القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد" 1
محمد ويلالي
تقديم:
هذا بَحث مُقتضب، حاولت فيه - جهدي - أنْ يَجمع بين المعايير الأدبية والفنية كما أرسى قواعدَها نُقَّادُنا القُدامى، وبلورها النُّقادُ المحدثون، وبين الأصول والمبادئ العقدية، بحسب الضَّوابط والاحتياطات التي وجَّهَتِ الشريعةُ الإسلامية الأدبَ إليها؛ إسهامًا في تقويةِ هذا الجانب من الأدب، الذي يخدم الدعوة الإسلامية، ويسير في رَكْبِها.
وقد تَمَّ اختياري لديوان "محمود غنيم": "صرخة في وادٍ" لإجراء النَّظرة التطبيقِيَّة في ضَوئه؛ لِمَا الْتَمَسْتُ فيه - إلى جانب البراعة الفنية - من التزامٍ كبير بقضايا الأُمَّة، التي جاءت شريعتنا لإرساء قواعِدِها، وجَعْلِ الشعر أداةً طَيِّعَةً لهذا المشروع، إضافةً إلى ما يَتمَيَّز به الشاعر "محمود غنيم" من تطويعٍ للغة؛ مِمَّا يثبت صلاحِيَّتها لحمل معاني هذا النوع من الأدب، الذي قد ينعت بـ"الأدب الإسلامي"، أو "الأدب الديني"، أو "أدب الدعوة"، وليتخذ مكانًا له بجانب الأنواع والاتِّجاهات الأدبية الأخرى.
وقد شمل هذا البحثُ فصولاً ثلاثة، ومقدمة، وخاتمة، وفِهرسًا للموضوعات.
أمَّا الفصل الأول:
فتحدثت فيه عن الإسلامِيَّة في الأدب ومُقوماتِها، وقَسَّمْته إلى مباحثَ أربعة، هي:
1- الإنسان والكلمة.
2- دور الأدب - والشعر خاصَّة - في الدِّفاع عن العقيدة.
3- علاقة الأدب بالعقيدة.
4- نحو مذهب أدبي إسلامي.
وأما الفصل الثاني: فقد شمل الحديثَ عن القضايا الإسلامية في شعر محمود غنيم، وقدمت لذلك بنقاط ثلاث:
1- نبذة عن حياة "محمود غنيم".
2- مكوناته الثقافية، ومكانته الشعرية.
3- بين يدي الديوان.
ثم قسمت هذا الفصل إلى مباحث خمسة:
1- القضايا العقدية: وقد شمل الحديث عن مطالب خمسة:
أ- الحث على التمسُّك بمبادئ العقيدة.
ب- الأخلاق ودورها في النهوض بالمسلمين.
ج- معاول هدم.
د- الحكومة الإسلامية.
هـ- صورة الماضي في شعره.
2 - القضايا الاجتماعية: وقد شمل الحديث عن مطالب خمسة:
أ- حالة غنيم الاجتماعية، واهتمامه بقضية الفقر.
ب- أسباب الضعف المادي في مصر آنذاك.
ج- الأخلاق في المجتمع المصري.
د- موقف المسلمين من الحضارة الغربية.
هـ- بين الشرق والغرب.
3 - القضايا الوطنية: وشمل الحديث عن مطالب.
4 - وقفة إنصاف: شملت الحديث عن مطالب ثلاثة:
أ- المغالاة في التشبيه.
ب- الغلو في المدح.
ج- موقفه من المرأة.
وأما الفصل الثالث:
فهو عبارة عن دراسة فنية للديوان، وقد شمل الحديث على المعاني والأفكار، بما فيها التعبير، والصياغة، والأسلوب، والألفاظ، وقضية المحافظة والتجديد، واللغة، وطول النفس، وبناء القصيدة، وموقف "محمود غنيم" من الشعر الحر، والوحدة العضوية، وظاهرة شعر المناسبات، والتصوير البياني، والخيال ثم العاطفة.
وشكري الجزيل إلى فضيلة المشرف "د. عبدالباسط بدر"؛ لتفضله بقراءة البحث قراءة فاحصة، وتزويدي بتوجيهاته القيمة، ونصائحه المفيدة، والله الموفق.
الفصل الأول: الإسلامية في الأدب
المبحث الأول: الإنسان والكلمة:
من طريف ما عرف التَّاريخ الإنساني هذه الصِّراعات التي تدور بين المتطلبات النفسيَّة، من تَحقيق الرغبات الباعثة على الاستجابة لهوى النَّفس ونزواتِها، وبين الأهداف العقليَّة الرصينة، الباعثة على العمل والعزم، مع تحقيق الذَّات، والتسامي بها إلى المثال والقدوة.
وبين هذين الطَّرفين غير المتعادلين يَسْبَحُ الكثير، ويشقى أو يَسعد الكثير، وحَقُّ الإنسانية ألاَّ تنزلق في دَهْسِ المتطلبات الأولى، باعتبارها تافِهَة ظرفية مَحدودة، وإنَّما حَقُّها أن تؤدي الرِّسالةَ البشرية السامية، التي تدور في إطارِ التعلُّق بقدوة وملهم ومرشد، لا يُمكِن للإنسان أن يعيش من دونه، ولا يستطيع الفكاك منه بأيِّ حال من الأحوال.
وتتمثل هذه التبعيَّة في إيجاد قانون شامل يلتمس فيه النجاح والصلاح، وهو طريقُ تَحقيق العُبُودية لله وَحْدَه.
وإذا نحن بَحثنا في مقومات هذه الطريق، والأسس التي يَجب أن تقيم صرحها عليها، علمنا أنَّ "الكلمة" كان لها الدَّور الفَعَّال في تَحقيق النصر والغلبة، والبُعد عن الخبط والجلبة، وأكبر مُمثل لهذه المسألة تاريخُنا الإسلامي، وكيف كانت "الكلمة" تفتح الصُّدور، وتغزو القلوبَ؟ وكيف كانت ترفع من قيمة الفرد إلى عَنَان السماء، أو تُرْدِيه إلى الحضيض؟ وكيف كانت تُرِي للناظر أو السامع الشيءَ في غاية الجمال والرَّوْعة، ثم ما تلبث أن تلعب بعواطفه ووجدانه، فيجعل ذلك الشيء نفسه مطلخِمًّا مُظلمًا؟
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ *** وَإِنْ تَعِبْ قُلْتَ ذَا قَيْءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا وَمَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا *** سِحْرُ الْبَيَانِ يُرِي الظَّلْمَاءَ كَالنُّورِ
وهل القرآن في بادئ إقناعه، ومقدم دلائله وبراهينه، إلاَّ كلمة نفذت إلى أعماقِ القوم، وسَرَت في حسهم مَسْرَى الدم في العروق، فحركت كلَّ ذرة في دواخلهم، وهَزَّت كل كيان في وجدانهم وأحاسيسهم؟ فآمن مَن آمن اقتناعًا واعترافًا، وصد من صد عنادًا وتَحديًا واعتراضًا؛ قال الله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)[البقرة: 26]، وقال - تعالى -: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)[النمل: 14].
لماذا - إذًا - كان للقرآن الكريم هذا التأثير البالغ، وهذا الاستحواذ على النفوس والقلوب جميعًا؟ لماذا لَم يَملِك القرشيُّون من أمرهم إلاَّ أن يُحَرِّضوا أصحابَهم على عدم قراءته، أو الالتفات إليه، وقالوا: (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26]، في حين لم تهز الحركات الدينيَّة السابقة منهم شعرة واحدة؟ ألَم يكن في المجتمع القرشي من يدعون إلى الحنيفيَّة من كبار الخطباء، كـ"قس بن ساعدة"، و"أمية بن أبي الصلت"، و"ورقة بن نوفل"، كما كان منهم الدُّعاة إلى اليهودية والنصرانية، المتمثلون في أهل الكتاب المنتشرون في الجزيرة العربية وحولها؟
لقد كان هؤلاء كلهم ينزعون لمعتقداتهم، وكان كلُّ فريق منهم يدعو من استطاع إلى دينه وطريقته، ولكن لم يخبرنا التاريخ - إطلاقًا - بأنَّ قريشًا قامت بحرب ضِدَّ دَعْوةٍ من هذه الدَّعوات؛ لأَنَّها - على الرغم من مكانة أصحابها، وعُلُوِّ مرتبتهم وتأثيرهم - كان القرشيون يُحِسُّون بتفاهتها، وأنَّ تأثيرها لا ينجم عنه أدنى خطر على أصنامهم، ومركزهم الاقتصادي، ووضعيتهم الاجتماعِيَّة، وهيمنتهم السياسية، ولكن فَوْرَ بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - رُجَّ هؤلاء في نفوسهم رَجًّا بَليغًا، وهُزُّوا هَزًّا عنيفًا؛ لأَنَّ الدَّعوة الجديدة لم تتخذ سبيلَ الدَّعوات الباردة السابقة، وإنَّما راعت أهم ما يمتاز به القوم ويعتزُّون به، وهو "الكلمة"؛ لغتهم التي كانت تشكل النسْغَ الأساسَ في تَحقيق هُويَّتِهم، والرفع من مكانتهم؛ لِمَا لها من اتِّصال شديد بالأنساب، التي كانت لها قيمة كبيرة في نفوسهم، فكان الواحد منهم لا يكاد تبلغُ أذنيه آيةٌ من القرآن أو آيات، حتى يُحدد موقفه على الفور من استجابةٍ أو إعراض، وكان أمرًا باهرًا أن يؤمن به عددٌ غير يسير، في اللحظة التي عملت قريشٌ - خلالَها - بكل جهدها ووسائلها أن تَمنع الناس من الاستماع لهذا "السحر" الجديد، الذي لم يكن لهم به من قبيل.
ويزداد أمرُ "الكلمة" خُطُورةً، حين نعرف أنَّ عجز هؤلاء عن معارضة القرآن لم يكن ناتِجًا عن "صرف" لهم عن ذلك، أو عن تَحَدٍّ بما هو يُجاوز الطاقة، وإنَّما كان التحدي مَمَّا يُجيدونه نفسه ويحبكونه ويُحرزون فيه قصب السبق؛ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف: 2]، كما كان هذا التحدي لا يعدو حدودَ اللغة والمفردات الظاهرة، دون المطالبة بجودة معنى، أو مُحاذاة فكرة، كما قال الله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ)[هود: 13 - 14].
والمتأمل في هذه الآية يرى أن التحدي وقع بأمور متعددة:
1- أنه تنزل في التحدي من أن يأتوا بمثله كُلِّه؛ كما في قوله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)[الطور: 33 - 34]، إلى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات؛ كما في قوله - تعالى -: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[هود: 13]، فلَمَّا لم يستطيعوا، تحدر معهم إلى أن يأتوا بمثل سورةٍ واحدة مثله؛ كما في قوله - تعالى -: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 23].
2- إثارة المشاعر وروح التحدي في دعوتهم؛ للاستعانة بمن استطاعوا من غير الله - تعالى - من جن أو إنس، كما أخبر - سبحانه - في سورة أخرى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88].
3- تأكيدًا لمعرفة الله - تعالى - السابقة بعجزهم عن مُعارضته، فقد سهل الأمر أمامهم في أن يأتوا بهذه السور العشر مُفتراةً، دون اشتراطِ المعقولية الفكرية، أو مُضاهاة المضمون، فلَمَّا عجزوا عن الشقِّ الأول، تبيَّن أنَّهم عن الثاني أعجز.
4- الإثارة البالغة لمحاولة المعارضة بقوله - تعالى -: (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 23] دلالة على هزيمتهم، وعدم مقدرتهم، على الرَّغم من أنَّهم أرباب اللغة، وأوتاد الفصاحة.
ويزداد الأمر خطورة، إذا عرفنا أنَّ هؤلاء العرب لم يكونوا بالسذج البُسطاء، ولا بالدهماء الغمر، وإنَّما كانوا على نصيب من الثَّقافة والمعرفة، وحسبهم أن تجسد هذه المعرفة وتلك الثَّقافة اعتناءَهم بعربيتهم، واهتمامهم بالسليقة، إضافةً إلى أن النقوش تثبت معرفتهم بالكتابة.
يقول كارل بروكلمان: "وليست أراضي الشمال في نجد وتهامة غنية بالنقوش والآثار الكتابية مثل بلاد الجنوب، وإن وجدت دلائل على بعض اتجاهات الحياة الدينية في النقوش المسماة تسمية غير دقيقة بـ "النقوش الثمودية" و"اللحيانية"، وكذلك في"النقوش الصفوية" على مقربة من دمشق"[1].
فهناك - إذًا - كتابة، وإن كانت يسيرة غير مُؤثرة، غير أنَّ مُجرد وجودها - كيفما كان حجمها وكَمُّها - دليل على أن القوم ليسوا في مطلق "الجاهلية"، ويزيد الأمر تأكيدًا ما قاله ناصر الدين الأسد: "وَصَلْنا - بعد الذي قَدَّمْنَا من شواهدَ وأدلة - إلى مفصل من الأمر نطمئن عنده إلى أن الكتابة كانت شائعة عند عرب الجاهلية، شيوعًا يكفي لأن ننفي عنهم ما ألحقه بهم التاريخ الأدبي من وصمة الجهل والأمية"[2].
ووجود الكتابة في هذا العصر، الذي يُعَدُّ مُقدمةً لظهور نضج فكري، ظهرت بوادره مع مَجيء الإسلام - ليس بدعًا في التاريخ، بل إنَّ المجتمعات القديمة الأخرى - كالإغريق والفينيقيِّين والمصريين - عرفوا أيضًا الكتابة قبل الانتقال إلى مرحلة الإنتاج الذي وَصَلَنا عنهم.
وكذلك، فليس المجتمعُ الجاهلي في هذه الدرجة القُصوى من سوء الأخلاق والمعاملات مُطلقًا، بدليل أنَّ القرآن لم يغير المجتمع تغييرًا كليًّا شاملاً، وإنَّما هناك تقريرات مُتعددة ثابتة، كتقرير خصلة الشهامة، والشجاعة، والكرم وغيرها.
وقوم عرفوا الكتابة، واستعملوها في نقش الآثار الدينية والقانونية على الحجارة منذ ألف عام قبل الميلاد - على الأقل[3] - كانوا - لا شَكَّ - على عِلْمٍ بالأساليب المختلفة، وتَمييز صحيحها من رَديئها؛ ولذلك جاء أمر الله - تعالى - لنبيه بأن يخاطبهم بأبلغ القول: (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا)[النساء: 63].
ومما يدُلُّ على قوتهم اللُّغوية وبراعتهم الكلامية، ما وصفهم به - عز وجل - حين قال: (فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ)[الأحزاب: 19]، وذلك أنه يقال: سلق فلانٌ فلانًا بلسانه، إذا أغلظَ عليه في القول مجاهِرًا؛ قال الفراء: بألسنة سليقة ذربة، ويقال: خطيب مسلاق: إذا كان بليغًا[4].
وفي هذا دليلٌ على أنَّ القومَ كانوا ذَوِي نباهة بصنوف الكلام، ودِراية بفُنون القول؛ ولذلك وجب الحذر في مكالمتهم، والتأني في مُخاطبتهم؛ حتى لا تستعمل إلاَّ "الكلمة" البليغة، المؤدية للمُراد من الإقناع والتأثير؛ قال - تعالى -: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)[البقرة: 204]، ومثله قوله - تعالى -: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)[الزخرف: 58]؛ قال الشوكاني: "الخصام مصدر خاصم، والمعنى أنَّه أشدُّ المخاصمين خصومة؛ لكثرة جداله وقوة مراجعته"[5]، وكذلك قوله - تعالى -: (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)[المنافقون: 4]، وفي كلِّ ذلك دليلٌ على أنَّهم لا يتكلمون إلاَّ ببلاغة فائقة، وبيانٍ ساحر، يستحقُّ أن يسمع له، ولا يسمع إلاَّ لقولٍ له ثقله وميزانه، كما أخبر - تعالى - عن القرآن الكريم بقوله: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) [الأعراف: 204]؛ حيث إنَّ الاستماعَ يكون بالأذن، باعتبارها الأداةَ الخارجية لتوصيلِ المسموع إلى القلب، ثم الإنصات الذي يستدعي الاتجاه الكلي بالقلب والحس والجوارح لاستقبال ما يقرأ.
والنصوص من هذا القبيل أكبرُ من أن يستوعبها هذا الملحظ، وكلها قاطعة في أنَّ القرآن مُعجز في بلاغته، وأنَّ استعمال "اللفظ" الاستعمال الحسن، وجمال الصورة التركيبية - يَملكان على المستمع كل حسه وعقله، ومنها قصص إسلام الجهابذة من أهل الجاهلية، كعمر بن الخطاب - مثلاً - الذي سمع بعضَ آيات من سورة "طه"، فقال من فوره: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! "[6].
وكذلك قصة إسلام جبير بن مطعم بن عدي، الذي سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - لما جاءه يريد أن يفاديه - يتلو سورة "الطور"، فلما سمع قوله - تعالى -: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)[الطور: 7 - 8] حتى أحس بالإسلام يغزو قلبه، فَيُهْرَعُ بإعلان إسلامه، وهو يقول: "خشيت أن يُدركني العذاب"، وفي لفظ: "كاد قلبي يطير، فأسلم"[7].
وكذلك قصة إسلام بني الأشهل عن بكرة أبيهم، بعد أنْ أسلم سيدُهم: سعد بن معاذ، بعد أنْ سَمع آيات من كتاب الله[8].
ولعلَّ ما تقدَّم كافٍ في إثبات دَوْرِ "الكلمة" في غزو النُّفوس، وتَحريك الوجدان والفكر، وإحداث التغيير، سواء منه الإيجابي أم السلبي، كما تبيَّن أنَّ "الكلمة" القرآنية المعجزة، باستهدافها للخير المطلق، قد أدَّت دورها كاملاً، واستوعبت عوارضَ الزمان والمكان، وصدق الله إذ يقول: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[إبراهيم: 24 - 25].
المبحث الثاني: دور الأدب - والشعر بخاصة - في الدفاع عن العقيدة:
لا يرتاب أحدٌ في أنَّ السلاحَ الأقوى الذي كان للعرب في جاهليتهم، وحتى مَجيء الإسلام - هو "الشعر"، تلك الأداةُ التي كانت ترفع قبيلةً بأتَمِّها إلى عَنان السماء، وتضع أخرى إلى الحضيض، تلك الأداةُ التي كانت القبيلةُ الواحدة، إذا نشأ فيهم من يَملكها ويحبكها، أقامت الحفلات ودَقَّتِ الطبول، كأنَّما هو قوة هائلة أُضِيفت إلى أسلحتها القديمة.
فبالشعر تدافع القبيلة عن نفسها، وبالشعر تفعم الحماسات، وتكبر الآمال، ويتطلع إلى الأفضل، وبالشعر تتفاضل المواهب، وتتمايز القدرات، كما قال الشاعر:
"الشِّعْرَ لَوْلاَ الشِّعْرُ مَا *** شَبَّتْ عَلَى الطُّغْيَانِ ثَوْرَةْ
الشِّعْرَ إِنَّ الشِّعْرَ مِي *** زَانٌ وَبُنْيَانٌ وَقُدْرَةْ
الشِّعْرَ إِنَّ الشِّعْرَ إِي *** مَانٌ وَبُرْهَانٌ وَعِبْرَةْ" [9]
ولعلَّ في هذين الموقفين ما يُدلِّل على أنَّ الشعر كان أقوى أداةٍ للاستجابة أو الرفض، أوَّلُ هذين الموقفين: شعر الحطيئة في "بني أنف الناقة"، الذين كانوا "يستحيون من لقبهم، ويَخجلون إذا ذكروا به، فجاء الحطيئة، فمدحهم بقوله:
سِيرِي أُمَامَ فَإِنَّ الْأَكْثَرِينَ حَصًى *** وَالْأَكْرَمِينَ إِذَا مَا يُنْسَبُونَ أَبَا
قَوْمٌ هُمُ الْأَنْفُ وَالْأَذْنَابُ غَيْرُهُمُ *** وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا
قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ الْعَيْنِ جَارُهُمُ *** إِذَا لَوَى بِقُوَى أَطْنَابِهِمْ طُنُبَا
فرفع بهذا المدح هامتهم، وأشاع بذلك شرفهم، فكانوا أشدَّ الناس فخرًا بلقبهم، بعد أن كانوا يغضون من أصواتهم، ويخفضون من رؤوسهم"[10].
فانظر إلى أيِّ حدٍّ استطاعت أبياتٌ يسيرة من الشعر أن تعملَ في نفوس القوم، فينتقلون من ذُلٍّ ومهانة، إلى عِزٍّ ومَكانة.
وأمَّا الموقف الثاني، فهو ما يُمثله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من لين نفس، وفتور شِدَّة، حينما سمع أبياتًا من الحطيئة تعصر القلب، وتبعث في النفس الشجى، فقد كان الحطيئة هَجَّاءً، هاتكًا للأعراض، فسجنه عمر بن الخطاب، ثم عندما أُحْضِرَ من سجنه للمحاكمة، لم يزدِ الحطيئةُ عن قول بضعةِ أبيات شعرية، كان لها أبلغ الأثر في قلب عمر بن الخطاب، وذلك قوله:
مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ *** زُغْبِ الْحَوَاصِلِ لاَ مَاءٌ وَلاَ ثَمَرُ
أَلْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ *** فَاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلاَمُ اللَّهِ يَا عُمَرُ
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ *** أَلْقَتْ إِلَيْكَ مَقَالِيدَ النُّهَى الْبَشَرُ
لَمْ يُؤْثِرُوكَ بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا *** لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِهَا الْأَثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ *** بَيْنَ الْأَبَاطِحِ تَغْشَاهُمْ بِهِ الْقِرَرُ
أَهْلِي فِدَاؤُكَ كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمُ *** مِنْ عَرْضِ دَاوِيَةٍ يَعْمَى بِهَا الْخَبَرُ
فبلغ التأثير من عمر - رضي الله عنه - أَنِ انحدرت الدُّموع من عينيه؛ مِمَّا جعله يتراجع في قراره بالسجن، ويطلق سراحه[11].
وما كان لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو الرجل الشديد أنْ يَلينَ جانبُه بهذه الصورة، لولا التأثيرُ البالغ لهذا الشعر في نفسيته، كما يدل على سَلامة ذائقته للشعر، وفهمه لمعانيه.
ويزداد الاهتمام بالأدب، وتتضح معالِمُ القوة والطاقة التي يَمتلكهما الشاعر أو الخطيب، حينما يصبح سلاحًا يثبت دوره في أشدِّ المعارك، وأحلك الظروف.
فقد جاء وَفْدُ بني تَميم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا محمد، جئناك نفاخرك، فَأْذَنْ لشاعرنا وخطيبنا؟ قال: ((قد أذنت لخطيبكم، فليقل))، فقام "عطارد بن حاجب"، فألقى خطبته، ثم رد عليه خطيبُ الرسول: "ثابتُ بن قيس بن الشماس" لما قال له: ((قُم فأَجِبِ الرجلَ في خطبته))، ثم قام شاعرهم: "الزبرقان بن بدر"، وقال شعرًا يفخر فيه بنفسه وعشيرته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: ((قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال))، فأجاب بقصيدته المشهورة التي مستهلها:
إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتَهُمْ *** قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
عند ذلك قال أحد أشراف بني تميم - وهو الأقرع بن حابس -: "وأبي، إنَّ هذا الرجل لمؤتى له، لَخطيبه أخطبُ من خَطيبنا، ولشاعِرُه أشعرُ من شاعرنا، ولأصواتُهم أعلى من أصواتنا، ولهم أحلمُ منَّا"[12]، ثم لَم يَلْبَثِ القومُ أن أسلموا.
ولأهمية الشِّعْرِ في الإسلام، وما يَختص به من نفع كبير من حيث الدَّعوة إلى المبادئ الطيبة، والتوجيه إلى الأخلاق السامية، رأينا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تتعدد مواقفه في مدح الشعر والشعراء، من ذلك ما رواه الإمامُ مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه أنَّه قال: "ردفت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: ((هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟))، قلت: نعم، قال: ((هيه))، فأنشدته بيتًا، فقال: ((هيه))، ثم أنشدته بيتًا، فقال: ((هيه))، حتى أنشدته مائةَ بيت، وفي رواية قال: ((إنه كاد ليسلم))"[13].
ومما رواه مسلم - أيضًا - عن رافع بن خديج قال: "أعطى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حنين أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، وأعطى عباسَ بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَي *** دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلاَ حَابِسٌ *** يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا *** وَمَنْ يُخْفَضُ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعُ
قال: فأتمها له رسول الله[14] - صلى الله عليه وسلم - مائة".
فانظر كيف استجابَ الرسول لعباس بن مرداس، بعد سَماعه لتلك الأبيات، التي أدَّت دَوْرها - كاملاً - في الإقناع والتأثير.
والنصوص في هذا المجال عديدة، تتلَخَّص في أن الشعر كان من أهمِّ الأسلحة التي كانت تقع على النَّفس كأنَّها السهام في غبش الظلام، بل أشد، كما أخبر بذلك - عليه الصلاة والسلام - حين أمر شعراءَ المسلمين بقوله: ((اهجوا قريشًا؛ فإنه أشد عليها من رشق النبل))[15]، وقال: ((هجاهم حسان، فشفى واشتفى))[16].
المبحث الثالث: علاقة الأدب بالعقيدة:
يجدر بنا - ونَحن نُحاول إبرازَ مظاهر "الإسلامية" في الأدب - أنْ نُحدِّدَ منطلقنا أولاً؛ حتى نطمئِنَّ إلى البحث عن هذه المظاهر، وذلك بمعرفة: هل ترسيخُ علاقة الدين بالأدب أمر طارئ أمْلَته طبيعةُ التغيرات المعاصرة، أو هو امتداد لدعوات إنسانية استلزمتها طبيعةُ الأدب وطبيعة العقيدة معًا؟ هذا ما سنحاول توضيحه جليًّا، من خلال استعراض يسيرٍ لمسيرة مصاحبة الأدب للعقائد، كيفما كان نوعها ومصدرها، وكيفما كان زمانها ومكانها.
لقد دلت الدراسةُ الحديثة للجذور الأولى لفن القول على أنَّ الأدبَ لم ينشأ - في أي زمان وفي أي مكان - منفردًا منعزلاً عن ظاهرة المعتقد، بل إنَّه لا يُمكن تصوُّر أن "يعيش الأدب منضوحَ البيان بالسحر الحلال وفصل الخطاب، إلاَّ في حمى الدين"[17]، وهذا ما أجمع عليه دارسو تاريخِ الآداب العالمية - حسب اطلاعي - بل إنَّ المؤرخين من المسلمين ومن غير المسلمين - وهم يبحثون في نشأة الإنسان والمراحل التي قطعها عبر الأزمان - وقفوا مليًّا عند قضية أسبقية الوثنية على التوحيد أو العكس.
فعامة المؤرخين غير المسلمين، ومن قلدهم من المسلمين يَرَوْن - تبعًا لنظرية التطور - أنَّ الإنسان تطور عبر ثلاث مراحل:
• "الإنسان المائي"؛ حيث يزعمون أن الإنسان كان من ضمن الحيوانات البحرية، باعتبار أن الأرض ليست - في أول أمرها - سوى قطعة انفصلت عن الشمس في أثناء دورانها، ثم برد سطحها - وإن كان باطنها لا يزال على حرارته - وقد أحاطت بها المياه التي توالدت فيها - بطول الزمن - حيوانات مائية كان من ضمنها الإنسان.
• ثم تأتي بعدها مرحلة: "الإنسان البرمائي"، لما بدأ يخرج من البحر إلى اليابسة يرعى الحشائش.
• ثم مرحلة: "الإنسان البري"، لما انفصل نهائيًّا عن معيشة البحر، إلى أن تَميز عن باقي الحيوانات.
والذي يهمنا من هذا السرد أنَّ هؤلاء الذين ارتضوا هذا الافتراض الذي يرجع بأصل الإنسان إلى الحيوانات، يزعمون "أنَّ الإنسان عرف الدين في هذه العصور النائية من التاريخ البشري، وإن كانوا يَختلفون في كيفية تديُّنهم أولَ مرة، إلا أنَّهم متفقون على أن الوثنية قد سبقت في تاريخه - أي الإنسان - التوحيد، والكثير منهم يرى أنَّ أول معرفة الإنسان بالدين كان على الطريقة المعروفة عند بعض الباحثين المتأخرين (بالطوطمية)"[18].
نستنتج أنَّ الإنسانَ قد عرف التدين منذ أنْ أوجده الله - تعالى - على الأرض، واستمر في علاقته بالدين إلى اليوم، ومن ثَمَّ تبرز الإجابة الصريحة في أن كل فن ابتكر - ومنه الأدب - في طيلة التاريخ الإنساني، لا بُدَّ أنْ يكون مُستَمِدًّا جذوره من المعتقد.
والديانة إذا كانت الهواءَ الذي يتنفسه الإنسان منذ وجد، والذي يَملأ حياته وكيانه من كل جوانبهما، لا بُدَّ أن يكون لها دخل في النشاطات كلها، وهي تدخُل "بكثرة في الأدب، وكأنَّها تبرهن على دَوْرها البارز في الوسط والمحيط الذي يعيش فيه الكاتب"[19].
بل نستطيع أن نذهب بعيدًا؛ لنقرر أنَّ الأدبَ قد ساعد الشعوبَ التي كانت في غفلةٍ عن مَعرفة الخالق على التعرُّف على أسرارِ الوجود، وتعليل أسباب الأشياء، وعلى رأسها البحث عن الخالق، الذي نسجت الأناشيد الدينية من أجله؛ تَمجيدًا وتَخليدًا، وابتهالاً وتعبدًا"[20].
فهذا أقدم ما وصلنا من الأدب، وهو الأدب اليوناني، من أشعار ناضجة متكاملة، قد أوضح الدارسون أنه "ورد في بعض الأساطير اليونانية أنَّه قد ظهر في أقدم العصور التاريخية عددٌ من الشعراء الغنائيِّين الدينيِّين؛ أي: الذين تدور قصائدهم حول الشؤون الدينية، كتمجيد الآلهة، والتوسُّل إليها، وما إلى ذلك"[21].
فانظر إلى أيِّ مدى أشربت الفنون الأدبية اليونانية العقيدةَ حتى اختلطت بها، "وارتبط أدبُ قدماء اليونان ارتباطًا وثيقًا بمعتقداتهم الدينية، ومعبوداتهم التي ألهمت الشعراء والكتاب".
ومن خلال دراسة مُمحصة دقيقة يتوصل د. محمد صقر خفاجة إلى أنَّ الأناشيد والملاحم هي أول فنون الأدب اليوناني، ظهرت في مرحلة ما قبل التاريخ، أو عصر الأبطال والأساطير، وتبدأ هذه المرحلة بنزوح القبائل الآرية إلى بلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، وتنتهي في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد تقريبًا، وأهم آثارها الأدبية: التراتيل الدينية والملاحم[22].
كما أن "جورجي زيدان" اعتنى بتقسيم آداب "اللغة اليونانية" إلى أطوار سبعة، وذكر في الطور الأول منها - وهو العصر الخرافي - "ويراد به أقدم أزمان الأمة اليونانية، ولم يبقَ منها إلاَّ القصص الخرافية عن الآلهة ونحوهم؛ مِمَّا يسمى في اصطلاح الإفرنج (ميثولوجيا)، وهو يبدأ قبل زمن التاريخ، وينتهي إلى القرن التاسع قبل الميلاد"[23]، كما أنَّ المسرح اليوناني نشأ في أحضانِ طقوسٍ دينية، كانت غالبًا ما تؤدَّى في معابد، ويتوسل فيها بالقص الأسطوري، وترتيل الأناشيد الدينية..."[24]، و"كان الشعر يوقع على نغمات العود، كما ارتبطت المسرحيات عندهم بأناشيد الجوقة، فكان الشعراء يمدُّون قومَهم بالخيال والعاطفة إلى الحكمة، في طريق مُحَلًّى بزهور الكلمات والنغمات"[25].
ومن أنضجِ وأشهر ما وصلنا من الأدب اليوناني: "الإلياذة والأوديسة" لهوميروس، وكلاهما في المجال الديني أيضًا، أما الإلياذة (hiad)، فهي مكونة من "15537" بيتًا، مُوزعة على "24" نشيدًا، مضمونها: تصوير الأسابيع الأخيرة من حرب طروادة، ومدارها على ثلاث إلهات من اليونان، أوقعت بينهُنَّ الإلهة (إيريز - iris) شقاقًا.
وهكذا نرى أنَّ شخصيات هذه الملحمة مُعظمها إلهات، فـ(أفروديتا): إلهة الحب والجمال، و(أثينا): إلهة الحكمة والذكاء، وكبيرة الإلهات زوجة (زيوس) كبير الآلهة... وهكذا.
وأمَّا (الأوديسة odyssey)، فهي مكونة من "12000 بيت، موزعة كذلك على "24" نشيدًا، وأحداثها مترتبة على أحداث "الإلياذة"، كل أبطالها تشملهم الآلهة في كل مكان، كالإله (منيلاوس) وزوجته (هيلينا)، و(أودوسيوس) وزوجته (ينيلوبا)، وابنه (تليماخوس)، وهكذا. [26]
ويضاف إلى كل ذلك أنَّ الخطابة كالشعر كانت مشحونة بالتصوُّرات العَقَدِيَّة، وليس تصور "أفلاطون" للشعر أنه "إلهام" ببعيد، وهل الفلسفة والفكر اليونانِيَّان إلاَّ نقدًا للأدب، الذي عالج العقيدة منذ ظهوره؟
كما أنَّ آدابَ الروم كانت "أوائل منتوجاتها مستهلة بالأناشيد الدينية، وأنَّ أنشودة الأناشيد التوراتية: مزامير، توقيعات عبادية"[27].
وعن شِدَّةِ ارتباط الأدب الروماني بالعقيدة يقول: (ج. و. دف): "ومن المحال أن نقرأَ (ليفي) دون أن ندركَ على الدَّوام التوكيد الذي وضعه الرُّومان على الخوارق، والكفارة، وإرادة الآلهة، وقيام الناس بالطقوس كما يجب، ومن المستحيل فهمُ (فرجيل) إذا تناسى المرء (الإنيادة) الديني العميق.
فالنظرة العلمية في الديانة الرومانية تقابل الإنسانَ في كل مكان: في أصولها وتطورها وتطبيقها على الدار وعلى الدولة، وتحويرها الدقيق، وتسامحها نحو الأديان الجديدة"[28].
وإذا ما انتقلنا إلى الشعر الساترني، وهو من أقدم الشِّعر اللاتيني بعد اليونان بقليل، نرى أنَّ الموضوعات الدينية أو الحماسية أو الشعبية، كانت "هي أهم ما عولج في الشعر الساترني، وتدل الإشارات القديمة - وكذلك طبيعة الأشياء - على أنَّ الديانة بسطت رعايتها على هذا الشعر في بدايته"[29].
وعند التحدُّث عن علاقة الآداب الأوروبية بالعقيدة، نرى أن الكتابة السريانية "كانت قبل المسيحية لغةَ الدين والأدب والعلم في (حران) معقل الوثنية فيما بين النهرين"[30]، ثُمَّ بعد مَجيء المسيحية أصبح "المؤلفون متأثرين بأسلوب الكتاب المقدس، وكَثُرت في كتاباتهم الاصطلاحات والاستعارات المستقاة من الكتاب المقدس"[31].
بل كانت الديانة النصرانية تعزل الكتابات التي لا تساير ركبها، وتَحول بينها وبين الخروج من معقلها، لا لشيء إلا لأنَّها لم تساير العقيدة، ولم توافق آراءها.
والدارسون يرَوْن أنَّ الآداب الأوربية يَجري عليها المقياس نفسه الذي عرفناه في آداب اللغة اليونانية، فقد عقب جورجي زيدان - بعد أن أوضح الأطوار التي مر بها الأدب اليوناني - قائلاً: "هذه خلاصة تاريخ آداب اللغة اليونانية، فقِسْ عليها تواريخ سائر اللغات الأوربية... فإنَّها كثيرة الشبه بها، من حيث تناسق عصورها، بالنظر إلى نشوء العلوم فيها، فإن أقدم آدابها - دائمًا - الشعر الديني، يليه الشعر القصصي التمثيلي، فالغنائي... "[32].
ثم إذا ما انتقلنا إلى الأدب الفارسي، وجدناه - أيضًا - غير منفصل عن سنة الآداب الأخرى؛ من حيث امتزاجه بالعقيدة والتعبير عنها، وقد أخطأ مَن أغفل رَبْطَ الحماسة بالآلهة والأبطال - كما يجب أن يكون - وكذلك فعل "الفردوسي" في "الشاهناما"، وهذا ما يعبر عنه أحد الباحثين المحدثين بقوله: "وجاء الشعراء بعد الفردوسي ينسجون على منواله، وفيهم جماعة اتَّخذوا من ملوك عصرهم أبطالاً، نظموا لهم شاهنامات، وخَفِيَ عليهم أنَّ الشعر الحماسي يَجب أن يكون له مادة من الأساطير، تَجعل جوَّه مليئًا بآثار القدم، تجول فيه الآلهة والأبطال، بعواطفهم الكبيرة، وأعمالهم العظيمة، مُحاطين بهالة من الخيال"[33].
وبتجميع ما تَمَّ الحصول عليه من نقوش متفرقة على الأحجار، والأواني، والآلات، والموازن الحجرية، وفصوص الخواتم الأثرية، ودراسة كل ذلك - يتبين أنَّ هذه النصوصَ كلها تدُلُّ على ما عرفوه من أسماءِ الملوك، وتدوين شرح لأحوال المماليك، والفتوحات، وما تَمَّ فيها من أعمال، "وكذلك تتضمن مدح الخالق، وتقبيح الكذب وكل ما هو سيِّئ"[34].
كما نشأت عندهم لغة خاصَّة هي لغة "الأَفِستاء"، اهتمت بأمور الدين، واختص بها رجاله، وكانت تطلق على "لغة كتاب "زرادشت" الديني، وهي في الحقيقة لغة من اللغات الإيرانية، ذات قرابة بالفارس القديم، وكانت هذه اللغة خاصة برجال الدين والكتب المقدسة"[35].
يتبع