شذرات عن طريق طالب العلم (٣)
إبراهيم العيدان
من الوسائل الناجعة، والطرائق الناجحة، والتي تقدم لطالب العلم العون حتى يبلغ بغيته، ويحصل مراده، مذاكرة العلم مع إخوانه، واتِّخاذ صاحب له يشاركه الدرب، ويناصفه الهم.
وما المرءُ إلا بإخوانه ♦♦♦ كما تقبضُ الكفُّ بالمِعصمِ[18]
ومما يدفع بطالب العلم لاتِّخاذ صاحب يُذاكِره ما قاله عبدالله بن أحمد بن حنبل: "لما قدم أبو زُرعة نزل عند أبي، فكان كثيرَ المذاكرة له، فسمعت أبي يومًا يقول: ما صلَّيْتُ غير الفرض؛ استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي"[19].
واذْكر ما ذكره ابن رجب في ترجمة الحافظ عبدالغني المقدسي أنه "رحل إلى بغداد سنة إحدى وستين، هو والشيخ الموفق، فأقاما ببغداد أربع سنين"[20].
يا طالبَ العلمِ، ذاكر علمَك يبقَ عندك.
♦ ♦ ♦
الصدقُ إكسير الطلب ونبضه، والطالب الصادق متقلد للصدق ومتعلِّق به، يتحرَّاه، ويقول ويعمل به، ويسعى لبغيته وقد استشعره واستدثره؛ ولذا، فهو لا يدع وقتَه يضيع في غير بغيته، وتحصيل مراده، وما أعان على ذلك.
قال إبراهيم الخواص: "الصادقُ لا تراه إلا في فرضٍ يؤديه، أو فضل يعمل فيه"[21].
وأما من ليس بذلك أو قلَّ عنده؛ فستجده أقل ما تجده مفرِّطًا في الفرص، وقاتلًا للوقت، وفي الجُبِّ ما يَجُبُّ ما يتفوه به ويتنمَّق به، ومهما تمنطق بدعوى الطلب وتنفَّج بالتحصيل، فإن مردَّه إلى بَوار، وسعيَه إلى اندثار.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] و﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 14].
♦ ♦ ♦ ♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، الجدَّ الجدَّ، والعزمَ العزمَ؛ فإن النفس ركَّانة إلى الدَّعة واللهو إذا ما خُلِّي بينها وبينه.
والنفسُ كالطفل إن تهمله شبَّ على ♦♦♦ حبِّ الرَّضاع وإن تفطمْه ينفطمِ
وإذا ما أُخِذَتْ بالحزم، وقِيدت إلى القمم، انساقت ونصت إليه نصا.
وبغيتُك عظيمة، ورغبتُك عزيزة، ومطيَّتك نفسك، ودابَّتك روحك، ولا بدَّ للمركوب من سوطٍ لينقاد، قال ابن الجوزي: "ليس في سِياط التأديب أجودُ من سوطِ العَزْم"[22].
فيا طالبَ العلمِ، لا هوادةَ.
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، إن تصدِّيك لهذا العمل الجليل يُحتِّمُ عليك ألَّا تُفرِّط فيه، فهو وإن كان "طلبُ العلم الشرعي فرض كفاية، إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة"[23] - إلا أنه يبقى من الفرائض الإلهيَّة، وحقُّه الوجوب على مَن قال: أنا له.
فاحرص على تنميته، وابذل واسعَ جهدك فيه، فإنما ينالُ المجدَ من جدَّ، "وعلى هذا؛ فكل طالب علم يعتبر قائمًا بفرض كفاية يُثاب على طلبه ثوابَ الفريضة، وهذه بشرى سارةٌ لطلاب العلم أن يكونوا على طلبهم قائمين بفريضة من فرائضِ الله عز وجل، ومن المعلوم أنَّ القيام بالفرائض أحبُّ إلى الله تعالى من القيام بالنوافل"[24].
فما أظنُّ بك بعد ذا إلا إنفاذ وصية ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [مريم: 12].
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، من سلك الدَّرْبَ، وتزوَّد للطريق، ومشى على بصيرة، وبذل وسعه، وشد مِئزره، ومضى ولم يلتفت - بلغ مراده، ولم يكن شيء ليرده. والأمر إنما هو توفيق وتضحية، وصبر ومصابرة، وبذل ومجاهدة، والله المستعان.
"فبين العبد وبين السعادة والفلاح: قوة عزيمة، وصبر ساعة، وشجاعة نفس، وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم"[25].
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، إذا أردتَ أن تربحَ سوقك، ويبارك لك في صفقة يدك، وتروَّج بضاعتك، فعليك بالمحاسبة؛ فما تاجر ناجح إلا والمحاسبة وَليفُه ورفيقه، فجرِّد نيتك لله، وجَرِّدْ ما عندك من علم؛ لتعرفَ نقصك فتتمَّه، وتعرف ربحك فتتبحر فيه، وليكن ذا دأبَك وديدنَك.
فهذا متن يحتاج لضبط، وهذه مسألة تبغي مراجعة، وذاك حكم يحتاج إلى تحرير، وتلك فائدة تنتظر التقييد، وهذا وهذا...
والرابح من كانت تجارتُه عابرةً للدارين، ومستقرةً عند رب العالمين، له ذخرًا ومدخرًا.
يا طالبَ العلمِ، احرص على دوانيقِ العلم ودنانيره.
♦ ♦ ♦
طالب العلم، اسأل وتساءل؛ فبالسؤال العلمَ تنال، واحرص يا أُخَيَّ على السؤال المفتاحيِّ، وليس أن تسأل لغرضِ السؤال وحسب.
انظر فيما يجعل قناة علم شيخك تشخب في حياضك شخبًا، وتصب صبًّا؛ فيالَحظِّك بذاك السيل الثجاج!
قال يعقوب بن بختان: "سألت أحمدَ عن مسألة، فقال: يقال: إن العلمَ خزائن، والمسألة تَفتحُه؛ دعني حتى أنظر فيها"[26].
يا طالبَ العلمِ، هذه الصرر؛ فَحُلَّ الوِكاء.
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، تلطَّف حين المسألة، وتملَّق لشيخك؛ فإن أدب الطلب روح العلم، فلطالما كانوا يقولون بين يدي مسألتهم "رحمك الله، ما تقول في كذا وكذا؟"، وإياك ومسابقةَ شيخك في الكلام، ومنازعته الخطاب؛ فما هذا من الأدب في شيء.
فأَذِلَّ نفسك بين يدي شيخك تُعَزَّ، قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: "ذللت طالبًا فعززت مطلوبًا"[27].
ولا تمارِ شيخك وتستمهن المخالفة فيخبو ضوء علمك؛ فقد كان أبو سلمة يماري ابنَ عباس؛ فحُرِمَ بذلك علمًا كثيرًا[28].
يا طالبَ العلمِ، أحسِن سؤالك، أحسن الله إليك.
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، لا تفرِّطن في لحظة طلب، ولا تحقرن هُنَيْهَةً تُقضى في علم؛ فإنه لولا الدقائقُ ما جاءت الجلائل.
فحديثٌ مع حديث، وسطر مع آخر، ومسألة تلو أختِها يبارك الله سيرك، ويعظم مسيرك؛ فإذا بك - بعدَ منَّة الله وتوفيقه - بلَغت فوق ما كنت تظنُّ من مراتب العلم.
لا تحقرِنَّ صغيرةً ♦♦♦ إن الجبالَ من الحصى
يا طالبَ العلمِ، السلسلة حلقة وحلقة.
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، أرعِ سمعك، وأصغِ لشيخك، وأنصت بقلبك وبِسَمْتِكَ إليه قبل أذنك؛ فإنك لن تملأ قِرابك إذا كان قاعها ذا خروق وشقوق، فصمتك وأُذُنُك أول علمك وثانيه، ومؤسِّسُه ومُرسيه، وذي هي شجية السابقين؛ فقد كانوا إذا تكلم متحدِّثُهم أطرقوا كأنما على رؤوسهم الطير، فإنصاتك يا طالبَ العلمِ لشيخك وعدم منازعته أمارة التواضع وزين العلم والأدب، وبه ينال العزيز؛ قال عبدالله بن المعتز: "المتواضع في طلب العلم أكثرُهم علمًا، كما أنَّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماءً"[29].
يا طالبَ العلمِ، استمع تَنَلْ حظَّك وترتفع.
♦ ♦ ♦
يتبع