ

فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها
منازلُك الأولى وفيها المخيَّمُ

منابرُ مِن نورٍ هناك وفضةٌ
ومِن خالصِ العِقيانِ لا يتقصمُ

وكثبانُ مِسكٍ قد جُعِلْنَ مقاعدًا
لِمَن دون أصحابِ المنابرِ تُعلَمُ


﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البقرة: 25] صفة لـ"جنات"؛ أي: تجري وتسيح من تحت أشجارها وقصورها وغرفها الأنهار، كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [العنكبوت: 58]، وقال تعالى: ﴿ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [الزمر: 20].

وهذه الأنهار تجري بغير أخدود يصرفونها كيف شاؤوا، قال ابن القيم[8]:
أنهارُها في غير أخدودٍ جرَتْ
سبحانَ مُمسِكِها عن الفيضانِ

مِن تحتِهم تجري كما شاؤوا مفجـ
ـرة وما للنهرِ مِن نُقصانِ


يشربون منها، ويغتسلون فيها، ويتمتعون برؤيتها، وهي كما قال الله تعالى: ﴿ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾ [محمد: 15].

قوله: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ﴾ [البقرة: 25].

بعدما ذكَرَ طِيبَ المسكن، وهي الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، أَتْبع ذلك بذِكر ما لهم فيها من النعيم، وبدأ بذِكر ما لهم فيها من أنواع الثمرات والمأكل، فقال: ﴿ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا ﴾ "كلما" ظرف زمان، وفيه إشارة إلى أن رزقهم في هذه الجنات على الدوام، وهذه مقالتهم على الدوام، والمعنى: كلما أُعطُوا من الجنات ﴿ مِنْ ثَمَرَةٍ ﴾؛ أي: من أيِّ ثمرة ﴿ قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾؛ أي: هذا الذي أُعطينا من قبلُ؛ أي: شبيهه ونظيره لا عينه؛ لأنه يشبه ما سبقه في الشكل والحجم واللون ونحو ذلك؛ ولهذا قال: ﴿ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ﴾، وهذا كالتعليل والسببِ لقولهم: ﴿ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾.

و﴿ مُتَشَابِهًا ﴾ حال؛ أي: أُعطُوه وجيء إليهم به حال كونه متشابهًا؛ أي: يشبه بعضه بعضًا في الحُسن واللذة والفكاهة وكونه خيارًا كله، أو في المظهر والشكل والحجم واللون ونحو ذلك، مع الاختلاف العظيم، والفرق الشاسع، والبون الواسع في المخبر والطعم واللذة والنكهة ونحو ذلك.

قال ابن القيم[9]: "ومعناه يشبه بعضه بعضًا، ليس أوله خيرًا من آخره، ولا هو مما يعرض له ما يعرض لثمار الدنيا عند تقادُمِ الشجر وكِبَرِها من نقصان حملها، وصِغَرِ ثمارها، وغير ذلك، بل أوله مثل آخره، وآخره مثل أوله، وهو خيار كلُّه يشبه بعضه بعضًا".

وقيل: معنى قولهم: ﴿ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾؛ أي: في الدنيا.

والأول أصح وأظهر وأقوى في المعنى؛ لأن التشابه بين ثمار الجنة أعظمُ من التشابه بينها وبين ثمار الدنيا؛ ولهذا قالوا من شدة التشابه هذا القولَ.

وأيضًا ليس كل ما في الجنة - بل ولا أكثر ما فيها من الثمار - مما رُزِقَه أو مثيلَه أهلُ الدنيا.

وأيضًا فإن ما في الجنة من الثمار لا تقاس به ثمار الدنيا؛ فما في الجنة أعظمُ وأعظم، بل نِعَمُ الدنيا كلها لا تساوي شيئًا بالنسبة لنعيم الجنة، فيبعد أن يكون المعنى أن أهل الجنة كلما رُزِقوا من ثمارها قالوا: هذا الذي رُزِقنا في الدنيا، وقد أحسن القائل:

ألم تَرَ أن السيف ينقُصُ قدرُه *** إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا[10]


ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا الأسماء"، وفي رواية: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماءُ"[11].

﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ:
ذكر ما لأهل الجنة من التنعم في المأكل بأنواع الثمار المتشابهة في الظاهر، المختلفة في الباطن، في الطعوم واللذة ونحو ذلك، ثم أتْبعَ ذلك بذكر ما لهم فيها من التنعم بالأزواج والفُرُش.

أي: ولهم في الجنات أزواج مطهَّرة، و"أزواج" جمع زوج، والزوج في اللغة: الشفع، ضد الوتر، ويطلق الزوج في الفصحى على الذكر والأنثى، يقال: زوج هند، ويقال: زوج محمد، وهي لغة قريش، وبها نزل القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [البقرة: 35]، وقال تعالى في حق زكريا: ﴿ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾ [الأنبياء: 90]، وقال تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ﴾ [النساء: 12].

ويقال للمرأة: "زوجة" في لغة تميم، انتحلها الفرضيون، فيقولون: هلك هالك عن زوجة، إذا كان المتوفى الرجل، ويقولون: هلك هالك عن زوج، إذا كان المتوفى المرأة.

وقد جاءت في السُّنة وفي كلام العرب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذكر نعيم أهل الجنة: ((ولكل واحد منهم زوجتان))[12].

وقال الفرزدق[13]:
وإن الذي يَسعى يُحرِّشُ زوجتي *** كساعٍ إلى أُسْدِ الـشَّرى يَستبيلُها


وقال الآخر:
فبكى بناتي شَجْوَهنَّ وزوجتي *** والظاعنونَ إليَّ ثم تَصدَّعُوا[14]


﴿ مُطَهَّرَةٌ ﴾ طهارة مطلقة خِلْقية وخُلُقية، من جميع النجاسات الحسية؛ كالغائط والبول، والحيض والنفاس، والمخاط والبصاق، وغير ذلك من الأذى والأقذار، ومن جميع الأنجاس المعنوية؛ كالغِلِّ والحقد، والحسد والغيرة، والكراهية والبغضاء، وغيرها من أمراض القلوب، ومن الإثم والفواحش، وسوء العشرة، والأخلاق السيئة، والصفات الذميمة، ونحو ذلك، وإذا كنَّ مطهَّراتٍ طهارةً مطلقة، فهنَّ كاملات الخَلْق والخُلُق.


﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ لما ذكر ما لهم من النعيم في الجنات مسكنًا ومأكلًا وأزواجًا، طَمْأَنَهم على دوام ذلك، وعدم انقطاعه عنهم؛ لأن من أعظم ما ينِّغص النِّعمَ في الدنيا توقُّعَ انقطاعها، كما قال المتنبي[15]:
أشدُّ الغمِّ عندي في سرورٍ *** تَحقَّقَ عنه صاحبُه انتقالَا


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.64 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]