
22-09-2021, 12:40 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (44)
صـ44 إلى صـ 61
المسألة الخامسة
المصالح المثبوتة في هذه الدار ينظر فيها من جهتين :
من جهة مواقع الوجود .
ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها .
فأما النظر الأول; فإن المصالح الدنيوية - من حيث هي موجودة هنا - لا يتخلص كونها مصالح محضة ، وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان ، وتمام عيشه ، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق ، حتى يكون منعما على الإطلاق ، وهذا في مجرد الاعتياد لا يكون; لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق ، قلت أو كثرت ، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها; كالأكل ، والشرب ، واللبس ، والسكنى ، والركوب ، والنكاح ، وغير ذلك; فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب .
كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود; إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتبعها من الرفق ، واللطف ونيل اللذات كثير ، ويدلك على ذلك ما هو الأصل ، وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين ، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك ، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق ، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص ، قال [ ص: 45 ] الله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ الأنبياء : 35 ] ، ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك : 2 ] ، وما في هذا المعنى ، وقد جاء في الحديث : حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات فلهذا لم يخلص في الدنيا لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى .
فإذا كان كذلك; فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا إنما تفهم على مقتضى ما غلب ، فإذا كان الغالب جهة المصلحة فهي المصلحة المفهومة عرفا ، وإذا غلبت الجهة الأخرى; فهي المفسدة المفهومة عرفا ، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوبا إلى الجهة الراجحة ، فإن رجحت المصلحة فمطلوب ، ويقال فيه : إنه مصلحة ، وإذا غلبت جهة المفسدة ، فمهروب عنه ، ويقال : إنه مفسدة ، وإذا اجتمع فيه الأمران على تساو; فلا يقال فيه أنه مصلحة أو مفسدة على ما جرت به العادات في مثله ، فإن خرج عن مقتضى العادات; فله نسبة أخرى وقسمة غير هذه القسمة .
[ ص: 46 ] هذا وجه النظر في المصلحة الدنيوية والمفسدة الدنيوية ، من حيث مواقع الوجود في الأعمال العادية .
وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب بها شرعا ، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد ، فهي المقصودة شرعا ، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ، ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل ، وليكون حصولها أتم وأقرب وأولى بنيل المقصود على مقتضى العادات الجارية في الدنيا ، فإن تبعها مفسدة أو مشقة ، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه .
وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد ، فرفعها هو المقصود شرعا ، ولأجله وقع النهي ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها ، حسب ما يشهد له كل عقل سليم ، فإن تبعتها مصلحة أو لذة ، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل ، بل المقصود ما غلب في المحل ، وما سوى ذلك ملغى في مقتضى النهي ، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر .
فالحاصل من ذلك أن المصالح المعتبرة شرعا أو المفاسد المعتبرة شرعا هي خالصة غير مشوبة بشيء من المفاسد ، لا قليلا ولا كثيرا ، وإن توهم [ ص: 47 ] أنها مشوبة ، فليست في الحقيقة الشرعية كذلك ، لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها ما يجري في الاعتياد الكسبي من غير خروج إلى زيادة تقتضي التفات الشارع إليها على الجملة ، وهذا المقدار هو الذي قيل إنه غير مقصود للشارع في شرعية الأحكام ، والدليل على ذلك أمران :
أحدهما : أن الجهالة المعلومة لو كانت مقصودة للشارع - أعني معتبرة عند الشارع - لم يكن الفعل مأمورا به بإطلاق ، ولا منهيا عنه بإطلاق ، بل كان يكون مأمورا به من حيث المصلحة ، ومنهيا عنه من حيث المفسدة ، ومعلوم قطعا أن الأمر ليس كذلك .
وهذا يتبين في أعلى المراتب في الأمر والنهي; كوجوب الإيمان وحرمة [ ص: 48 ] الكفر ، ووجوب إحياء النفوس ومنع إتلافها ، وما أشبه ذلك; فكأن يكون الإيمان الذي لا أعلى منه في مراتب التكليف منهيا عنه ، من جهة ما فيه من كسر النفس من إطلاقها وقطعها عن نيل أغراضها وقهرها تحت سلطان التكليف الذي لا لذة فيه لها ، وكان الكفر الذي يقتضي إطلاق النفس من قيد التكليف ، وتمتعها بالشهوات من غير خوف مأمورا به أو مأذونا فيه; لأن الأمور الملذوذة والمخرجة عن القيود القاهرة مصلحة على الجملة ، وكل هذا باطل محض ، بل الإيمان مطلوب بإطلاق ، والكفر منهي عنه بإطلاق ، فدل على أن جهة المفسدة بالنسبة إلى طلب الإيمان ، وجهة المصلحة بالنسبة إلى النهي عن الكفران غير معتبرة شرعا ، وإن ظهر تأثيرها عادة وطبعا .
والثاني : أن ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعا; لكان تكليف العبد كله تكليفا بما لا يطاق ، وهو باطل شرعا ، أما كون تكليف ما لا يطاق باطلا شرعا ، فمعلوم في الأصول ، وأما بيان الملازمة; فلأن الجهة المرجوحة مثلا مضادة في الطلب للجهة الراجحة ، وقد أمر مثلا بإيقاع المصلحة الراجحة ، لكن على وجه يكون فيه منهيا عن إيقاع المفسدة المرجوحة ، فهو مطلوب بإيقاع الفعل ومنهي عن إيقاعه معا ، والجهتان غير منفكتين لما تقدم من أن المصالح والمفاسد غير متمحضة ، فلا بد في إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه من توارد الأمر والنهي معا ، فقد قيل له : افعل ولا تفعل لفعل واحد ، أي من وجه واحد في الوقوع ، وهو عين تكليف ما لا يطاق .
لا يقال : إن المصلحة قد تكون غير مأمور بها ، ولكن مأذونا فيها; فلا يجتمع الأمر والنهي معا ، فلا يلزم المحظور .
[ ص: 49 ] لأنا نقول : إن هذا لا يطرد في جميع المصالح; فإن المصلحة كما يصح أن تكون مأذونا فيها ، يصح أن تكون مأمورا بها ، وإن سلم ذلك ، فالإذن مضاد للأمر والنهي معا ، فإن التخيير مناف لعدم التخيير ، وهما واردان على الفعل الواحد ، فورود الخطاب بهما معا خطاب بما لا يستطاع إيقاعه على الوجه المخاطب به ، وهو ما أردنا بيانه ، وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة ، لإمكان الانفكاك بأن يصلى في غير الدار ، وهذا ليس كذلك .
فإن قيل : إن هذا التقرير مشير لما ذهب إليه الفلاسفة ومن تبعهم من أن الشر ليس بمقصود الفعل ، وإنما المقصود الخير ، فإذا خلق الله تعالى خلقا ممتزجا خيره بشره ، فالخير هو الذي خلق الخلق لأجله ، ولم يخلق لأجل الشر ، وإن كان واقعا به;كالطبيب عندهم إذا سقى المريض الدواء المر البشع المكروه ، فلم يسقه إياه لأجل ما فيه من المرارة والأمر المكروه ، بل لأجل ما فيه من الشفاء والراحة ، وكذلك الإيلام بالفصد والحجامة وقطع العضو المتآكل ، إنما قصده بذلك جلب الراحة ودفع المضار; فكذلك عندهم جميع ما في الوجود من المفاسد المسببة عن أسبابها ، فما تقدم شبيه بهذا من حيث قلت : إن الشارع - مع قصده التشريع لأجل المصلحة - لا يقصد وجه المفسدة ، مع أنها لازمة للمصلحة .
وهو أيضا مشير إلى مذاهب المعتزلة القائلين بأن الشرور والمفاسد غير مقصودة الوقوع ، وأن وقوعها إنما هو على خلاف الإرادة ، تعالى الله عن ذلك [ ص: 50 ] علوا كبيرا .
فالجواب أن كلام الفلاسفة إنما هو في القصد الخلقي التكويني ، وليس كلامنا فيه ، وإنما كلامنا في القصد التشريعي ، وقد تبين الفرق بينهما في موضعه من كتاب الأوامر والنواهي ، ومعلوم أن الشريعة وضعت لمصالح الخلق بإطلاق حسب ما تبين في موضعه ، فكل ما شرع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة ، فغير مقصود فيه ما يناقض ذلك ، وإن كان واقعا في الوجود فبالقدرة القديمة وعن الإرادة القديمة ، لا يعزب عن علم الله وقدرته وإرادته شيء من ذلك كله في الأرض ولا في السماء ، وحكم التشريع أمر آخر له نظر وترتيب آخر على حسب ما وضعه ، والأمر والنهي لا يستلزمان إرادة الوقوع ، أو عدم الوقوع ، وإنما هذا قول المعتزلة ، وبطلانه مذكور في علم الكلام ، فالقصد التشريعي شيء والقصد الخلقي شيء آخر ، لا ملازمة بينهما .
فصل
وأما إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد ، بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع ، ففي ذلك نظر ، ولا بد من تمثيل ذلك ، ثم تخليص الحكم فيه بحول الله .
[ ص: 51 ] مثاله أكل الميتة للمضطر ، وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا ، وقتل القاتل ، وقطع القاطع ، وبالجملة العقوبات والحدود للزجر ، وقطع اليد المتأكلة ، وقلع الضرس الوجعة ، والإيلام بقطع العروق والفصد ، وغير ذلك للتداوي ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لو انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها ، وبالجملة كل ما تعارضت فيه الأدلة فلا يخلو أن تتساوى الجهتان ، أو تترجح إحداهما على الأخرى .
فإن تساوتا; فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر ، إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة ، ولعل هذا غير واقع في الشريعة ، وإن فرض وقوعه ، فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل ، وذلك في الشرعيات باطل باتفاق ، وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا : طرف الإقدام ، وطرف الإحجام ، فغير صحيح;لأنه تكليف ما لا يطاق ، إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد ، فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا ، ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما ، إذ قد فرضنا أن توارد الأمر والنهي معا ، وهما علمان على القصد على الجملة حسب ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى;إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء ، فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى ، ولم يتعين ذلك للمكلف ، فلا بد من التوقف .
وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى;فيمكن أن يقال : إن قصد [ ص: 52 ] الشارع متعلق بالجهة الراجحة - أعني في نظر المجتهد - وغير متعلق بالجهة الأخرى; إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ، ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان; فيجب التوقف ، وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح ، ويمكن أن يقال : إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان ، إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع ، ونحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود للشارع ، لا بما هو مقصوده في نفس الأمر ، فالراجحة - وإن ترجحت - لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع ، إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين ، وغير مطرح في النظر ، ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ ، [ ص: 53 ] والإمكان الأول جار على طريقة المصوبين ، والثاني جار على طريقة المخطئين .
وعلى كل تقدير; فالذي تلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الاعتبار شرعا عند اجتماعها مع الجهة الراجحة ، إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد; فكان تكليفا بما لا يطاق ، وكذلك يكون الحكم في المسائل الاجتهادية كلها ، سواء علينا أقلنا : إن كل مجتهد مصيب أم لا; فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جاريا على الاعتياد ، أو خارجا عنه; فالقياس مستمر ، والبرهان مطلق في القسمين ، وذلك ما أردنا بيانه .
فإن قيل : أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني; فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى ذينك الضربين .
فالجواب أن القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول ، فإذا ناقضه; لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني ، وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب ، وبالله التوفيق .
المسألة السادسة
لما كانت المصالح والمفاسد على ضربين : دنيوية ، وأخروية ، وتقدم الكلام على الدنيوية ، اقتضى الحال الكلام في المصالح والمفاسد الأخروية ، فنقول : إنها على ضربين :
أحدهما : أن تكون خالصة لا امتزاج لأحد القبيلين بالآخر; كنعيم أهل الجنان ، وعذاب أهل الخلود في النيران ، أعاذنا الله من النار ، وأدخلنا الجنة برحمته .
والثاني : أن تكون ممتزجة ، وليس ذلك إلا بالنسبة إلى من يدخل النار من الموحدين ، في حال كونه في النار خاصة ، فإذا أدخل الجنة برحمة الله رجع إلى القسم الأول ، وهذا كله حسب ما جاء في الشريعة; إذ ليس للعقل في الأمور الأخروية مجال ، وإنما تتلقى أحكامها من السمع .
أما كون هذا القسم الثاني ممتزجا فظاهر; لأن النار لا تنال منهم مواضع السجود ، ولا محل الإيمان ، وتلك مصلحة ظاهرة .
[ ص: 55 ] وأيضا فإنما تأخذهم على قدر أعمالهم ، وأعمالهم لم تتمحض للشر خاصة; فلا تأخذهم النار أخذ من لا خير في عمله على حال ، وهذا كاف في حصول المصلحة الناشئة عن الإيمان والأعمال الصالحة ، ثم الرجاء المعلق بقلب المؤمن راحة ما ، حاصلة له مع التعذيب ، فهي تنفس عنه من كرب النار ، إلى غير ذلك من الأمور الجزئية الآتية في الشريعة ، من استقراها ألفاها .
وأما كون الأول محضا; فيدل عليه من الشريعة أدلة كثيرة; كقوله تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] .
وقوله : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار [ الحج : 19 ] الآية .
وقوله : لا يموت فيها ولا يحيا [ طه : 74 ] .
وهو أشد ما هنالك ، إلى سائر ما يدل على الإبعاد من الرحمة .
وفي الجنة آيات أخر وأحاديث تدل على أن لا عذاب ولا مشقة ولا [ ص: 56 ] مفسدة; كقوله : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين إلى قوله : لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين [ الحجر : 45 - 48 ] .
وقوله : سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ الزمر : 73 ] .
إلى غير ذلك مما هو معلوم .
وقد بين ذلك ربنا بقوله في الجنة : " أنت رحمتي " ، وفي النار : " أنت عذابي " ; فسمى هذه بالرحمة مبالغة ، وهذه بالعذاب مبالغة .
فإن قيل : كيف يستقيم هذا وقد ثبت أن في النار دركات بعضها أشد من بعض ، كما أنه جاء في الجنة أن فيها درجات بعضها فوق بعض ، وجاء في بعض أهل النار أنه في ضحضاح مع أنه من المخلدين ، وجاء أن في الجنة من يحرم بعض نعيمها; كالذي يموت مدمن خمر ولم يتب منها ، وإذا كانت [ ص: 57 ] دركات الجحيم - أعاذنا الله منها - بعضها أشد; فالذي دون الأشد أخف من الأشد ، والخفة مما يقتضيه وصف الرحمة التي تحصل مصلحة ما .
وأيضا; فالقدر الذي وصل إليه العذاب بالنسبة إلى ما يتوهم فوقه خفيف ، كما أنه شديد بالنسبة إلى ما هو دونه ، وإذا تصورت الخفة - ولو بنسبة ما - فهي مصلحة في ضمن مفسدة العذاب ، كما أن درجات الجنة كذلك في الطرف الآخر; فإن الجزاء على قدر العمل ، وإذا كان عمل الطاعة قليلا بسبب كثرة المخالفة ، كان الجزاء على تلك النسبة ، ومعلوم أن رتبة آخر من يدخل الجنة ليست كرتبة من لم يعص الله قط ودأب على الطاعات عمره ، وإنما ذلك لأجل عمل الأول السببي ، فكان جزاؤه على الطاعة في الآخرة نعيما كدره عليه كثرة المخالفة ، وهذا معنى ممازجة المفسدة ، فإذا كان كذلك فالقسمان معا قسم واحد .
فالجواب أنه لا يصح في المنقول ألبتة أن تكون الجنة ممتزجة النعيم بالعذاب ، ولا أن فيها مفسدة ما بوجه من الوجوه ، هذا مقتضى نقل الشريعة ، نعم العقل لا يحيل ذلك; فإن أحوال الآخرة ليست جارية على مقتضيات العقول ، كما أنه لا يصح أن يقال في النار إن فيها للمخلدين رحمة تقتضي مصلحة ما ، ولذلك قال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ الزخرف : 75 ] [ ص: 58 ] فلا حالة هنالك يستريحون إليها وإن قلت ، كيف وهي دار العذاب ؟ ! عياذا بالله منها .
وما جاء في حرمان الخمر; فذلك راجع إلى معنى المراتب ، فلا يجد من يحرمها ألما بفقدها ، كما لا يجد الجميع ألما بفقد شهوة الولد ، أما المخرج إلى الضحضاح; فأمر خاص ، كشهادة خزيمة ، وعناق أبي بردة ، ولا نقض بمثل ذلك على الأصول الاستقرائية القطعية; غير أنه يجب النظر هنا في وجه تفاوت الدرجات والدركات ، لما ينبني على ذلك من الفوائد الفقهية لا من جهة أخرى .
وذلك أن المراتب - وإن تفاوتت - لا يلزم من تفاوتها نقيض ولا ضد ، ومعنى هذا أنك إذا قلت : فلان عالم فقد وصفته بالعلم وأطلقت ذلك عليه إطلاقا بحيث لا يستراب في حصول ذلك الوصف له على كماله ، فإذا قلت : وفلان فوقه في العلم ، فهذا الكلام يقتضي أن الثاني حاز رتبة في العلم فوق رتبة الأول ، ولا يقتضي أن الأول متصف بالجهل ، ولو على وجه ما ، فكذلك إذا قلت : مرتبة الأنبياء في الجنة فوق مرتبة العلماء ، فلا يقتضي ذلك للعلماء نقصا من النعيم ، ولا غضا من المرتبة ، بحيث يداخله ضده ، بل العلماء منعمون نعيما لا نقص فيه والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فوق ذلك في النعيم الذي [ ص: 59 ] لا نقص فيه ، وكذلك القول في العذاب بالنسبة إلى المنافقين وغيرهم . كل في العذاب لا يداخله راحة ، ولكن بعضهم أشد عذابا من بعض .
ولأجل ذلك لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خير دور الأنصار; أجاب بما عليه الأمر في ترتيبهم في الخيرية بقوله : خير دور الأنصار بنو النجار ، ثم بنو عبد الأشهل ، ثم بنو الحارث بن الخزرج ، ثم بنو ساعدة ، ثم قال : وفي كل دور الأنصار خير رفعا لتوهم الضد ، من حيث كانت أفعل التفصيل قد تستعمل [ ص: 60 ] على ذلك الوجه ، كقوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ الأعلى : 16 ] ، ونحو ذلك ، فلم يكن تفضيله عليه الصلاة والسلام بعض دور الأنصار على بعض تنقيصا بالمفضول ، ولو قصد ذلك; لكان أقرب إلى الذم منه إلى المدح ، وقد بين الحديث هذا المعنى المقرر فإن في آخره : فلحقنا سعد بن عبادة ، فقال : ألم تر أن نبي الله خير الأنصار; فجعلنا أخيرا ؟ فقال : " أوليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار ؟ " لكن التقديم في الترتيب يقتضي رفع المزية ، ولا يقتضي اتصاف المؤخر بالضد لا قليلا ولا كثيرا ، وكذلك يجري حكم التفضيل بين الأشخاص ، وبين الأنواع ، وبين الصفات ، وقد قال الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [ البقرة : 253 ] .
[ ص: 61 ] ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض [ الإسراء : 55 ] .
وفي الحديث : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير .
وحاصل هذا أن ترتيب أشخاص النوع الواحد بالنسبة إلى حقيقة النوع لا يمكن ، وإنما يكون بالنسبة إلى ما يمتاز به بعض الأشخاص من الخواص والأوصاف الخارجة عن حقيقة ذلك النوع ، وهذا معنى حسن جدا ، من تحققه هانت عليه معضلات ومشكلات في فهم الشريعة; كالتفضيل بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وزيادة الإيمان ونقصانه ، وغير ذلك من الفروع الفقهية والمعاني الشرعية ، التي زلت بسبب الجهل بها أقدام كثير من الناس ، وبالله التوفيق .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|