عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 29-07-2021, 03:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,266
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرثاء في شعر باشراحيل

الرثاء في شعر باشراحيل (4)
محيي الدين صالح






من أهمِّ الجماليَّات التي تُميِّز بعضَ الأدباء والشعراء - التزامُهم بالموروث الثقافي، والتأثُّر به، والتفاعُل معه، فإذا تَجاوب الشاعِرُ مع مَوروثِه الدِّيني بالذَّات وهو ينسج أشعارَه وقوافيه، فإنه لا يلتفت كثيرًا إلى ما حوله ومن حوله، إلاَّ بالقدر الذي ينسجم مع دواخله ومكوناته، وهذا يأخذنا إلى قولِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالِل)) والحكمة العربية التي تقول: "قل لي من تصاحب، أقُلْ لك من أنت"، وعلى هذا فيُمكننا الاستدلالُ بالرفيق على رفيقه، فإذا كان القارئُ يعرف باشراحيل، الذي يعيش بين ظَهْرَانَيْنا، فمن خلاله يستطيعُ التعرُّف على من رثاهم بشعره، وإذا كان يعرف سيرةَ من رثاهم باشراحيل، فسيعرف شخصيةَ الراثي من خلالهم.



ويلحظ المتتبع لشعر باشراحيل الرثائي في مجموعته "مرافئ الدمع" أنَّه تعرض لقامات كبيرة، لها دَوْرٌ عظيم دينيًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا، ومن هؤلاء الأعلام: الأديب الكبير والعالم الموسوعي الفريق يحيى المعلمي، وعلامة الجزيرة الراحل حمد الجاسر، وشيخ الإسلام محمد بن عثيمين، وفقيه العصر سماحة الشيخ الراحل ابن باز، والأديب عبدالقدوس الأنصاري، والكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال، والشاعران حسين سرحان، وحسين عرب، والشاعر السوري عمر أبو ريشة، والكاتب محمد أسعد، والفنان السعودي طلال المداح، إضافةً إلى بعض المقربين إليه مثل عباس عجلان، وعبدالله الحمدان، ومعتز فاروق، وكذلك فإنَّ أولى الناس به وباهتماماته كان لهم نصيب من قصائده "والده في قصيدتين، وعمته في قصيدة".



ونستطيع أنْ نؤكِّد أنَّ باشراحيل أخلصَ في قصائده هذه لرموز فكرية ودينية وأدبية، أجمعت الأمَّة على عظمة ما قدَّمته من آراء وأفكار وأشعار، وفي إذكاء جذوة الصَّحوة في أركان المجتمع العربي الإسلامي، بكتاباتها الرَّصينة، وإخلاصها في عِلاج مُشكلات الأمَّة، إنْ شعرًا وإنْ نثرًا، أو حتى بالمقالات الاجتماعية، أو الخطب المنبرية، أو الدروس المسجدية، ومن هنا كان باشراحيل مُخلصًا لأبعد حد في رثائه لهذه الشموس النَّيِّرات في سماء العرب في العصر الحديث، وإلاَّ... فإنَّنا لم نَرَه - مثلاً - يرثي أصحابَ الجاه والسُّلطان والثراء، لماذا؟ لأنه كان صادقًا في قصيده الرِّثائي لشخصيَّات بارزة استحَقَّت كلمةَ الرِّثاء، في وقتٍ عزَّ فيه الراثي الصادق، والصديق النبيل، وكأنَّه أراد أن ينأى بنفسِه عن الشبهات التي تلحق بمن يرثون القادةَ والحكام.



ففي قصيدته "طبت وطبت" في رحيل الأستاذ الأديب المعلمي، تتبدَّى علائم وأمارات الموت واضحةَ العيان في خيال الشاعر؛ لأَنَّه الحقيقة الكبرى في دنيا الناس، والنَّجاة منه ليست لأحد:



كُلُّنَا إِنْ تَقَارَبَ الْمَوْتُ حَاضِرْ

مَنْ يَرُدُّ الْقَضَاءَ مَنْ ذَا يُكَابِرْ




قَدْ تَرَجَّلْتُ وَالْأَزَاهِرُ ثَكْلَى

أَنْتَ أَسْقَيْتَهَا بِدَمْعِ الْمَحَاجِرْ







وهو في رثائه ليحيى المعلمي لا يتحدَّث عنه كشاعر وأديب ومُؤرخ ولغوي؛ لأنَّ فاجعةَ المنون سلبت من باشراحيل كُلَّ تفاصيل حياة الراحل الكريم - ذلك العَلَم الذي لا ينكر - وجعلته يَهيمُ في طريق الموت واصفًا وشارحًا وراثيًا؛ حيث لا تنفعُ إلاَّ الكلمة الصادقة في هذا المُخْلِص الذي أدرك فيه الشاعر أنَّ كلَّ نعيم في الحياة إلى زَوال، وأنَّ عزاءَه هو الدُّعاء بالمغفرة له في هذا المقام، وليس الحديث عن مناقبه أو عن حياته:



جِئْتُ أَرْثِيكَ وَالدُّعَاءُ عَزَائِي

إِنَّ رَبَّ الْأَنَامِ لِلْعَبْدِ غَافِرْ




مَا نَعِيمُ الْحَيَاةِ غَيْرَ خَيَالٍ

وَنَعِيمُ الْجِنَانِ أَعْلَى الذَّخَائِرْ




فَاغْتَرِفْ مِنْ مَنَاهِلِ الرَّبِّ فَضْلاً

وَهْوَ بِالْفَضْلِ لِلْخَلاَئِقِ جَابِرْ




جِئْتُ أَرْثِيكَ وَالْمَنَايَا طَرِيقٌ

وَخُطَانَا عَلَى الْحَيَاةِ مَعَابِرْ




ضَمَّخَ اللَّهُ بِالرَّيَاحِينِ وَجْهًا

وَسَقَاكَ الْحَيَا مِنَ الْخَيْرِ مَاطِرْ







ويرى باشراحيل أنَّ المعلمي ملَّ الحياةَ السقيمة، وتَمنَّى الفردوسَ الأعلى؛ لذلك كان كالطير المسافر، وكذلك أراد الشاعرُ في رثائه أنْ يكون مثلَ البرقيات المستعجلة، والتعازي الحارَّة المخلصة، بلا رتوش أو أقنعة مزيفة:



يَا لَيَحْيَى تَجَاذَبَتْهُ الثَّوَانِي

قَبْلَ أَنْ نَلْتَقِي كَطَيْرٍ مُسَافِرْ




هَجَرَ الدَّوْحَ وَاغْتِرَابَ اللَّيَالِي

مَلَّ مِنْ سَطْوَةِ الْحَيَاةِ مُهَاجِرْ




فَارْشُفِ النُّورَ مِنْ رَحِيقِ الْأَمَانِي

طِبْتَ رُوحًا وَطِبْتَ مَيْتًا وَحَاضِرْ







وارتشافُ النور من رحيق الأماني صورةٌ شعرية بديعة، توضِّح مدى ارتباطِ الشاعر بالمعاني الإيمانية التي يراها في الْمَرْثِيِّ... كما توضح قوة تأثُّر باشراحيل بالقناعات التي عاش لها وبها المرحوم بإذن الله (يحيى المعلمي)، وكيف كان قدوةً لمن معه ومن يأتي بعده.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.26 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.01%)]