عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 28-07-2021, 03:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,113
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"


ثُمَّ اسْأَلِ النِّيرَانَ مَاذَا أَنْضَجَتْ

أَسْبَاكًا امْ أَكْبَادَهُمْ وَقُلُوبَا"[134]







وجميل أن يلفتنا الشاعر إلى سِرِّ ذلك، لماذا هذه الغارات على الأبرياء؟ ولماذا هذه السطوة من القوي على الضعيف؟ إنَّه ضعف الإيمان، إنه ضعف الاعتقاد في وجود شرائع مُنَظِّمة، وقوانين إلهيَّة موجِّهة، إنَّ كثيرًا من الناس نَسُوا - أو تناسَوا - سَبَبَ وجودِهم في الحياة، فصاروا يتكالَبُون على الحطام، ويَتقاتلون من أجل التفاهات والمُغريات وحُبِّ السطو والبطش، فلا وازعَ يرتدع به، ولا أخلاقَ تتحكم في السلوك:



ذُنُوبُ الضِّعَافِ الْعَاجِزِينَ كَثِيرَةٌ

وَمَا لِقَوِيٍّ إِذْ تُحَاسِبُهُ ذَنْبُ




كَأَنْ لَيْسَ بَيْنَ الْعَالَمِينَ شَرَائِعٌ

وَلاَ خَلْفَهُمْ بَعْثٌ وَلاَ فَوْقَهُمْ رَبُّ"[135]








فلا بارك الله هذه الحروب، ولا بارك أهلها، ولا من يدعو إليها، فحسبنا ما أذاقَتْناه من ويلات ودواهٍ:



"فَلاَ بَارَكَ اللَّهُ الْحُرُوبَ وَأَهْلَهَا

فَإِنَّا لَقِينَا بِالْحُرُوبِ الدَّوَاهِيَا"[136]








هذا موقف "غنيم" من الحرب، وذاك أمله من الجهاد.



وقفة إنصاف:

إنَّ اختيارَ "محمود غنيم" نَموذجًا تطبيقِيًّا لمظاهر الإسلامية كما سبق عرضها - ليس يعني أنَّ "غنيمًا" قد استقل بمركز الكمال، وأنَّ ديوانه قد تَمَثَّل تلك المظاهر في كل بيت من أبياته، فهذا مما يصعُب تَحقيقه في زماننا الذي تُعَدُّ فيه المناداة بأدبٍ إسلامي صَيْحَةً جديدةً بالمقارنة مع الاتِّجاهات والتيارات الأخرى التي وطأت قدمها، ورسخت منهجها، وحسبنا أن نقنع بتنامي هذا الاتِّجاه، وأنه في طريقه إلى الكمال.



فكان جانب الموضوعية يتطلب منا أن نقف عند بعض اللحظات غير المرْضية في ديوان محمود غنيم، وهي عبارة عن مؤاخذات نَحتاط لها فيما يستقبل من الأيام.



وأقسم المؤاخذات إلى ثلاث ملحوظات:

1- أما الملحوظة الأولى: فهي المغالاة في التشبيه إلى درجة الغُلُوِّ وبُعْد النَّصَفة، ربَّما كان الشاعر في حالةٍ من الانفعال متوقدة، لكن هذا لا يَطغى على الأديب المسلم، الذي جعل عَقيدته حارسًا له من الطُّغيان النفسي، والهيام العاطفي، فالشاعر معرض لنزواتِ هذه الشاعرية، وبخاصة إذا كان - كغنيم - شديدَ الحساسية، مُرْهَف العاطفة، قوي الموهبة، ولَعَلَّ هذا ما اعتراه وهو في أثناء حديثه عن الغدير، وما يوحي به من جمال في الطبيعة، وعرج على منظر "الغيد" وهن يسقين الماء، ثم يشبه إحداهن انحنت لملء جرتها بركوع "البتول" في المحراب:



"رَكَعَتْ كُلُّ غَادَةٍ هَيْفَاءَ

كَرُكُوعِ الْبَتُولِ فِي الْمِحْرَابِ"[137]








ومناط المؤاخذة يرجع إلى أمر موضوعي، وآخر فني: أمَّا الأول فهو وجوب احترام المقدسات الدينية، وما يتصل بها من أسماء وأحداث توجب أن تكونَ مَحطَّ تقديس وتقدير، وتشبيه "غادة" هيفاء بالبَتُول يُوحي باقتراب العلاقة بينهما، وشتان بينهما، والشاعر في حالة تغزل وهوى، ما كان له أن يقحم صورةَ البتُول في أثناء الصلاة؛ لِمَا في الأمر من قداسةٍ يَجب احترامُها وتنزيهها عند اقترانها بحالاتٍ عاطفيَّة خاصة.



وأمَّا الأمر الفني، فهو عدم التوفيق في تَحقيق التشبيه، فاستعمالُ لفظ البتول ولفظ المحراب يقتضي أن التشبيهَ لَم يقتصر على مُجرد ظاهرة الصورة، وإلاَّ جاء التشبيه بأيَّةِ حالة انحناء أخرى، وكذلك حيث دقة الصورة، ليس هناك تكافؤ بين الركوعين.



ويعجب الشاعر "بآنسة تركية" فازت بلقب "ملكة الجمال"، ثم لا يجد صورة يستوحيها، يعبر بها عن مدى جمال هذه الآنسة سوى الحور العين التي أعدها الله - تعالى - للمؤمنين في الجنة:



"إِنْسِيَّةٌ أَمْ تِلْكَ بَعْضُ الْحُورِ

مِنْ عَدْنٍ انْطَلَقَتْ إِلَى السِّنُّورِ"








ثم يقول:



"لَمَّا تَجَلَّى لِلْمُقَطَّمِ وَجْهُهَا

أَشْفَقْنَ أَنْ يَنْدَكَّ مِثْلَ الطُّورِ"[138]








فالموضوع من ناحية "شرعية" تافه؛ لأنه مقتصر على الإشادة بما يجب ستره، وما يستهوي أصحاب القلوب المريضة؛ ليتيهوا وراء كل جمال، ويتغَنَّوا بكل ما يُحِبُّه الشيطان، وفي ذلك مضار كثيرة على حياة المسلم التي يَجب أن تكون مشحوذة بكل ما يقرب من الله، ثم يضاف إلى هذه المسألة مدى المبالغة الشديدة في الوصف والتقدير؛ لأَنَّه زعم أن جمالها يكاد يندك له المقطّم، مع أنه لا جمالَ هناك ولا انْدِكَاك، والأدهى من هذا أن يشبه اندكاكَ المقطم باندكاك الطُّور الذي قال فيه تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143]، والحق أنَّ مثل هذه المغالاة، والخطأ في التصوير مما يَجب على الأديب المسلم أن يتنزه عنه.



وبصدد الحديث عن المرأة كذلك، نجد أنَّ المبالغة بلغت درجةَ الإجحاف والمقت، واقتراف ما إثْمه واضح، فلست أدري كيف طاش عقل "غنيم"، حتى جعل إحدى "الحسان" ملكةَ الدُّنيا، وسيدة الكون، التي إذا أمرتْ، هُرع الكون كله لتنفيذ الأمر، ومتى ما أمرت العالمين، فالناس كلهم آذان مصغية:



"مُرِي بِمَا شِئْتِ كُلُّ النَّاسِ آذَانٌ

مَا نَالَ قَبْلَكِ مُلْكَ الْكَوْنِ إِنْسَانُ"[139]








ثم يرى أن الدنيا برُمَّتِها قد خضعت لوجهها الوضاء، وجمالِها البَرَّاق، حتى إنَّ هذا الوجه قد أشْكَلَ على الناس: أهو وجه بلقيس أم وجه سليمان؟



"مَنْ ذَا الَّذِي عَنَتِ الدُّنْيَا لِطَلْعَتِهِ

أَتِلْكَ "بِلْقِيسُ" أَمْ هَذَا "سُلَيْمَانُ""[140]








وهذا - لعمري - من السفاسف الوضيعة، التي تأنف منها نفس المسلم.



وليت الأمرَ اقتصر على ذلك، بل يعد الشاعر أنَّ هذا الوجه الذي قامت الدُّنيا لجلاله وقعدت، قد نشأ في إحدى جنات الخلد، وأنَّه أفلت منها وطلع على الدنيا البشرية:



"فِي أَيِّ جَنَّةِ خُلْدٍ أَنْتِ نَاشِئَةٌ

وَكَيْفَ أَفْلَتَ هَذَا الْوَجْهَ رِضْوَانُ"[141]








ثم نراه يَخرج عن قاعدة شرعية واضحة المعالم جلية، وهي تَحريم الحلف بغير الله، فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ كَانَ حَالِفًا، فليحلف بالله أو ليصمت))[142]، فنجد غنيمًا، قد أقسم بالنيل في قوله:



"أَقْسَمْتُ بِالنِّيلِ لَيْسَ النِّيلُ أَطْهَرُ مِنْ

تِلْكَ الدِّمَاءِ وَمَا بَالَغْتُ فِي الْقَسَمِ"[143]








2- أمَّا الملحوظة الثانية: فهي "الغلو في المدح" غلوًّا يَجعلنا نستحضر "المتنبي" وأمداحه لسيف الدولة الحمداني، ولكن أين "المتنبي" من "غنيم"؟ هذا متشبع بالإيمان، يتأجح صدره بدفقات الإسلام وتعاليمه، وذاك متملق طامع في الملك والسيادة، حتى قتل بسبب تكبُّره وغروره، ومن ثَمَّ فإنا لا نقبل من غنيم مثل هذا الإجحاف في المدح، والمغالاة في طرح مناقب الممدوح.



فمن ذلك ما قاله في بيان خصال "محمد محمود باشا" بعد وفاته:



"سَارَ بَيْنَ الدُّمُوعِ وَالزَّفَرَاتِ

خَيْرُ نَعْشٍ يُقِلُّ خَيْرَ رُفَاتِ"[144]




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.32 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.42%)]