عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 29-07-2021, 03:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,851
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل


والشاعر لا يكتفي بأنه تضرع إلى الله، ولكنه يسترحم بكل أهل الطاعات الذين طافوا حُجَّاجًا أو معتمرين:
وَدُعَاء مَنْ صَلَّى الْفُرُو
ضَ الْخَمْسَ وَالْتَمَسَ الْحَجَرْ



ومما سبق يتضح لنا أنَّ اتِّجاهات الرِّثاء عند باشراحيل ليست بُكائِيَّات أو مآثر جامدة، ولكنها فرصة للتأكيد على الثَّوابت الإيمانية، والحث على الفضائل، وذكر المحاسن، وتسجيل الخواطر، كل هذا مع سرد آلامه الخاصَّة من فقْد الحبيب الذي غاب.

ونظرة عابرة في قصيدة أخرى لباشراحيل أراها ضروريةً لتثبيت أركانِ هذه الرؤية، حتى وإن لم نلجأ إلى تَحليلها كما حدث من قبل.

والنموذج الثاني الذي أتناوله هو قصيدةُ (الفراق المر) في رثاء الشيخ العالم محمد بن عثيمين[6]، عندما قرأتُ القصيدةَ للمرَّة الأولى، سرح بي الخيال بعيدًا إلى خير العصور، وتذكَّرت قصةَ الصحابي الذي سَمِعَ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يدعو الله عند دفن أحد الصحابة، فقال: ليتني أنا الذي على النعش، وذلك من طلاوة ما سمعه من المصطفى وهو يترحَّم على الفقيد.

ولما قرأتها للمرة الثانية عند إعداد هذه الدراسة، تمثَّلت بيتَ الشاعر مالك بن الريب حين قال:
تَذَكَّرْتُ مَنْ يَبْكِي عَلَيَّ فَلَمْ أَجِدْ
سِوَى السَّيْفِ وَالرُّمْحِ الرُّدَيْنِيِّ بَاكِيَا



لأنَّ العالم الجليل (ابن عثيمين) كان موفور الحظ، فجنَّد الله له مَن يَرثيه بما هو أهل له، ويا ليت شِعْري، من سيرثينا غدًا؟

يقول باشراحيل في رثائه (لابن عثيمين):
يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ الَّذِي يَعْتَادُنَا
فِي كُلِّ عِيدٍ بِالتُّقَى يَتَبَسَّمُ

عِيدُ الْجِنَانِ هُنَاكَ أَعْظَمُ فَرْحَةٍ
لِلْمُؤْمِنِ الصَّادِي لِمَنْ هُوَ أَعْظَمُ



وأيضًا يستغلُّ باشراحيل الفرصة السانحة؛ ليؤكِّد على أهميَّة العلم وفضله، وعلى قيمة التقوى في الدنيا والآخرة، وفي ختام القصيدة يستودع الشاعر كلَّ وجدانه عند الله - سبحانه - الذي لا تضييع ودائعه:
هُوَ خَالِقُ الْكَوْنِ الْعَظِيمِ وَكُلُّنَا
رَهْنُ الْمَنُونِ وَلَنْ تَرَى مَنْ يَسْلَمُ



والوقار عند باشراحيل يُعَدُّ من أهمِّ القيم التي يَجب التمسُّك بها في كُلِّ الأحوال، أو هو حجر الزَّاوية في العلاقاتِ الإنسانية؛ ولذلك فإنَّه لا يتوانى إطلاقًا في إبداءِ الإعجاب الفائق بِمَن يتصف بهذه الصِّفَة السامية.

ففي رثائه للشاعر/ حسين عرب في قصيدة بعنوان (على مثله دمع الرجال يسيل)؛ يقول باشراحيل:

هُوَ الصَّادِقُ الْأَوْفَى الْحَفِيظُ لِعَهْدِهِ
رَفِيعٌ عَنِ الْهَذْرِ السَّقِيمِ أَثِيلُ[7]



فإذا ما استعدنا من خِلال الشعر علاقةَ باشراحيل بالمرثيِّ، سنجد ذات المعاني مداولة بينهما في مراسلاتِهم، فهو أيضًا القائل من قبلُ في قصيدة كان قد أرسلها للشاعر/ حسين عرب، في حياته، وكأنَّه استشعر ضرورةَ التأكيد على معاني الوفاء، قال:
هُوَ الزَّمَانُ فَلاَ تَعْجَبْ لِحَالَتِهِ
إِذَا تَقَلَّبَ فِي أَعْقَابِهِ النَّزحُ



وحسين عرب الذي يُخاطِبه باشراحيل بهذه المداخلات أو المساجلات القيِّمة، هو صاحب القصة الشهيرة (قصة القدس)، التي تتجلَّى فيها الأسباب التي جعلت باشراحيل يهيم بحبه قلبًا وقالبًا.

فبعد أنْ استعرض الشاعِرُ حسين عرب بعضَ الأحداث العربية الدَّامية وتوابعَها في قصيدة طويلة نسبيًّا، اختتمها بقوله:
أَيُّهَا السَّامِعُونَ عَفْوًا فَمَا كُنْ
تُ لِأُشْجِيَكُمْ بِمَا أَشْجَانِي

قَدْ لَوَانِي الْقَرِيبُ عَنْ بَهْجَةِ الْحَفْ
لِ وَلَمَّا عَالَجْتُهُ أَعْيَانِي



وبعد هذا الاعتِذار البليغِ، الذي يُوضِّح مدى شفافية شعراء الجزيرة العربية وحساسيتهم الزائدة نحو مشاعر الآخرين - يصف الشاعر حسين عرب تلك الليلةَ التي جمعته مع أحبته في تهامة قائلاً:
لَيْلَةٌ مِنْ ثَقَافَةٍ وَبَيَانٍ
وَجَمَالٍ وَفَرْحَةٍ وَأَغَانِي

لَمْ أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا غَيْرَ أَنِّي
كَجَوَادٍ يَعْدُو لِغَيْرِ رِهَانِ



فإذا كانت هذه المشاعر الفياضة هي التي كانت تَجمع بين حسين عرب وباشراحيل، فقد وجب على باشراحيل أنْ يُعَزِّيَه أحرَّ العزاء، مُحتسبًا كُلَّ الخصال التي وجدها فيه عند من لا تضيع ودائعه.

وكأنَّه يتخوف مما حذر منه من قبل الشاعر الفارسي (الطغرائي) حين قال لاميته الشهيرة:
غَاضَ الْوَفَاءُ وَفَاضَ الْغَدْرُ وَانْفَرَجَتْ
مَسَافَةُ الْخُلْفِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ



وهذا يُوضِّح أنَّ اتجاهات الرِّثاء عند باشراحيل تَجوب في آفاقِ الأخلاق والمثل العليا، سواء توجَّه بأشعاره تلقاء نجد أو تِهامة، أم حَلَّق فيها في سَموات الحضارة العربية الإسلامية أينما حلت.


يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.82%)]