عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 29-07-2021, 03:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 156,944
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القضايا الأساسية والصور البيانية في شعر محمود غنيم، من خلال ديوان "صرخة في واد"

ويقول:
أَيَا ابْنَيَّ أَحْبِبْ بِمَا تُتْلِفَانِ
وَأَهْوِنْ بِمَا تَكْسِرَانِ عَلَيَّا


ويقول:
أَمِنْ كَبِدِي أَنْتُمَا فَلْذَتَا
نِ أَمْ أَنْتُمَا حَبَّتَا مُقْلَتَيَّا"[25]



فأنت ترى في هذه الأبياتِ الفكرةَ وقد تدثَّرت بدثار الأساليب الموحية الصادقة، من غير شطط أو إغراق، أو تفيهُق، أو مُعاظلة، أو وحشي من الكلام.

المطلب الثاني: الألفاظ:
يشبه "غنيم" حافظ إبراهيم - إلى حد بعيد - من حيث استعمال الألفاظ، إلاَّ أنَّ الملاحظ في شعر غنيم كثرةُ استعماله للألفاظ السهلة، كثيرة التداوُل، التي تفصح عن المعنى من أول وَهْلة، ليست معماة ولا غامضة، ولا غريبة ولا رامزة، كأنِّي بـ"غنيم" يريد أن يقولَ: إنَّ الشعر ليس هو المغرق في الغموض، الذَّاهب مذهب الرَّمْزيِّين، الذي يطرح أمامَك ألفاظًا عائمة غائمة، ثُمَّ يطلب منك أنْ تَصول وتَجول؛ لتَحْصُل على المعنى المراد، كلاَّ، إنَّ المجتمعَ في حاجة إلى الخطاب المباشر، إلى الفهم الحاضر، والعبارة الجلية، والفكرة الواضحة.

والمدهش أنَّ "غنيمًا" وهو يُعالِج موضوعًا كموضوع الحرب؛ حيث صليل السلاح، وصراخ الجنود، وحيث الطعن وإزهاق الأرواح - لا يَخرج عن استعمالِ الألفاظ التي هي في ذاتِها جَزْلَة رصينة، لكنَّها - عند التركيب - في مطلق السهولة والانسياب؛ يقول في وصف الحرب:
"وَغًى لاَ الدُّرُوعُ السَّابِغَاتُ مَوَانِعٌ
أَذَاهَا وَلاَ مُجْدٍ بِهَا الصَّارِمُ الْعَضْبُ

تَثَلَّمَ حَدُّ السَّيْفِ وَانْقَصَفَ الْقَنَا
وَأَصْبَحَ لاَ طَعْنٌ هُنَاكَ وَلاَ ضَرْبُ

كَأَنِّي بِهَا تَرْمِي مَدَافِعُهَا فَلاَ
يَطِيشُ لَهَا سَهْمٌ وَلاَ مَضْرِبٌ يَنْبُو

تُدَمِّرُ مَا تَأْتِي عَلَيْهِ لَوَ انَّهَا
تُصَوَّبُ نَحْوَ الْأَلْبِ "دُكَّ بِهَا الْأَلْبُ"[26]



فالألفاظ الرصينة الجزلة المستعملة هي: وغى - الدروع السابغات - الصارم العضب - السيف - القنا - انقصف - طعن - ضرب - مدافعها - يطيش - تدمر - دك - وهي ألفاظ اشتملت على قدر كبير من حروف الاستعلاء، وحروف التفخيم، مع شديد الحروف، وكأنَّك تشاهد حربًا بين هذه الحروف، وهذا التشديد، الذي ينمُّ على مراحل الشدة التي يذوق الناس مرارتها.

وعند الحديثِ عن موضوعٍ هادئ مُنساب، نَجِد الألفاظَ تتآزَرُ مع هذا الموضوع، فتُحِس بخفة ولطافة تطوفان على الأسلوب، تنسابانِ انسيابَ الغدير المصقول، كقوله في وصف الطبيعة:
جَلَسْتُ عَلَى بُسَاطٍ مِنْ رِمَالٍ
خِلاَلَ الْعُشْبِ وَالْمَاءِ الزُّلاَلِ

وَقَدْ رَقَّ النَّسِيمُ فَكَانَ أَشْهَى
إِلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ مِنَ الْوِصَالِ

طُيُورُ الْأَيْكِ تَصْدَحُ عَنْ يَمِينِي
وَمَاءُ النَّهْرِ يَهْمِسُ عَنْ شِمَالِي



وهنا نرى الألفاظَ مُلائمة تمامًا لموضوع الوصف؛ حيث إنَّ هذه الأبيات الثلاثة قد حوت من الألفاظ ما يَجمع مُعظمَ ما يستعمله شاعِرٌ في وصف الطبيعة وهي: بساط الرمل، العشب، الماء الزلال، رق النسيم، طيور الأيك تصدح، ماء النهر يهمس، وكلها ألفاظٌ سلسة تتدفق عذوبةً ولذَّة، ولقد صدق عزيز أباظة حين قال: "فشعره (أي: محمود غنيم) يَتَّسِم بالجزالة دون تكلُّف، وبالسلاسة دون هبوط، يُحِسُّ بهاتين الميزتين مَن يتذَوَّق موسيقا الشعر العربي، ولا يُنكرهما من تنكب السبيل"[27].

المطلب الثالث: بين المحافظة والتجديد:
يُمكن أن نسطِّر منذ البداية أنَّ شعر "غنيم" ينزع إلى الاتِّجاه المحافظ أكثرَ من نزوعه إلى ظاهرة التجديد، التي ضَجَّ بِهَا العَصْرُ الحديث، وإذا عرفنا أنَّ "غنيمًا" كان مالكًا لناصية اللغة، عالِمًا بمذاهب الشعر المختلفة، مُعايشًا للتيارات الفكرية التي عاصرها، إذا عرفنا كُلَّ ذلك، تبيَّن أن "غنيمًا" قد اختار لنفسه طريقةً في الشعر رآها - بعد التمحيص والتدقيق - أسلمَ طريقة، وأكثرَها استيفاء لأغراضه ومراميه، وهي الجمع بين قالب القديم، والفكرة المستحدثة، لم يغرق في القديم مطلقًا، يتنقل شعره بين وصف الناقة والصحراء، ولجاج القبائل، وعصبية العشائر، ويستعمل حُوشِيَّ الكلام ومعاضلة القول، ولَم يَغُصْ في الجديد مُطلقًا، فيتخلى عن عمود الشعر العربي، وعن بعض صوره البلاغِيَّة، وأساليبه الرائعة، وألفاظه المتناسقة الدالة الموحية، وإنَّما جمع بين الأمرين، فأحسن الصنع.

وتتمثَّل هذه الازدواجية في تأثُّره ببعض الشعراء القُدامى، كالبحتري والمتنبي، وبعض الشعراء المحدثين الذين تَمَيَّزوا بنهج الاتِّجاه المحافظ، كشوقي الذي اقتبس منه بيتًا كاملاً، في قصيدته "ذكرى فريد" حين قال:
"قَالُوا لَهُمْ "حِزْبُ الْجَلاَءِ" وَإِنَّهُ
لَقَبٌ يَزِيدُ مَقَامَهُمْ تَمْجِيدَا

وَاللَّهِ مَا دُونَ الْجَلاَءِ وَيَوْمِهِ
يَوْمٌ تُسَمِّيهِ الْكِنَانَةُ عِيدَا

اللَّهُ يَعْلَمُ لَسْتُ أَبْخَسُ عَامِلاً
حَقًّا وَلاَ أَجْزِي الْجَمِيلَ جُحُودَا [28]

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.96 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.91%)]