عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 29-07-2021, 03:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,046
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

الرثاء في شعر باشراحيل (2)
محيي الدين صالح




اتجاهات الرثاء عند باشراحيل


عَشِقَ اللاَّهُونَ أَسْمَارَ الْعَشَايَا
وَعَشِقْنَا نَحْنُ مَا بَعْدَ الْمَنُونْ

إِنَّمَا الْأَرْضُ عَدَاوَاتٌ وَشَكْوَى
وَخُطًى تَلْهَثُ فِي إِثْرِ الشُّجُونْ [1]



في هذه الكلمات الموجزة المكثَّفة المعبِّرة، يُوضِّح لنا باشراحيل فلسفةَ الإبداع عنده ورُؤيته فيما يَجب أنْ يقال شعرًا، وكأنه عائد لتوِّه من رحلةٍ زمنية بعيدة، بعد أن ضرب على أذنيه في كهفِ البشرية سنين عددًا، ثم بعث بقناعات وخبرات اجتماعية جديدة تُناسِب هذا العصر الذي تحوَّلنا فيه إلى تروس صغيرة في آلة ضخمة مُعقدة، وهذا يذكِّرنا بما فعله المتنبي من قبلُ حينما خرج على الناسِ بقصيدته الشهيرة:
صَحِبَ النَّاسُ قَبْلَنَا ذَا الزَّمَانَا
وَعَنَاهُمْ مِنْ شَأْنِهِ مَا عَنَانَا

وَتَوَلَّوْا بِغُصَّةٍ كُلُّهُمْ مِنْ
هُ وَإِنْ سَرَّ بَعْضَهُمْ أَحْيَانَا



وبناءً على هذه الخبرة المكتسبة، قسم باشراحيل الناسَ فئتين: الأولى فئة (اللاهون)، والفئة الثانية هي التي تشمله ضمنًا، وعبَّر عنها في المقابل بقوله (نحن) في الشطر الثاني من البيت، وبين الفئتين بعدٌ شاسع، ولَم يعد الناسُ فيما يعشقون مذاهب، كما كان من قبل، بل صاروا مذهبين اثنين فقط حسب رُؤية شاعرنا، وكلُّ مذهب له مُريدون وعُشَّاق، وهو في تقسيمه هذا أفضلُ مني حالاً ومآلاً، فقد سبق أن قسمت الناس أيضًا إلى فئتين، ولكني وضعت كلَّ الناس في جانب، ووضعت نفسي وحيدًا في الجانب الآخر، وذلك عندما كتبت قصيدة: "بيني وبين العالمين"[2] سنة 1995، وقلت فيها:
وَاهِمٌ مَنْ ظَنَّ أَنَّا فِي الرُّؤَى مُتَّفِقُونْ
فَجَمِيعُ النَّاسِ نَوْعٌ وَأَنَا خَصْمٌ مُبِينْ
قِسْمَةٌ ضِيزَى، سِبَاقٌ قَاتِلٌ، أَمْرٌ مَشِينْ
وَتَبَارَيْنَا لِيَعْدُو الْكُلُّ فِي عَكْسِ اتِّجَاهِ الْآخَرِينْ
وَانْزَعَجْنَا مِنْ غِيابِ الْعَدْلِ عِنْدِ الْحَاكِمِينْ
فَذَهَبْنَا نَتَسَوَّرُ حُرْمَةَ الْمِحْرَابِ لَكِنْ
لَيْتَ عِنْدِي نَعْجَةً وَاحِدَةً أَكْفُلُهَا لِلطَّامِعِينْ

ونعود إلى تقسيم باشراحيل وأبياته، فاللاَّهون عشقوا السَّمَر في عَشِيَّات أخَّاذة... لا بُدَّ أن تكون قد أتت بعد ضحوات هادئة، وأمسيات هانئة، وهذه "العشايا" - كما يسميها الشاعر - احتضنت كثيرًا من الغافلين، الذين لا ينظرون أبعدَ من تحت أرجلهم، أمَّا الشاعر ورفاقه، فقد عشقوا ما هو أبعد من ذلك بكثير، ورحلوا بعُقولِهم وقلوبهم إلى ما بعد الضحوات والعشيات والدنيا كلها.

عشقوا ما بعد المنون، وكأنَّهم برموا بالحياة، ولَم يستَسِيغوا منها زمانًا ولا مكانًا؛ حيث يرى باشراحيل أنَّ الأرضَ عداواتٌ وشكوى، وخُطًى لاهثة خلف الآلام والمواجع، وليس خلف الآمال والأحلام، ومن الواضح أنَّ الشاعر في هذه الرُّؤية مُتأثرٌ جدًّا بقوله - تعالى -: ï´؟ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ï´¾ [البلد: 4].

وحقيق على مَن يرى الأرض ويَصفها بهذه الصفات، أنْ يتطلعَ إلى المرحلة التالية، التي ستكون بعيدًا عن الأرض، التي لَم يخلد إليها الشاعر ورفاقه، ومن العجيب أنَّ هذه الأبيات لباشراحيل لم تكن ضمن قصيدة رثاء، ولا كانت من مجموعة "مرافئ الدمع"، التي تتقاطر فيها دموع الشاعر على أحبابه الذين سبقوه إلى دار البقاء، ولكنَّها أبيات في قصيدة (مئوية الحب) من مجموعة (منابر الفجر).

وهذا هو ما جعلني أشيرُ في مُقدمة الدراسة إلى تداخُل الأغراض الشعرية ومَشروعيَّتها وجمالها، إذا أُحسِن التداوُل والتداخُل.

وهذه الرؤية تذكرنا بأديبنا الكبير عباس العقاد حين يقول:
حَيْرَانُ حَيْرَانُ لاَ نَجْمُ السَّمَاءِ وَلاَ
مَعَالِمُ الْأَرْضِ فِي الْغَمَّاءِ تَهْدِينِي

يَقْظَانُ يَقْظَانُ لاَ طِيبُ الرُّقَادِ يُدَا
نِينِي وَلاَ سَمَرُ السُّمَّارِ يُلْهِينِي



وبرغم المسافة الزمانية والمكانية التي بين باشراحيل والعقاد، فقد اتَّفق الشاعران وأبْدَيَا آراءً مشابهة عن الحياة الدنيا، وكأنهما في ذلك يستقيان من نبع واحد.

ولا نستطيع أن ندَّعي أن للشاعر باشراحيل نظرةً تشاؤميَّة؛ لأنَّ كلَّ قصائده تقريبًا تنتهي بالدُّعاء، أو الابتهال، أو الرجاء من الله - سبحانه - أن يخفف ما يُعاني ويجد، أو أن يزيل الهمَّ والكرب، كما يقول في رثاء الأديب/ حمد الجاسر في نهاية القصيدة[3]:
فَاغْفِرْ لَهُ يَا إِلَهَ الْكَوْنِ فِي كَرَمٍ
فَإِنَّنَا وَجَمِيعَ الْخَلْقِ خَطَّاءُ



وكذلك في قصيدة رثاء الشاعر/ حسين سرحان[4]:
نَدْعُو لَكَ اللَّهَ الَّذِي
قَدْ حَفَّ بِالْإِحْسَانِ عَبْدَهْ



أمَّا القصيدة التي يرثي فيها أباه، فإنه يُظهر الجلد والتصبر والعزاء، بأسلوب الأديب الإسلامي الواثق، ويقول في نهاية القصيدة:
لَمْ تَزِدْنِي الْحَيَاةُ غَيْرَ يَقِينٍ
أَنَّ لِلَّهِ رَجْعَتِي وَسُكُونِي

وَهْوَ بِالْخَلْقِ رَاحِمٌ وَكَرِيمٌ
وَهْوَ مَوْلاَكَ بَيْنَ دُنْيَا وَدِينِ



ولو استعرضنا كلَّ قصائد باشراحيل، سنجد فيها هذه الخاصية، فالحس الديني الإيماني - ولا نزكي أحدًا على الله - مع عدم الاكتراث بهموم الدُّنيا وفتنها وزينتها، إضافةً إلى إحسان الظنِّ بالناس، كل ذلك ملامح واضحة لا تُخطئها العين، وهذا هو المدخل الطبيعي الذي يستطيع الدارس أو القارئ أنْ يَعْبُر من خلالِه إلى آفاقِ وأعماق الشاعر المرهف (باشراحيل)، إذا أراد أن يعرفَ اتجاهاتِ الرِّثاء عنده، فهو شاعر يقول صراحةً: إنَّ أحزانه أكثر من أفراحه - وهكذا كل الشعراء الصادقين - وهو في ذلك يتَّفق مع الشاعر، الذي قال (ولعله عباس العقاد):
إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا
فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلاَدِ



فهو ليس من أهل اللهو والعبث، وإن تناثر من أعماقه بعضُ قصائد الغزل والشوق والهيام، كما أنَّه ليس من أهل الأرض والغَفْلة مهما كانت الخُطى التي مشاها عندما كتبت عليه.

ولاستيضاح اتِّجاهات الرثاء عند باشراحيل لا بُدَّ من تناوُل بعض إبداعاته في هذا الغرض على سبيل الاستشهاد والاستنباط.

والنموذج الأول الذي سنجوب في عرصاتِه هو قصيدة "لله درك يا عمر"، التي كتبت في رثاء المغفور له بإذن الله الشيخ: عمر بن محمد بن سبيل (إمام المسجد الحرام)[5]، يستهل الشاعر مرثيته قائلاً:
لِلَّهِ مَا أَقْسَى الْخَبَرْ
الْيَوْمَ وَدَّعَنَا عُمَرْ

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.33 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.70 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.58%)]