عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 29-07-2021, 03:30 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

الرثاء في شعر باشراحيل (3)
محيي الدين صالح



بين الحجاز والشام


حينما قرأت للشاعر بشار بن برد بيتَه الشهير:
يَا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ
وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانَا



اعتبرتُ هذه المقولة من بناتِ الخيال التي تصدر عن الهائمين فقط... وعندما قرأتُ للشاعر باشراحيل قصيدةَ (منبر الشرق)، التي يرثي فيها الشاعرُ الكبير/ عمر أبو ريشة، تأكَّدت أنَّ بشارًا لم يتجاوز ولم يبالغ، ولكنه كان صادقًا، فها قد عَشِقْتُ (أبا ريشة) دون أنْ أراه من قبل، وذلك من خلال ما قاله باشراحيل، فتمنيتُ أنِّي لو تواصلت مع الفقيد وعايشته، ولمست فيه هذه الصفات النبيلة عن قُرب وهو صاحب قطوف الشعر كما يناجيه باشراحيل:
أَيُّهَا الشَّاعِرُ الْمُتَوَّجُ بِالشِّعْ
رِ وَمِنْ شِعْرِهِ شَذًى وَقُطُوفُ




وهذه القصيدة تحلِّق في أفق الحجاز، تلك الآفاق التي لها مكانتها؛ إذ تنزلت من خلالها كلُّ معاني مكارم الأخلاق التي يبثُّها باشراحيل عبر قصائده، وتتَّجه شمالاً في ذات الدُّروب التي أظلَّت رحلةَ الصيف، التي كانت تتحرَّك من الحجاز إلى الشام، إلاَّ أنَّ بضاعةَ باشراحيل ليست للتِّجارة التي تطعم من جوع، ولكنَّها للحب والمودة ووَصْل ما أمر الله به أن يوصل، وإذا كانت المسافةُ بين مكة (بلد الراثي)، وسوريا (بلد المَرْثِي) قد نعمت بهذا التواصل، فإنَّني أضيف إليهما (وادي النيل) بالتجاوب... ثم تتداخَل المسافات ما بين المتلقين، فتنصهر في بوتقة الأدب العربي وفق المنظور والتصوُّر الإسلاميَّين، وتتلاحم عبر القوافي لما فيه الخير للشعوب ثقافِيًّا واجتماعيًّا.

وعمر أبو ريشة كان شاعرًا يستحقُّ الرثاء بكُلِّ هذه المعاني والأخيلة، ولم يكُن باشراحيل مُجاملاً عندما سمَّى قصيدته بمنبر الشرق، فإذا تتبعنا أثر رحيل أبي ريشة عن دُنيانا في أعماق بعضِ الشعراء المعاصرين، سنجد أيضًا مكانته في قلوب الجميع، وكما يقول الشاعر السوري (ناصر الخوري) في رثاء أبي ريشه[1]:
نُوحِي جُفُونَ الْهَوَى وَاسْتَنْفِري الْوَتَرَا
مَاتَ الْأَمِيرُ وَنَايُ الشِّعْرِ قَدْ كُسِرَا

أَغْنَى الزَّمَانِ تُضِيءُ الدَّرْبَ أَحْرُفُهُ
فَالشَّمْسُ تَحْمِلُ فِي أَجْفَانِهَا الْقَمَرَا



وهذا دليلٌ على أنَّ باشراحيل كان صادقًا في تعبيراته في رثاء أبي ريشة، ومن ثَمَّ هو لم يتصنع الألفاظ والمعاني.

وعنوان القصيدة (منبر الشرق) فيه إيحاء، المنبر عند المسلمين له مكانةٌ مَرموقة؛ حيث يشعُّ منه نورُ العلم، والشرق يُمثل بدايةَ كلِّ يوم جديد ومولد متجدد للشمس التي لا يُفنيها الغروب.

وواضح أن الشاعر أراد أن يجمع بين هذين النيرين، عندما أراد أن يتحدث عن (عمر أبو ريشة) وأدبه الذي تركه من بعده، وسيرته التي يراها باشراحيل نموذجًا يُحتَذى به، وكان يُمكنه أن يكتفي بالعُنوان في الاستدلال على ذلك، ولكنه استرسل قائلاً:
أَيُّهَا الْمُبْدِعُ الْمُحَلِّقُ كَالنِّسْ
رِ عَلَى الرِّيحِ فِي الْفَضَاءِ يَطُوفُ

أَيُّهَا الْمُرْتَقِي إِلَى سُبُلِ الْمَجْ
دِ وَلِلنَّاسِ مِنْكَ عَقْلٌ حَصِيفُ



ويُصرِّح بما خفي بين حروف العنوان، من ذلك الضوء الذي ينبعث من منبره؛ ليفتت الظلام:
أَنْتَ لِلْعُرْبِ مِنْبَرٌ يَتَضَاوَى
فِي دَيَاجِي الظَّلاَمِ مِمَّا يَحِيفُ



وباشراحيل كما عهدناه في كُلِّ قصائد الرثاء وغير الرثاء، لا يَحيد عن اللجوء إلى الله - سبحانه وتعالى - بما يرجوه لنفسه ولغيره:
فَلْيُنِلْكَ الرَّحْمَنُ خَيْرَ ثَوَابٍ
وَهْوَ لِلنَّاسِ غَافِرٌ وَرَؤُوفُ



وهو إذ يَختتم قصيدتَه في رثاء (عمر أبي ريشة) بهذا البيت، وكأنَّه يريد أنْ يزيلَ عن القراء بعضَ القلق الذي قد يُساورهم بسبب البيت الأول؛ حيث يقول:
حَسْبُنَا كُلِّنَا أَسًى يَا رَفِيقُ
وَأَنِينُ الْفِرَاقِ دَاءٌ مُخِيفُ



وفيما يتعلَّق بأسلوب باشراحيل في هذه القصيدة، نَجده يُخاطب المرثي بأشكال متعدِّدة، فأحيانًا وكأنه يناديه عبر الأثير بقوله: (أيُّها)، ويُكرِّرها في أبيات أربعة غير متتابعة كقوله:
أَيُّهَا الرَّاحِلُ الْمُوَسَّدُ بِالْحُبْ
بِ وَفِي رَوْضِكَ الزَّمَانُ الْوَرِيفُ

أَيُّهَا الشَّاعِرُ الْمُتَوَّجُ بِالشِّعْ
رِ وَمِنْ شِعْرِهِ شَذًى وَقُطُوفُ



(وكان قد سبق أنْ خاطبه بقوله: (أيها المبدع، وأيها المرتقي).

وهو في ذلك يتصوَّره ماثلاً أمامَه بقيمه وشعره وإبداعاته، ونجده يقول له:
أَنْتَ فِي الدَّهْرِ صُورَةٌ تَتَسَامَى
وَصَدَاكَ الشَّجِيُّ فِينَا أَلِيفُ

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.20 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.88%)]