الشـذوذ في الفتوى .. الأسباب والأبعاد
عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على من بعثه الله بالهدى واليقين؛ لينذر من كان حياً ويحقَّ القول على الكافرين.
أما بعد:
فثمة غاية عظيمة كبرى من غايات الإسلام، جاءت بها نصوص الكتاب في آيات بيِّنات كثيرات، ونادت بها السُّنة في أحاديث وافرات، وتوارد علماء الإسلام سلفاً وخلفاً على تأكيدها، وبيان ضرورة تفعيلها في حياة الأمة؛ لأن في تركها انشقاق العصا، واستحكام الشقاق.
إنها غاية مسلَّمة لا شية فيها عند أُولِي الرجاحة والنُّهى، الذين يهدون بالحق، وبه يعدلون؛ فإنهم موقنون بأن صلاح الأمة منبعث من هذه الغاية التي جلاَّها القرآن أعظم تجلية وأوضحها، فقال - تعالى -: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، وقال - سبحانه -: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْـمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)[النساء: 115 ] وقال: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 36]، وقال: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[الروم: 31 - 33].
إنها غاية لزوم الجماعة التي علَّق الله عليها تأييده ومعيَّته، كما في سنن الترمذي من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ))[1].
تأبى الرِّماح إذا اجتمَعْنَ تكسُّراً *** وإذا افترَقْنَ تكسَّرَت أفرادا[2]
وفي حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عَن ْرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ ذِئْبُ الإِنْسَانِ، كَذِئْبِ الْغَنَمِ، يَأْخُذُ الْقَاصِيَةَ وَالشَّارِدَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَامَّةِ وَالْجَمَاعَةِ))[3].
وإن من عزائم ما ينتظمـه حبـل الجماعة، الاجتماعَ على آراء العلماء الراسخين، بعيداً عن شواذ الأقوال وغرائب الفتاوى؛ فإن ثمة ظاهرةً أطلَّت في سماء الفتوى يصدق أن تكون مخاضاً لولادة الشذوذ العلمي والإغراب في الفتوى؛ ألا وهي ظاهرة الشذوذ في الفتوى.
إنها ظاهرة قد برزت في هذه الأعصر، وأصبحت مظاهر امتدادها لا تخفى على المُطالِع في أكوام من الفتاوى الشاذة الغريبة، مع فهم بارد سميج لميج[4] لكلام أهل العلم الراسخين.
وقد نتج عن هذه الظاهرة: قلَّة الأدب مع أهل العلم، والتعجُّل في الفتـوى، ومصـادرة قول الجماعة، والفهم المعوج، والتذبذب في الأقوال، والتناقض في الأفعال، وإعجاب ذي الرأي برأيه، في لهث عجيب على الفتوى في المسائل الكبار التي لو كانت في عهد عمر الفاروق لجَمَع لها أهلَ بدر.
وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، - رحمه الله -، فقال له رجل: ما يبكيـك؟ فقال: "استُفتي مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. قال: ولَبعضُ مَن يفتي ها هنا أحق بالسجن من السرَّاق"[5].
قال ابن القيم معلِّقاً: "قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام مَن لا علم عنده على الفتيا، وتوثُّبه عليها، ومدُّ باع التكلف إليها، وتسلُّقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكَر أو غريب؛ فليس له في معرفة الكتاب والسنَّة وآثار السلف، نصيب"[6].
قلت: فكيف لو شاهد ابن القيم متعالمي زماننا، ماذا سيقول؟
وقديماً قيل: (إذا كثر الملاحون غرقت السفينة)، وهي كلمة قديمة قالها أحد أئمة الإسلام يشكو فيها حفنة عفنة كدودة لزجة، متلبدة أسرابها في سماء غيرها، تقحَّموا في ما لم يُحسِنوا، ومن أقحم نفسه في ما لا يُحسِن أتى بالعجائب. خاضوا غمار البحار، من غير مهارة ولا دربة في الغوص، فانكشفوا وفضحتهم الأيام، وكل من يدَّعي ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.
وقد اشتكى ابن القيم - رحمه الله - امتحانه بهؤلاء فقال:
هذا وإني بَعْدُ ممتَحَنٌ بأر *** بعةٍ وكلُّهم ذوو أضغانِ
فظٌ غليظٌ جاهلٌ متمعلمٌ *** ضخمُ العمامةِ واسعُ الأردانِ
متفيهقٌ متضلِّع بالجهلِ ذو *** صَلَع وذو جَلَح من العرفانِ
مزجى البضاعةِ في العلومِ وإنَّه *** زاجٍ من الإيهام والهذيانِ
يشكو إلى الله الحقوقَ تظلُّماً *** من جهله كشكايةِ الأبدانِ
من جاهلٍ متطبِّبٍ يفتي الورى *** ويحيلُ ذاكَ على قضا الرحمنِ[7]
وإن من أعظم مغامز هذا الشذوذ أن أصبح روَّاده، وكأنهم ريشة في مهبِّ ريحٍ يومٍ عاصفٍ؛ تتقاذفهم الأهواء، وتتجاذبهم الآراء، وينفخ في رُوعِهم الإعلامُ؛ فطفق ملاَّك القنوات الفضائية، والصحف اليومية والأسبوعية يلمِّـعون هؤلاء، ويقدمونهم للناس على أنهم أصحاب علم، وأعلام هدى.
وإن لظاهرة الشذوذ في الفتوى أسباباً منها:
الأول: فقدان السُّنة المباركة في التلقي، وهي تلقِّي العلم في حِلَقِه وما يتبعها من مُشَامَّة الشيخ ومشافهته، ومجالسة أهل العلم، التي تصنع في النفس الصبر وطول النَّفَس ومِنْ ثَمَّ العمق والعقل والتأني، وكما قيل: مفاتيح العلم أربعة: عقل رجاح، وشيخ فتاح، وكتب صحاح، ومداومة وإلحاح.
قال الإمام الذهبي - رحمه الله - يشكو هذه الظاهرة في زمانه: "وأما اليوم، فقد اتسع الخَرق، وقلَّ تحصيل العلم من أفواه الرجال، بل ومن الكتب غير المغلوطة، وبعض النَّقَلة للمسائل قد لا يُحسِن أن يتهجى"[8].
إن فقدان هذه السُّنة أو ضَعْفها سبب أصيل لبروز ظاهرة الشذوذ في الفتوى، وبالأحرى إذا وردت موافقةً لشهواتهم ورغباتهم.
الثاني: الظن بأن كـل من نال طرفاً من العلم له حق الفتوى، وهـذه لَعَمري مراهقـة علميـة؛ فإن مِـن مِحَـن هـذا الزمان تصدُّرَ أقوامٍ للإفتاءِ، ليس لهم في مَقام الفتوَى حظٌّ ولا نصيب. غرَّهم سؤالُ من لا علمَ عنده لهم ومسارعةُ أجهلَ منهم إليهم.
والفتوى منزَّلة عليَّة لا ينالها إلا من تحققت فيه الشروط المقررة عند أهل العلم، ومنها:
• العلم بكتاب الله - تعالى - وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما يتعلق بهما من علوم.
• العلم بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية.
• المعرفة بأصول الفقه ومبادئه وقواعده، ومقاصد الشريعة، والعلوم المساعدة مثل: النحو والصرف والبلاغة واللغة والمصطلح وسائر علوم الآلة.
• المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم، وأوضاع العصر ومستجداته، وما بُنِي على العُرف المعتبَر الذي لا يصادم النص، وغير ذلك مما شَرَطه العلماء في المفتي ليكون أهلاً للفتوى، وأنت إذا تبصَّرت أحوال أهل العلم في هذا العصر، وجدت أن من يتصف بهذه الشرائط قلائل بين أهل العلم.
قال الإمام ابن حزم - رحمه الله -: "لا آفة على العلوم وأهلها أضرُّ من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها؛ فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون"[9].
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب"[10].
وقال بعض المصنفين: "الانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل به أحد فيه، ينبئان عن خلل في العقل"[11].
الثالث: حب الصدارة والتصدُّر في الفتوى؛ فكم ترى نِزالاً في حلائب العلم، يرومون مقاماته الشامخة من غير شموخ ولا نضج، ونَفْس الإنسان الطموح تتوق إلى هذه المنازل، ولكن الموفَّق يقهر ذلك بالمجاهدة، وهَضْم النفس، وكَبْح الجماح، ولو أن المرءَ أسلم الزناد للنَّفس لأسلمته للسقوط والهلكة.
إنَّ من الافتراءِ على الله - تعالى - والكذِب على شريعتِه وعبادِه ما يفعَله بعضُ المتعالمين من التسرُّع في الفُتْيا بغير علم، والقول على الله - تعالى - بلا حُجَّة، والإفتـاء بالتشهِّي والتلفيق، والأخذِ بالرُّخَص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبُّع الأقوال الشاذَّة المستنِدة إلى أدلَّة منسوخةٍ أو ضعيفة.
إن التعالم الخدَّاع هو عَتَبَة الدخول إلى جريمة القول على الله بغير علم، المحرَّمة تحريماً أبديّاً في جميع الشرائع، وهذا مما عُلِم من الدين بالضرورة، وعلى وجه أخص حينما تختلط الأوراق ويشيع الجهل، وفي حديث عبـد الله وأبي موسى - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ لَأَيَّاماً، يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ))[12].
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ))[13].
الرابع: غياب منهج السلف الصالح عند هؤلاء؛ فإن سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - كانوا أبرَّ هـذه الأمة قلوباً، وأعمقها هدياً، وأقلَّها تكلُّفاً، كانوا - رضوان الله عليهم - أعظم الناس ورعاً، وأقلَّهم في الدين كلاماً، وربَّما سئل أحدهم سؤالاً فيحيلـه على أخيه، وأخوه يحيـل علـى غيـره، وهكذا لا يزال السائل ينتقل من واحد إلى آخر حتى يرجع السؤال إلى الأول.
يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى - رحمه الله -: "أدركت بهذا المسجد (يعني مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) عشرين ومائة من أصـحاب رسـول الله كلهـم يُسـأَل عن المسـألة فيقـول: لا أدري)[14].
وهذا أبو بكـر الصديق - رضي الله عنه - على المنبـر الشريف يقول: "أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ؟"[15].
وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الإمام الفاروق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، مَن ضرب الله الحقَّ على قلبه ولسانه، ومن لو رآه الشيطان سالكاً فجّاً لسلك فجّاً غيره، يقرأ قول الله - عز وجل -: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)[عبس: 31]، ثم يقول وهو على المنبر: "هذه الفاكهة، فما الأبُّ؟، ثم يقول: إن هذا لهو التكلف يا ابن الخطـاب! وماذا على ابن أمِّ عمر لو جهل آيةً في كتاب الله؟"[16].
وهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "وأبردها على الكبد قيل: ما هي؟ قال: لا أدري"[17].
وهذا عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - يقول: "العلم ثلاثة: آيةٌ مُحْكَمة، وسُنة ماضية، ولا أدري"[18]؛ فقد جعل (لا أدري) ثلثَ العلم، وجعلها غيره نصف العلم، وهكذا حتى أثمرت هذه الشجرة ثماراً مباركة فقعَّدت للدين قواعده، وثبَّتت أصوله، ومهَّدت فروعه.
جاء في سير أعلام النبلاء[19]: "أن أبا شهاب الحناط قال: سمعت أبا حصين (وهو عثمان بن عاصم) يقول: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر: لجَمَع لها أهل بدر".
لذا فليكن قول: "لا أدري" شـعاراً للمسـلم في حيـاته في ما لا يعرفه من أحكام الشرع، وهذه ملائكة الرحمن تقول ذلك في ما لا تدريه.
قال - تعالى -: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْـمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْـحَكِيمُ)[البقرة: 31 - 32].
وما زال هذا العلم الشريف وهذا المنهج الرائد يحمله من كل خَلَفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، حتى نبتت في زماننا هذا نابتة لها ضجيج بين الناس، يكتبون كلاماً ويلقونَه.
إنْ أحسنَّا الظن بهم قلنا: هم على جهلٍ عظيم، وإنْ حكمنا عليهم بما ظهر لنا منهم قلنا: قلوبهم تنطوي على دخن.
وتتأزم الفتنة بهم حين يكون أحدهم عليم اللسان، يُجادِلُ بالقرآن ويسرد على كلامه أدلَّةً، ويسوق براهين يحسبها الناس براهين للوهلة الأولى، ولكنها في حقيقة الأمر غُوْلُ[20] العلم.
وكم من فقيهٍ خابطٍ في ضلالةٍ *** وحجَّته فيها الكتابُ المنزَّل
يلبَسون مسوح العلم، وكأنهم أهله المدافعون عن بيضته، الذائدون عن حماه الناطقون بكلمته وهم في حقيقة أمرهم يهدمون صروح الدين.
قال عمر - رضي الله عنه -: "ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون"[21].
وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "إن مما أخشى عليكم: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن"[22].
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم: "هلك المرتابون، إن وراءكم فتناً يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأت القرآن، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره، وإياكم وما ابتدَع؛ فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقَّوا الحق عمَّن جاء به؛ فإن على الحق نوراً. قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمـة تَرُوْعُكـم وتنكـرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته ولا تصدنَّكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق، وإنَّ العلم والإيمان مكانَهما إلى يوم القيامة؛ فمن ابتغاهما وجدهما"[23].
الخامس: وازع الهوى الخفي الذي قد لا يتبصره المفتي ولا يعلمه؛ لأن للهوى خيطاً دقيقاً في النفوس يَحْكمها ويَسْري في أعماقها؛ حتى تظن حسناً ما ليس بالحسن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "وللشريعة أسرار في سدِّ الفساد وحَسْم مادة الشر؛ لعِلْم الشارع بما خفي على النفوس من خفيِّ هواها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة؛ فمن تحذلق على الشارع وقال في بعض المحرَّمات: إنما حرمها لعلة كذا، وهي مفقودة هنا. فاستباح ذلك بهذا التأويل، فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربِّه"[24].
وقال - رحمه الله -: "ما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانَّة أنها تفعله طاعة لله"[25].
وقال أيضاً معلقاً على قوله - تعالى -: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْـحِسَابِ)[ص: 26]: "فبيَّن أن اتباع الهوى يُضلُّ عن سبيل الله؛ فمن اتبع ما تهواه نفسه أضلَّ عن سبيل الله؛ فإنه لا يكون الله هو المقصود، ولا المقصود الحق الذي يوصل إلى الله؛ فلا قَصَـد الحـق، ولا ما يوصـل إلـى الحـق؛ بل قصـد ما يهواه من حيث هو يهواه"[26].
السادس: الظن بأن الأخذ بمبدأ التيسير والرخصة هو الأصلح دائماً، وغاب عنهم أن الإسلام هو اليسر، وليس اليسر هو الإسلام؛ فحدث جراء هذا تتبُّع الرخص والجري وراءها هروباً من التكاليف، وتخلُّصاً من الواجبات، وهدماً لعزائم الأوامر والنواهي، وتوهيناً لمسير العبد في مدراج العبودية، ومنازل التألُّه والتذلل في مقام الألوهية، وهضماً لحقوق عباده.
وقد اعتبر العلماء هذا العمل فسقاً[27]، وحكى ابن حزم الإجماع عليه[28].
قال ابن عباس: "ويل للأتباع من زلة العالم"[29].
وقال سليمان التيمي: "لو أخذتَ برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله"[30].
وقال الإمام أحمد: "لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً"[31].
وقال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام"[32].
وروى الخطيب بسنده عن إبراهيم بن أدهم، قال: "إذا حملت شاذَّ العلماء حملت شراً كثيراً"[33].
وقال ابن حزم - رحمه الله تعالى - في كلامه على أنواع الاختلاف: "... وطبقة أخرى، وهم قوم بلغت بهم رقَّة الدين، وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كلِّ قائل؛ فهم يأخذون ما كان رخصة من كل قول عالم مقلدين له، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله - تعالى - وعن رسول - صلى الله عليه وسلم –"[34].
ويقول الذهبي - رحمه الله -: "من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رقَّ دينه"[35].
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: من هجم على مثل هذه الأقوال الشاذة واعتمدها في نَقْله وفتواه، فقد تتبع الرخص ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها... وما أحسن ما قيل:
والعلمُ ليس بنافعٍ أربابَه *** ما لم يُفِد نظراً وحُسْن تبصُّر[36]
وفي هذا الصدد يجب الإنكار على كل من اتبع هواه في الأخذ بفتاوى المتساهلين من المفتين، ومن اتبع هواه بتبنِّي الفتاوى الشاذة القائمة على حب المخالفة، وسعى لها سعيها، وجهر بها بين الناس.
والواجب على العامي أن يسأل أهل العلم الذين يثق بدينهم وعلمهم.
وأما من عُرِف بالتساهل وتتبُّع الرخص وعدم الحرص على اتباع السُّنة، فلا يجوز لأحد أن يستفتيَه، ولا أن يعمل بما يفتيه به.
وليس كل قول قاله عالم أو متعالِم، صحيحاً، وليس كل ما قاله فقيه حقاً، إلا قولاً له حظٌ من الأثر أو النظر، وقديماً قال الإمام مالك - رحمه الله -: "كلٌّ يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم –"[37].
وإذا كثرت الأقوال الشاذة من شخص مَّا، فإنه ينبغي أن يُحَذَّر منه؛ لئلا يغتر به العامة، من غير استرسال في الطعن بذاته، وينبغي الترفع عن القول المُسِف في شخصه أو الطعن في ذاته أو نسبه؛ فليس هذا سبيل أهل الرشد في هذه المواطن، بل سبيلهم بيان الخلل وكشف الزلل في القول دون الولوج في ذوات الأشخاص والإقذاع في العبارات، مع التأكيد الشديد على زجر من اختار هذه الأقوال الشاذة، واعتمدها، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها.
ونحن نعلم أن من واجب الجاهل أن يسأل عن دينه، وأن يقلد من يستفتيه، ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه؛ وبخاصة إذا علمنا أن ذاك العامي الجاهل يتقصد الأخذ بمن عُرِف عنه قلَّة العلم، أو قلَّة الدين، أو من اشتهر بالشذوذ عن جماعة العلماء.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "العالم قد يزل ولا بد؛ إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله وينزَّل قوله منزلة قول المعصوم؛ فهذا الذي ذمَّه كل عالم على وجه الأرض وحرَّموه وذموا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم؛ فإنهم يقلدون العالم في ما زلَّ فيه وفي ما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولابد، فيحلُّون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، ويشرِّعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك؛ إذ كانت العصمة منتفية عمَّن قلدوه فالخطأ واقع منه ولابد.
وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا عن أبيه عن جدِّه مرفوعاً: ((اتَّقُوا زَلَّةَ الْعَالِمِ وَانْتَظِرُوا فَيْئَتَهُ))[38]، وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أَشَدُّ مَا أَتَخَوَّف عَلى أُمَّتي ثَلاثٌ: زَلَّةُ عَالِمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ))[39].
ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليدُه فيها؛ إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره؛ فإذا عرف أنها زلَّة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين؛ فإنه اتباع للخطأ على عمد ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه وكلاهما مفرط في ما أُمِر به"[40].
والشذوذ في الفتوى ليس جديداً بل هو قديم قدم الأيام، ولكنه في هذا الزمن يلقى رواجاً عريضاً من شرائح المسلمين بفعل الإعلام الذي يحتفي فيه بعض سدنته بالشذوذ لطيِّ صفحة الحق ومد ظل الباطل وضلاله.
يتبع