عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 29-07-2021, 03:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,138
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل



مع أنَّه في بعض الأبيات يتحدَّث عنه بضمير الغائب، وبفعل (كان):
كَانَ مِلْءَ الْعُيُونِ يُنْشِدُ لِلْحَقْ
قِ وَفِي رَاحَتَيْهِ مِنْهُ سُيُوفُ

كَانَ فِي الْجَدْبِ يَسْتَجِيبُ إِلَى الزَّهْ
رِ وَوَجْهُ النَّدَى إِلَيْهِ شَفُوفُ



وقد يخاطبه بـ(كنت):
كُنْتَ تَمْضِي إِلَى الْحَيَاةِ بِعَقْلٍ
وَهْوَ فِيكَ الْحَكِيمُ وَالْفَيْلَسُوفُ



وهذا التنوُّع في أسلوبِ المُخاطبة يُوحي بأنَّ باشراحيل لم يفتقدْ رُوح (عمر أبي ريشة) الإنسان الشاعر، ولكنه فَقَد حضورَه المكاني فقط.

وإذا نظرنا إلى مُجمل القصيدة من خلال اتِّجاهات باشراحيل في الرثاء، نجد أنَّها واضحةُ المضمون، (فأنين الفراق) في البيت الأول، و(الراحل الموسد) في منتصف القصيدة، و(الجوانج الثكلى) في نهاياتها - تَجزم الغرض الرثائي للقصيدة، والأغاريد، والبلابل، والروح، والنسر المحلِّق، والريح: كلمات تدلُّ على شاعريَّة المرثي ومكانته في فَضاءات الأدب، وكلمات: (التسامي، والحكمة، والفلسفة، والارتقاء) تدُلُّ على مكانته بين الناس.

ومع أنَّ القصيدةَ تتكوَّن من واحدٍ وعشرين بيتًا، فإنَّ المعاني والصُّور والأخيلة التي بُثَّت من خلالها كثيرةٌ، تفي بمكانةِ الفقيد ومآثره في قلب الرَّاثي؛ ولذلك فَقَدِ استطاع باشراحيل أنْ يقنعَ المتلقي برسالته التي أراد أنْ يبلغها للمثقف العربي عن رُوَّاد الشعر في العصر الحديث.

وهذه الأبيات وهي تحلِّق من الحجاز إلى الشام، فإنَّها تطيح بالحدود السياسيَّة التي رسمها الاستعمار؛ للتفريق بين أبناء الأمة الإسلاميَّة في ثقافتها، بل تبشِّر بأنَّ ما بذره الأعداءُ لم يُنبت إلاَّ طَلْعَ التحدِّي، ولو أتى أُكُلَه بعد حين، وهذه الدِّراسة التي نَصُوغها ونحن على ضفافِ نهر النيل دليلٌ على الصدى الطيب الذي أحدثه الشعر والشاعر، ونجاحه مع رفاقه الشُّعراء والأدباء في خلخلة الإقليمية، التي يُحاول ضعافُ النُّفوس فرضها على الواقع العربي، وهم ينادون بقَطْعِ الصلة بين الماضي والحاضر؛ تَمهيدًا لتفتيت الحاضر.

كما أنَّ المؤرخين الذين سيأتون في أجيالٍ لاحقة، ويستعينون بالأدب في تأريخهم، ستقرُّ أعينُهم عندما يرَوْن مثل هذه القصائد التي تُؤكِّد لهم مدى التواصُل المكاني بين العرب في كل مكان، والتواصل الزماني بين الأجيال المتعاقبة، وارتباطهم بالنبع الصافي، الذي بدأ منذ قرون بعيدة مع قوله - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وتكون المحصلة النِّهائيةُ خيرَ دافع للأجيال القادمة على السير في ذاتِ طريق المجد، من خِلال ما توارثوه من أدبٍ، ولغة، وثقافة، وأشكال تعبيريَّة، وخصوصيَّة أخلاقيَّة، وأوازن بيانيَّة، يتخطَّون بكل ذلك أعتابَ المستقبل، فيذكرون أجدادهم (الذين هم نحن) بكل خير.

• • •







الأغراض المتنوعة وظلال الرثاء:

معاني الرثاء في شعر باشراحيل مُتعدِّدة، قد تأتي مباشرةً كما اعتادَه الناسُ، وقد تأتي في أثناء وجدانيَّاته وهو يستدعي من ذاكرة التاريخ بعضَ المآثر أو أصحابها للاستِدلال، أو الاستِشهاد بها في ظروفٍ مُعيَّنة، ورُبَّما يستصرخ بهم؛ ليثيرَ حَمية مُحبيهم وعشاقهم.



ففي قصيدة (شوقي أمير الشعراء) من ديوان (معذبتي)، نجد أنَّ باشراحيل يناجي شوقي قائلاً:



أَدْعُوكَ فِي زَمَنٍ تَنَاقَضَ أَمْرُهُ

وَسَطَا عَلَى الشِّعْرِ الْعَظِيمِ الْبَانِي




الشِّعْرُ فِي أَيَّامِنَا فِي مِحْنَةٍ

مِنْ هَجْمَةِ الْغُرَبَاءِ وَالْغِرْبَانِ




أَدْعُوكَ أَدْعُو الشِّعْرَ يُثْرِي عُمْرَنَا

أَدْعُو أَمِيرَ الْقَوْلِ وَالتِّبْيَانِ







وكأنَّ باشراحيل تلفَّت حوله، فلم يجد من رفاقه ما يشفي غليلَه، أو رآها أقلَّ مما يتوقعه في مُواجهة الأدعياء والمتطفِّلين على موائد الشِّعر تَحت أسماء مُتنوعة، وفي مثلِ هذه الظُّروف تكون الساحةُ في أشدِّ الحاجة إلى العبقريَّات الأدبية، التي لا يشقُّ لها غبار، وأمير الشُّعراء بما تركه لنا من شعرٍ خالد هو البدر الذي يفتَقِده باشراحيل في الليلة الظلماء، فيستدعيه بكل معاني الحب والوفاء والإجلال قائلاً:



أَدْعُوكَ حُبًّا يَا حَبِيبَ تُرَاثِنَا

يَا خَالِدَ الْإِلْهَامِ وَالْأَوْزَانِ







ويُسَوِّغ باشراحيل سببَ هذا التلاحُم بينه وبين شوقي:



يَا شَاعِرًا مَلَأَ الْوُجُودَ قَرِيضُهُ

بِالْحُبِّ وَالْإِلْهَامِ وَالْإِيمَانِ




أَثْرَى الْحَيَاةَ فَأَشْرَقَتْ أَيَّامُهُ

نَحْوَ الدُّنَا تَزْهُو بِكُلِّ زَمَانِ







وهذا هو عَيْنُ الرِّثاء، وإن لم يكن في شخصٍ فإنَّه في معنى أو قيمة أو أثر، وكذلك رُبَّما يكون المرثي زمانًا أو مكانًا.



وهذا الاتجاه في شعر باشراحيل علامةٌ أو سِمَة من سمات القريض عنده، وهذا هو ما أشرتُ إليه من قبل عن تداخُل الأغراض الشِّعْرِيَّة وتَمازُجها وتلاحُمها حسب ما تقضيه المواقف، وإن كان "شوقي" أمير البيان، فإنَّ لكلِّ جانب من جوانب الحياة أميرَه ورجالَه، والتاريخ مليء بأسماء العُظماء في كلِّ مجال، والخصال الحميدة التي يحن إليها باشراحيل لا يَخلو منها زمان، ولذلك نجده يروح ويغدو مستعرضًا الأيَّام والليالي، بل الشهور والسنين، وكأنَّه نَحْلة تأكل من كلِّ الثمرات سالكةً سُبُلَ ربِّها ذُلُلاً، وفي آخر أسفاره يقدِّم لنا عصارةَ قراءاته وجولاته في أعماقِ التاريخ الأدبي الإسلامي، فلا يُسميها "قصائد رثاء"، ولكنَّه يسميها إمَّا بأسماء أبطالِها، أو بمآثرهم.



ففي قصيدة عنوانها "حمزة بن عبدالمطلب" من ديوان "وحشة الروح"، يتلمَّس باشراحيل مواطنَ الضَّعْفِ الذي أصاب الأمَّة الإسلاميَّة، ويستدعي تلك المعاني التي غابت بغياب أصحابها، وأسد الله "حمزة" كما يقول عنه:



هُوَ ذَلِكَ الشَّهْمُ الشُّجَا

عُ وَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمُنَزَّهْ




كَمْ قَدْ سَقَى "أُحُدًا" دَمَ الْ

بَاغِي وَبَاتَ الْحَقُّ رَمْزَهْ







فهل استَشعَر باشراحيل بِحِسِّه الشاعري المُرهف غِيابَ الشهامة، والشجاعة، ونزاهة القلب، أو أنَّه لاحَظ استشراءَ الغدر والخيانة عند خصوم الإسلام، ولم يجد مَن يصدُّهم بما هم أهلٌ له، فتذكر استشهادَ حمزة بضربةٍ غادرة، وهذه بتلك؟



يَا رُمْحَ وَحْشِيِّ الَّذِي

غَرَزَ الضَّغِينَةَ شَرَّ غِرْزَةْ





ينبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.40 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.61%)]