عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 28-07-2021, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,445
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"


وهكذا يدور الحوار في "اللاَّوعي"، ويدور صراع خفي، في تَحييز الواحدة للأخرى في دائرة ضيقة، بِحُبِّ تَحقيق الاستقلالية الذَّائبة، واستشعار الكِيان الفردي، المنبثق عن الكيان الآخر، لكنَّه عند حالة الوعي والصَّحْوة تتلاشى هذه الحوادث، ويحضر الحنان الأبوي الخالص؛ ليزيلَ كل عقبة تقف في وجه العاطفة الصادقة، وتزيح كلَّ صخرة تريد إعاقةَ المجرى الطبيعي لبدهِيَّات الأمور، وانتبهت الأمُّ من سباتها، وسُرعان ما اندثر الإحساس الخفي؛ لتحل محله الحقيقة الواضحة، التي تجد مستندًا لها في "العقيدة"، وفي ربط العلاقات الأسرية، انتبهت لتعانقَ ابنتها، ولتعترف أنَّها روحها وراحتها، وأنَّه لولا إحداهما، لَمَا كانت الأخرى:
"صَحَتِ الْأُمُّ بَعْدَ ذَاكَ فَقَالَتْ
يَا ابْنَتِي يَا حَمَامَتِي عَانِقِينِي

عَانَقَتْهَا فَتَاتُهَا ثُمَّ قَالَتْ
أَنْتِ رُوحِي وَرَاحَتِي قَبِّلِينِي"[92]








والنفس بطبعها نَزَّاعة إلى الهوى، تذهب بصاحبها كُلَّ مَذهب، ولا يُحجمها إلاَّ العقل والفطانة، والاتِّزان والاستقامة، وهي أكثرُ ثَوْرَةً وعنفوانًا في حالة فَقْدِ مَن يَصْعُب فراقهم من الأقرباء والأصدقاء، ولكَمْ تَحدث الشعراء في هذا الإطار! فأبدى بعضُهم تذمُّرَه من القضاء، وتضجره من الموت الذي يسلب - في نظر هذا البعض - الأحباب سلبًا، ويُرديهم إلى عالَم الفناء والصَّمْت، وما درى هؤلاء - لضعف الوازع الديني - أنَّ مِن مُستلزمات الإسلام الإيمان بالقضاء والقدر، والرِّضا بما يرتضيه الخالق المدبر، ثم تراهم من جهة أخرى ينساقون وراء النفس السافلة؛ ليُحيوا المآثم في أشعارهم، وكتاباتِهم، وتُحِسُّ في سطورهم صليلَ الندم، وحشرجات البكاء والعويل، وعلامَ كل ذلك، والعلم يقين بأن يدَ الردى سوف تكتنفُ الجميع، حتى لا يبقى إلاَّ الخالق سبحانه؟ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 26 - 27].



وشاعرنا قد تشرب هذه الحقيقة، وجعل شِعْرَه رادعًا لكل من سَوَّلت له نفسه التضجر والجفوة من القدر، ويدعو إلى توجيه العواطف الإيمانية وجهتها الصَّحِيحة، وهو بهذا يكون قد حَقَّق بأداته الشِّعرية، ما رسمناه نظريًّا في بداية هذا البحث، من كون "الأديب في نظر الإسلام مسؤولاً مسؤولية تامة عن فكره الذي يلتزم به، وقيمه التي يتغنَّى بها، وآماله وأهدافه التي يدعو إليها؛ لأَنَّ للأدب الإسلامي رسالةً تبدأ بتربية ذَوْق المسلم تربيةً جمالية مُهَذَّبة، وتنتهي بتشكيل عقله ووجدانه تشكيلاً موافقًا لعقيدة الإسلام، في شمول تصورها، وإيجابيته، وواقعيته"[93].



وكذلك فعل "غنيم" في تعزيته لصديقٍ في فقْده شقيقًا له، فكتب له بعضَ أبيات تسليةً وإخمادًا للوعة الرحيل، ساق فيها مُجمل المعاني السامية التي يَجب على المسلم أن يتمثل بها في هذه الحالة الحرجة، التي تتطلب كاملَ التعقل، وفارط الاتِّزان، ومن ذكاء "غنيم" أنَّه بدأ بطرحِ قضيته الخاصة، في أنه يعيش كآبةً مُرَّة؛ بسبب طباع المجتمع الفاسدة، وعاداته المتخلفة الساذجة، إضافةً إلى حرمانه وعوزه:




"تَرَى هَلْ أَسُوقُ إِلَيْكَ الْعَزَاءَ؟

وَكَيْفَ يُعَزِّي حَزِينٌ حَزِينَا"[94]







وهذه كافية في إزاحة كابوس الألم والكدر، وقادرةٌ على أنْ تشعر بالتسلية، لكنَّ الشاعر يبيِّن أنَّ المفقود لم يكن له ليخلد في هذه الحياة، فإنَّ جبريل - الروح الأمين - وهو المتقدم على سائر الملائكة سوف يلقى - بإرادة من الله - المصير نفسه، فعلامَ إذًا هذه المسحة من الحزن، واعتصار هذا الألم؟ مع أن ما توافر لهذا المفقود من حسن سريرة، ورجاحة عقل، واستقامة دين، جعل الاطمئنان عليه واردًا:



"إِذَا مَا أَلَمَّ "بِجِبْرِيلَ"[95] خَطْبٌ

فَإِنَّ لِجِبْرِيلَ عَقْلاً وَدِينَا




وَهَلْ كُنْتَ تَرْجُو خُلُودَ أَخِيكَ

وَلَوْ أَنَّهُ كَانَ "رُوحًا أَمِينَا"؟"[96]







على أنَّ منطلق البُكاء والندب، يفرض علينا - وقد جعلناه عدتَنا في كلِّ تَعزية - أنْ نبكي طولَ الدهر، وأن نقضي هذه الحياة الظرفية المحدودة في أنين وحزن وشهيق؛ لكثرة الأحبة المغادرين، والأعزاء الراحلين، أليس العشرات - بل المئات - من الأبرياء يلفظون أنفاسهم في كل يوم؟ وعدد لا يُحصى من الدُّعاة الأوفياء تعصف بهم يَدُ الرَّدَى كلَّ يوم؟ أليس عدد من الأطفال والشيوخ يذوقون حرارةَ الموت في كل حين؟ فعلامَ الجزع إذًا؟



"إِذَا نَحْنُ فِي إِثْرِ كُلِّ عَزِيزٍ

بَكَيْنَا قَضَيْنَا الْحَيَاةَ أَنِينَا"[97]








المبحث الثالث: القضايا الوطنية:

لعل فيما تقدم من مواقفَ اجتماعية تَمَيَّز بها "غنيم" عن أترابه من شُعراء عصره، والتي استقطبت بعضَ الأسس الإسلامية في التحليل والمعالجة، لعل ذلك كفيلٌ بتحديد رؤية "غنيم" لبلده "مصر" ولباقي الأقطار العربية والإسلامية، والحق أنَّها كانت نظرة شديدة الارتباط بنفسية المسلم الذي يرى واجبًا أنْ يَعيش أحداثَ عصره، ويتفاعل معها كأنَّها جزء من كيانه، أو كأنَّها أسرةٌ صغيرة تولَّى هو - بنظره الثاقب، وفكره النافذ - توجيهَهَا، وإيضاحَ المسلك الرَّشيد الذي يراه كفيلاً بنجاحها، وانتصارها على المناوئين من أعدائها، وكأني به يستحضر قول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، وقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلم للمسلم كالبنيان؛ يشد بعضه بعضًا))[98].



ثم في إطار الدَّعوة إلى الوحدة والتضامُن، لم يقصر الطرف على بلده مصر وحسب، وإنَّما استطالت نظرته؛ لتشملَ واقعَ المسلمين ككل، ويَخص بالذكر "العرب"، الذين كان لهم ماضٍ مُحدد معروف، كانت لهم حضارة متميزة باسطة أردانَها على مُعظم المعمورة.



أما فيما يتصل بالإطار الخاص - أي الحديث عن مصر - فأول ما يواجهنا أنَّ الديوانَ قد زخر بذكر مصر، وكيف لا؟ واجتماعيته كانت في مُعظمها تَختص بعلاجِ أمراض مصر، وسِمَة بعض عاداتها، كما اختصت بتمجيد ماضي مصر، والإشادة ببعض مَحاسِنِها، فهذه "الإسكندرية"، هذا الثَّغْر المجيد، قد اجتذبت أحداثُ الحرب العالمية الثانية الشاعرَ للحديث عنها؛ لما أصابها من ويل تلك الحروب الطاحنة، وجعلها ثغرًا لا يبتسم، وفيه دليلٌ على أنَّ "الإسكندرية" كانت ثغرًا دَائِمَ الابتسامة، مستديمَ الإشراق والمجد، فينطلق إزميل الشاعر؛ ليحدثنا عن حال هذه الزاوية الجميلة، قائلاً:



"الشَّطُّ دَاجٍ وَالسُّكُونُ مُخَيَّمٌ

مَا بَالُ ثَغْرِ الثَّغْرِ لاَ يَتَبَسَّمُ؟




عَهْدِي بِهِ طَلْقًا صَبِيحَ الْوَجْهِ إِذْ

وَجْهُ الطَّبِيعَةِ عَابِسٌ مُتَجَهِّمُ"[99]







وكذلك قال في قصيدة أخرى، نظمها في فاجعة الإسكندرية سنة 1941م:



"الثَّغْرُ أَيْنَ مَضَى رِوَاؤُهْ؟

أَوَلَمْ يُفَارِقْهُ شِتَاؤُهْ؟




كَانَتْ تَمُوجُ ظِبَاؤُهُ

مَا بَالُهُ نَفَرَتْ ظِبَاؤُهْ؟"[100]







وهو إذْ عاش مرارةَ الحرب، صَوَّرها في فاجعة الإسكندرية، وإن كان في الواقع يعبِّر عن فاجعة النفوس، وفي مقدمها نفسه الأليمة المكدورة، من جَرَّاء التدمير الذي يَجتاح عددًا ليس باليسير من الأقطار والمدن والقرى، فلا يجد بُدًّا - وهو يتحدث عن الإسكندرية - أن يعرج على هذه الأحداث:



"وَجَلاَ الشَّرَارُ ظَلاَمَهُ

حَتَّى غَدَا كَدِرًا صَفَاؤُهْ




يَرْمِيهِ بِالنِّيرَانِ سَا

حِلُهُ وَتَرْجُمُهُ سَمَاؤُهْ"[101]




يتبع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.51%)]