مداخل وضعيات التعلم
أ. حنافي جواد
الوضعيَّات مفردُها وضعية، والوضعية: صفة لتَموْضُعٍ معين، تموضع المعلم والمتعلم، لممارسة فعل التعليم والتعلم؛ تَعني الوضعياتُ في الغالب الظروفَ والسياقات التي يُجرى فيها النشاط، أو يَدور فيها الحدث التربوي.
ففي معجم أكسفورد الإنجليزي نجد أن الوضعية (Situation) تَعني: مُعظم الظروف والأشياء التي تقع في وقت خاص، وفي مكان خاص، وتقترن الوضعية بدلالة أخرى، وهي السياق، الذي هو عبارة عن وضعية يقع فيها الشيء، ويساعدك بالتالي على فَهمه.
قد تكون وضعية بيداغوجية أو ديداكتيكية، أو هيئة لترتيب الفصل، ولتنفيذ سيناريو بيداغوجي معين يقتضيها، أو تأتي بمعنى وضعية التسوق، ووضعية الإتيان بالأطفال من المدرسة، ووضعية فقدان المفاتيح... إلخ، إنها وضعيات كثيرة نشهدها في الحياة عمومًا.
هناك تموضعٌ للمُدرس وتموضع للمُتعلم، والتناسقُ بين الوضعيَّتين ضروري ليَحدث التعلم والتعليم المنشودان، ودرءًا للتنافر والنُّشوز؛ فكل عدم انسجام يؤثر سلبًا على العملية التعليمية التعلُّمية.
والجديرُ بالذكر أن التعلم يحدث في وضعيات مختلِفة؛ إمَّا قصدية مع المعلم، أو غير قصدية (عَفْوية).
• القصدية كما في المدرسة والورشات التعليمية التعلمية...
• وغير القصدية كما في الأسرة والشارع ووسائل الإعلام...
وضعية التعليم والتعلم وضعيةٌ تتحقق في سياق معين، هو القسم الدراسي غالبًا، وتتفاعل فيها أطرافٌ مُشاركة، تتكون من المدرس والتلاميذ...
وتتكون كل وضعية تعليمية تعلمية من عناصر أساسية، نذكر بعضها:
1. المَادةُ التعليميةُ (المحتوى): وهي المادة الدّراسية التي تتكونُ منْ مُحتوى المادة المراد نقلها للتلاميذ؛ مِن أفكار وتصورات، ومواقفَ ومهارات، والتي نتوخى أن يتعلمها ويكتسبها المتعلم، ولا ننسى المنهاج والبرامج والتوجيهات المؤطِّرة للمحتويات.
2. أنشطةُ التعليم والتعلم، وهي الكَفيلة بتصريف المحتوى ومَوارد التعلم.
3. المُدرس: باعتباره عُنصرًا فاعلًا في العملية التعليمية التعلُّمية، لا بديل عنه، ولا يمكن للتقنيات ولا الآلات أن تعوض قصديَّته وفنِّياته، وسرعة استجابته ولياقته الأدبية.
4. المُتعلم: الذي يتَفاعَل مع المادة والمدرس معًا، وكذا مختلِف السياقات داخل الصف، وما يرتبط به من شروط، سواء تعلق الأمر بالشروط التي ترتبط بذاته، أو تلك التي ترتبط بالوضعية التعلُّمية التي يُوجد فيها.
5. المعيَّنات الديداكتيكية والوسائل المساعدة: وتشمل المصادر والموارد المادِّية والبشرية التي تُستخدم باعتبارها مصادرَ للتعلم وأدواتٍ مساعدةً له.
6. السِّياق: الذي يقع فيه التفاعل (الزمان - المكان - الوحدة الدراسية - المناسَبة...)، وقد يكون السياق مدرسيًّا في بؤرة الفصل أو في إطار النوادي التربوية، التي تعتبر تتمَّة وتكملة، بل هي امتدادٌ طبيعيٌّ للفصل.
7. إستراتيجية التعليم والتعلم: وتختلف وتتنوع، يَختار منها المدرس ما يناسب الدَّرس، وليست هناك طريقة مثالية أو نظريةٌ تعليمية تعلُّمية شمولية.
8. التقويم: ويتخللُ كلَّ مراحل العملية التعليمية التعلميةتقويمٌ، يلتزمُ شروط الفعالية، والتقويم أنواعٌ متعددة؛ منها التقويم التشخيصي في بداية الحصة الدراسية، والتقويم التكويني (أو المستمر) في أثنائه، أو تقويم إجمالي في آخر الحصة، وبعدَ تقديم كل التعلُّمات المُقرَّرة، أو تقويم إشهادي (على إثره تُسلَّم شهادة التكوين أو التعلم أو نهاية السلك...)، وقد يكون التقويم كتابيًّا أو شفهيًّا.
والتقويم عملية منظمة دقيقة نسبية طبعًا، هدفها إخراج عمليات الانتقاء والفرز والتصنيف من العَبث والفوضى إلى الصرامة العِلمية والمنهجية، وللتقويم وظائفُ متعددة؛ منها: اختبار القدرات والكفاءات - تصحيح مسار العملية التعليمية التعلمية، وتَدارُك الأخطاء - النقد والتوجيه - التحفيز والتعزيز...
أفضل وضعيات التعلم:
أفضل وضعيات التعلم ما يتيح للمتعلم أن يتحرَّك ويتفاعل، ويشارك وينتج، ويتكلم ويستمع، ويكتب ويحس، ويستشكل ويدرك، وغاية الغايات أن يكون قادرًا على تصريف تعلمه في الحياة العملية.
ونأسف كلَّ الأسف عندما لا ندرك الجسور الممتدة بين المدرسة والواقع (الحياة)، عندما نجد المتعلم في المرحلة الثانوية درس "درس المعادلات"، وما زال يستعمل أصابعَه في الحساب، أو تجده قد انصرف من درس ذي طبيعة بيئية مباشرةٍ أو غير مباشرة، ثم يُلقي بالنُّفايات والمخلَّفات في المدرسة ومحيطها، أو يلوِّث الجدران أو يعبث بالنباتات، وقد حصل على نقطة الامتياز، فرِحًا مسرورًا بها.
فهل كتب هذا الفصام على مَدارسنا، أو أنَّا فَشِلنا في تدبير الانتقال بالمتعلم من العمَلي (الدروس) في الفصول إلى العمل في الواقع والفعل فيه؛ من أجل مدرسة لتغيير المجتمع وتحريك دواليبه؟!
إن هناك وضعياتٍ محفزةً على التعلم، ووضعيات أخرى منفرة؛ والوضعيات المحفزة تورط المتعلم في النشاط التعليمي التعلمي، تورطه ليس من باب الإكراه، بل من باب الاستدراج والتمييل، والترغيب والقصدية.
وتجدر الإشارة أن لا تدريس فعالًا بدون تحفيز؛ فالسلوك الذي لا يحفز يَضمُر أو يتلاشى ويتقهقر، وأفضل أنواع التحفيز "التحفيز الذاتي"، النابع من الذات والقوة الباطنية الخفية، ولا غُنيَة عن التحفيز الخارجي.
لا إكراه في التعليم، هذه قاعدة نفيسة، يتعامل مع التلميذ النافر من التعلم تعاملًا خاصًّا، بمنطق الاستقطاب والاستدراج، وعند اكتشاف مجاله الذكائي يوجَّه إليه ويُحتضَن فيه؛ فمِن الأخطاء التي تُرتكب في المدارس أن يُلزَم المتعلم بمقعد لا يُريحه، ولا يحبه، طبعًا ينبغي أن تفتح ورشات العمل والتأهيل المهني حسب كل الرغبات، وينتقل لها بسلاسة؛ لأن الورشة نوعٌ من التعلم، لا يًستهان به.
وظيفة المدرس:
• إنتاج تصميم وهندسة ووضعيات نشيطة فعالة، في إطار الكفايات الأساسية في المادة.
• تغيير عناصر الهندسة التشكيلية لحفز المتعلمين واحتضان الشاردين أو غير المتوافقين.
• المدرس منشِّط ومحفِّز، وضابطٌ للإيقاعات، وحريص على التنزيل السليم للميثاق (العقد البيداغوجي المتفَق عليه في الحصة أو في المنهاج).
• يقوِّم ويساعد على التقويم الذاتي، وينظم عملية التقايم بين المتعلمين (متعلِّمون يقوِّمون بعضهم).
• ينبغي أن يظل همُّ المدرس كلُّ همه - بل والمدرسين في المادة - تقويمَ الطريقة المسلوكة في بناء وضعيات التعليم والتعلم، مع تشارُك وتقاسم التجارِب الناجحة بسَلاسة بين المدرسين والمدرسات، بعد المصادقة عليها من طرَف هيئة الإشراف التربوي، وطبعًا هنا نشير إلى الصلاحيات التي يجب أن تُخوَّل لأهل الميدان، بعيدًا عن تحكُّم وعرقلة رجل السياسة، وتدخله في أمر لا يَستوعبه؛ إلا بمنطق الإيديولوجيا.
عندما نتحدث عن وضعيات التعلم فنحن نستحضر ما هو ديداكتيكي منهجي وبيداغوجي تربوي (نفسي - اجتماعي - بيئي - ثقافي - ذكائي - قيمي...).
انتقاء وضعية معينة للتعليم والتعلُّم (نشاط حس حركي - مهاري أو معرفي وجداني، أو نشاط منوع تستحضر فيه كل جوانب الشخصية)، يكون وَفقًا لشروط وضوابط، ولا يكون عملية ارتجالية أو خاضعةً للصدفة والعبث.
فالعملية التعليمية التعلمية تخضع للتخطيط المحكَم، كسائر العمليات المعقلَنة؛ من تلك الشروط طبيعة الدرس أو الوَحدة التربوية (طبيعة المادة) - طبيعة الأهداف المبتَغاة - طبيعة البيئة التي ينتمي لها المتعلم، وهنا نستحضر السيوثقافي - طبيعة الأحداث الرائجة؛ لأن توظيفها غاية في الأهمية ومطلب حضاري؛ ليكون المتعلم على دراية بما يجري.
وهنا ننبه إلى ضرورة تَحلِّي المدرس بالنباهة الكافية؛ كيلا يُقحِم السياسية والتسيس في العملية التربوية - ويتموضع موضعًا إيديولوجيًّا.
فالواجب أن تكون الوضعية التعليمية التعلمية وضعيةً واقعية؛ إنْ في الصياغة أو الطرح، أو الأمثلة والنماذج، أو في التكيف مع الوسائل والأدوات المتاحة، أو في طرق التقويم (بين تقويم محكيٍّ وتقويم معياري...).
فوضعية الدرس المفتوح - مثلًا - تقتضي تقويمًا مفتوحًا، لا تطلب فيه إلا العموميات التي تناولها، لا من باب الاسترجاع طبعًا؛ لأن التدريس الحديثَ في غُنية عن الترديد الذي كَفَتْنا عناءَه الآلات، إنما أن يستلهم الحس المنهجي في الطرح والصياغة، ويقبل عند التقويم كل مُقارب ولو كان مخالفًا أو بمقاربات مختلفة، والعلامات توزَّع حسب درجات التمكُّن (أعلى - متوسط - أدنى)، مع استحضار حس الإبداع.
أشرنا سابقًا إلى أن بناء الوضعية التعليمية يتطلب خطةً مُعقلَنة محكَمة للتنفيذ، بتدخُّل ومساعدة علم الديدكتيك، الخاص والعام، ولكل مادةٍ دراسية معينة طريقةٌ وأسلوبٌ منهجي مقترَح رسمي لتصريف المادة، يشمل مجموعةً من الخطوات والمبادئ، والتعليمات والهندسات المحدَّدة في الزمان والمكان والمؤشرات، ونحن في حاجةٍ ماسةٍ - في المغرب - إلى إعادة بناء الخطط الديدكتيكية؛ لأنها في نظري متجاوزةٌ أو تَعرف تضخمًا، ولا تُساير التغييرات والسياسات التعليمية المتبعة.
تلك التغيرات التي عرَفها المتعلم في عصر التكنولوجيات والشبكات والوسائط المختلفة؛ الظاهر في الهندسة الديدكتيكية المواكبة، ولكن الواقع في الأقسام مخالف، ولتعديل الخطط التدريسية - التعليمية؛ يجب أخذُ رأي الأساتذة الممارسين في الأقسام، وإجراء دراسةٍ تقيمية للجدوى الديدكتيكي، وقد أجزِم أنْ لا دراسة عِلمية في هذا الصدد.
معروفٌ مثلًا أنَّا انتقلنا - أو يجب أن ننتقل - من التعليم التَّلقيني إلى التعليم الفعال، ولكن لا ندري هل نجَحنا في هذا الانتقال؟ ولا ندري هل كانت الطرائق البيداغوجية المتبَعة ناجحة؟ ولا ندري هل هناك دراسة علمية - مغربية - في المجال؟
على حد علمي: الارتجالُ سيد الموقف؛ نقلٌ وترجمة وتَبَنٍّ لمرجعيات نطبِّل لها، وسرعان ما نتخلى عنها رسميًّا لننتقدَها! يظل كل ذلك حبرًا على ورق!
فأين ما قيل عن إرجاء بيداغوجيا الإدماج حتى إجراء دراسة أو تقييم؟ فأين التقييم؟!
أوَلَم يَأْن الأوان ليُترك أمرُ التربية لرجال التربية، بعيدًا عن السياسة بمعناها الضيق؟!
صلة البيداغوجيا بوضعيات التعلم والتعليم:
إن البيداغوجيا بمثابة المرهم المليِّن لمفاصل العملية التعليمية التعلمية، وأضرب مثالًا له: كنتَ بصدد إلقاءِ درسك، وفقًا لخطةٍ ديدكتيكيةٍ معينة، فتدخَّل فجأة أحد المتعلمين يخاطبك قائلًا: "أنت أستاذٌ فاشل، لا تصلح لهذه المهنة!" فهل تواجهه بالعنف، أو تختار أسلوبًا آخر؟
هنا تتدخَّل البيدغوجيا وعلوم التربية.
الدرس البيداغوجي يعلمك الحكمة، والسياسة الحكيمة والرشيدة في تدبير الفضاء الصفِّي وترتيبه تربويًّا؛ بناءً على أهداف دقيقة، أنت واعٍ بها (قصديَّة العمَلية التعليمية التعلمية)، عندما تدرك المرحلة العمرية التي يَحياها المتعلمون، وخصائصَهم النمائية، وفروقاتهم الفردية، وطبيعة بيئتهم، ونماذجهم، ومُثلَهم، وعاداتهم، وتعلماتهم السابقة، ووضعيتهم الصحية، وتعرف بموازاة ذلك ما يجب عليك، وما تعاقَدْتم عليه في المنهاج التربوي؛ مِن قيم ومهارات ووجدانيات ومعارف، عندما تدرك ذلك كلَّه تكون على بيِّنة من أمرك، وتستحق بالفعل أن يطلق عليك لفظ مُربٍّ.
الفرق بين التعليم وغيره من المهن أنك في المدرسة - والمؤسسات التربوية عمومًا - تُمارس التربية بشكل مباشر وغير مباشر؛ فالهدف من الأنشطة والمداخل البيداغوجية هو التربية؛ سواء تعلق الأمر بالمواد الأدبية، أو العلمية، أو التقنية.
ولا ينبغي أن يَغيب هذا الهدف عن أذهان المربِّين والمعلمين، والمشاركين في تدبير المدارس والمؤسسات التربوية، ولا ينبغي كذلك أن تكون ردود الأفعال في الفصل والساحة المدرسية ردودَ أفعال شخصية، أو ذاتَ صبغة انتقامية ذاتية، تَخرج فيها السلوكات عن السيطرة.
إنَّ طموحنا وما نتشوَّق له - والخير كثير والحمد لله - هو مدرِّس مربٍّ عادل ومنصِف، حازم وصارمٌ حيث يجب أن يكون حازمًا، وعطوف حنونٌ رؤوفٌ يُدير فصله بالصرامة الحكيمة، لا بالعنف والتسلط والقهر، ولا نريده مدرسًا مستهتَرًا، وكأنه غير معنيٍّ بما يَجري في الفصل والساحة التربوية.
ونُقِر أن المدرسين لا يتمرَّنون بشكل عِلمي على فنون تدبير الفصل وإدارة جماعته، لا أقصد ما يتعلمونه من أقرانهم، في إطار تَقاسُم التجارِب أو ما يتعلَّمونه مع الأساتذة المرشدين، فرغم أهميته فإنَّ التدريب لا يتأسَّس على ضوابطَ علمية تؤهِّلهم للتعامل مع تلميذ معاصر، ولا ننفي أن المتعلم اليوم من نوع خاص وفريد؛ لظروف وحيثيات موضوعية وعالمية.
صراحةً إن الملاحِظ يَكاد يسجل غياب الحسِّ التربوي أو انعدامَه في وضعيات التعلم في الساحات والفصول، وفي حالات كثيرة؛ إما راجعة أسبابه لهيمنة الذاتي على القصد التربوي، أو راجعة لطبيعة المتعلمين في عصر التكنولوجيات والحداثة وما بعدها، أو راجعة لقصور مناهجنا البيداغوجية في التعامل مع الوضع، أو راجعة لتصميم المدارس والفصول، أو راجعة لسياسات تعليمية معيَّنة، أو راجعة لذلك ولغيره.
ولا نخفيكم أن المدرس متَّهَم، وهو آخر حلقةٍ تتَّجه لها الأنظار قاصدةً، سواءٌ تعلَّق الأمر باتهامات الأُسَر أو الإدارات المشرفة على الحقل التعليمي أو السياسيين أو غيرهم، وذلك راجع في نظري إلى ضعفِ تعبئة المدرسين ودفاعهم، وشرحهم لوضعياتهم وهواجسهم، وما يعيق ويثبط أعمالهم... فلما توانَوْا وانكمشوا طغَت عليهم التصورات الأخرى، وأُلصقت بهم كثيرٌ من التهم، التي استطاع أصحابها أن يسوِّقوا لها ببراعة، بينما ظل المدرس يترنَّح بين القسم والمقهى والبيت، ينتقد الوضع بينه وبين نفسه.
في حالات كثيرة، وعند إجراء تقييمات جزئية - تكون في الغالب غيرَ خاضعة لمعاييرَ عِلمية - للأعمال والنتائج والمراتب التي تبوَّأها البلد (المغرب) في حقل التربية والتعليم، تتجه أنظارُ كثيرين إلى ما هو بيداغوجي وديدكتيكي؛ لتنحصر النظرة والمشكلة في القسم! وهذا تغليطٌ وتحريفٌ لمسار البحث وتحيُّز واضح؛ لأن تأثُّر الوضعيات التعليمية بالسياسية وخُططها أكبر من غيره، ولأنَّا نبَّهنا إلى أن الإشراف على التعليم يجب أن يكون تحتَ وصاية التربويين؛ بناءً على دراسات وأبحاثٍ دقيقة تُراعي الإمكانيات المالية للبلد وخصائص المتعلمين، ولا ينبغي أن تَخرج آراء التربويين عن نطاق القيم المجتمعية المتعاقَد عليها.
وفي صلة الوضعيات التعليمية بالجوانب الوجدانية:
تكاد تكون الجوانب الوجدانية - من شخصية الطفل المتعلم - غائبةً على أرض الواقع، ولا ننكر أن الجوانب الوجدانية والقيمية مثبَتةٌ في الورق والوثائق الرسمية المحدِّدة للمَعالم الكبرى، بل والصغرى، في وثائق المدرسين وتوجيهات المواد.
وقد يظهر الاهتمام بالجوانب الوجدانية في بعض المواد عند بعض المدرِّسين، لكنها سرعان ما تغيب في موادَّ ودروسٍ تقنية وأدبية، وكأن بعضهم غيرُ مَعنيٍّ بها؛ فبراعتك أيها المربي في إدماج الملح الوجداني في المنهاج الدراسي!
إننا نستحضر الضغوط التي يُعاني منها المدرسون والإداريون، في قلب الحدث وساحة المعركة، ونستحضر الاكتظاظَ ومشاكل العنف والتسيُّب وقلة الموارد البشرية، ومشاكل جمَّة تعرفها المؤسسات، وندرك طول المقرر، الذي يطارد كلَّ الأساتذة، وخصوصًا الأساتذة الذين تُسنَد لهم المستويات التي يطالَب فيها المتعلمون باجتياز اختبارات وطنية أو جهوية.
ونستحضر في هذا السياق استقالةَ أسَرٍ كثيرة عن متابعة أبنائها ورعايتهم وجدانيًّا، بل وتعتبر أسرٌ منها المدرسة مخلصًا لها من شَغْبهم وعنفهم في الشوارع والأزقَّة، ويطرح هذا المشكل بحدَّة في العطل المدرسية.
لا ينبغي عمَليًّا - من باب الإنصاف - أن يُحمَّل المدرسون والإداريون، والمشرفون على الحقل التربوي فوقَ طاقاتهم.
الوضعية التربوية شراكة بين مؤسسات كثيرة؛ منها الأسرة والمدرسة، والإعلام والشارع، والوَحْدةُ بينهما في الأهداف والمقاصد والغايات - ولو اختلفت الوسائل - كفيلةٌ بتنشِئة جيل صالح، يقدِّر القيم ويتذوَّق الجمال.
القيم الوجدانية تُمرِّن المتعلم على السلوك الإنساني الحضاري الراقي؛ تأصيلًا لحس تذوُّق الجمال والعناية به وإنمائه، ولكنَّ هناك إشكالًا في تِقنيات تقويم الجوانب الوجدانية؛ تقويم بعيد عن الورق والأسئلة المباشرة أو غير المباشرة، وهذا موضوع ينبغي التفكير فيه بالجدية المطلوبة.
يمكن أن يكون التقويم في صيغة أعمال ونشاطات خيرية، أو إنسانية أو بيئية في فضاء المؤسسة، أو منفتحًا على غيرها، ينخرط فيها المتعلمون عن طواعية، ويَميلون إليها عن حب، أو يمكن أن يكون هذا بمثابة تمرين يحبِّبهم في الأنشطة.
التنشيط التربوي:
التنشيط التربوي كفيل بتحقيق غايات تربوية كثيرة ومتعددة، وكفيل بإخراج الوضعية التعليمية التعلُّمية من شرنقة الرَّتابة والتَّكرار الغبي إلى الحيوية والنشاط، والفاعلية والإحساس بمتعة التعليم والتعلم.
ليست مهمة المدرِّس مقتصرةً على حَقْن الأذهان بالمعلومات والأفكار، والتصورات والمواقف، بل إنه مربٍّ، يُنمي الناحية المعرفية للمتعلِّم، ويساعده على النمو من جميع الجوانب العقلية والروحية، والجسمية والنفسية والعاطفية، ويُكسِبه الاتجاهات الصحيحة في الحياة والوجود، فتكون المعلوماتُ وسيلةً لا غاية في ذاتها.
فليس المقصود - على سبيل المثال - أن (يَعرف) الطالب أن الصِّدق صفةٌ حميدة، بل الهدف أن (يتمثَّل) الصدق في تعامله وأقواله وأفعاله، وليس الهدف أن يَحفظ القواعد، بل أن يطبِّقها في مشاكله وحياته اليومية؛ إنها النزعة التطبيقية!
التنشيط التربوي: عمليات يقوم بها المدرِّس الفعال المنتج؛ لِجَعل المتعلم في صُلب العملية التعليمية التعلمية، مشاركًا منتجًا، مبدعًا نشطًا، منتقدًا بانيًا، عنصرًا فاعلًا في نفسه ومحيطه؛ يعني: أن التنشيط التربويَّ يُعطي للدرس المعنى والروح؛ كيلا تتحوَّل العملية إلى حشوٍ مباشر للتعليمات والموارد.
يتبع