
22-09-2021, 12:42 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,269
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (46)
صـ79 إلى صـ 90
المسألة التاسعة
كون الشارع قاصدا للمحافظة على القواعد الثلاث الضرورية ، والحاجية ، والتحسينية ، لا بد عليه من دليل يستند إليه ، والمستند إليه في ذلك ، إما أن يكون دليلا ظنيا أو قطعيا ، وكونه ظنيا باطل ، مع أنه أصل من أصول الشريعة ، بل هو أصل أصولها ، وأصول الشريعة قطعية حسب ما تبين في موضعه ، فأصول أصولها أولى أن تكون قطعية ، ولو جاز إثباتها بالظن ، لكانت الشريعة مظنونة أصلا وفرعا ، وهذا باطل ، فلا بد أن تكون قطعية ، فأدلتها قطعية بلا بد .
فإذا ثبت هذا ، فكون هذا الأصل مستندا إلى دليل قطعي مما ينظر فيه ، فلا يخلو أن يكون عقليا أو نقليا .
فالعقلي لا موقع له هنا; لأن ذلك راجع إلى تحكيم العقول في الأحكام الشرعية ، وهو غير صحيح ، فلا بد أن يكون نقليا .
والأدلة النقلية; إما أن تكون نصوصا جاءت متواترة السند لا يحتمل متنها التأويل على حال ، أو لا ، فإن لم تكن نصوصا ، أو كانت ولم ينقلها أهل التواتر; فلا يصح استناد مثل هذا إليها; لأن ما هذه صفته لا يفيد القطع ، وإفادة القطع هو المطلوب وإن كانت نصوصا لا تحتمل التأويل ومتواترة السند ، فهذا مفيد للقطع ، إلا أنه متنازع في وجوده بين العلماء .
والقائل بوجوده مقر بأنه لا يوجد في كل مسألة تفرض في الشريعة ، بل يوجد في بعض المواضع دون بعض ، ولم يتعين أن مسألتنا من المواضع التي جاء فيها دليل قطعي .
والقائل بعدم وجوده في الشريعة يقول : إن التمسك بالدلائل النقلية إذا كانت متواترة موقوف على مقدمات عشر كل واحدة منها ظنية ، والموقوف على [ ص: 80 ] الظني لا بد أن يكون ظنيا; فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو ، وعدم الاشتراك ، وعدم المجاز ، وعدم النقل الشرعي أو العادي ، وعدم الإضمار ، وعدم التخصيص للعموم ، وعدم التقييد للمطلق ، وعدم الناسخ ، وعدم التقديم والتأخير ، وعدم المعارض العقلي ، وجميع ذلك أمور ظنية .
ومن المعترفين بوجوده من اعترف بأن الدلائل في أنفسها لا تفيد قطعا ، لكنها إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين ، وهذا لا يدل قطعا على أن دليل مسألتنا من هذا القبيل; لأن القرائن المفيدة لليقين غير لازمة لكل دليل ، وإلا لزم أن تكون أدلة الشرع كلها قطعية ، وليس كذلك باتفاق ، وإذا كانت لا تلزم ، ثم وجدنا أكثر الأدلة الشرعية ظنية الدلالة ، أو المتن والدلالة معا ، ولا سيما مع افتقار الأدلة إلى النظر في جميع ما تقدم ، دل ذلك على أن اجتماع القرائن المفيدة للقطع واليقين نادر ، على قول المقرين بذلك ، وغير موجود على قول الآخرين .
فثبت أن دليل هذه المسألة على التعيين غير متعين .
ولا يقال : إن الإجماع كاف ، وهو دليل قطعي; لأنا نقول : هذا أولا : مفتقر إلى نقل الإجماع على اعتبار تلك القواعد الثلاث شرعا ، نقلا متواترا عن جميع أهل الإجماع ، وهذا يعسر إثباته ولعلك لا تجده ، ثم نقول :
[ ص: 81 ] ثانيا : إن فرض وجوده; فلا بد من دليل قطعي يكون مستندهم ، ويجتمعون على أنه قطعي; فقد يجتمعون على دليل ظني ، فتكون المسألة ظنية لا قطعية ، فلا تفيد اليقين; لأن الإجماع إنما يكون قطعيا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي ، فإن اجتمعوا على مستند ظني ، فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة .
فإثبات المسألة بالإجماع لا يتخلص ، وعند ذلك يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي .
وإنما الدليل على المسألة ثابت على وجه آخر هو روح المسألة ، وذلك أن هذه القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع ، وأن اعتبارها مقصود للشارع .
ودليل ذلك استقراء الشريعة ، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية ، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص ، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض; بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم ، وشجاعة علي - رضي الله عنه - ، وما أشبه ذلك; فلم يعتمد [ ص: 82 ] الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص ، ولا على وجه مخصوص ، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات ، والمطلقات والمقيدات ، والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه ، وكل نوع من أنواعه حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد ، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة .
وعلى هذا السبيل أفاد خبر التواتر العلم ، إذ لو اعتبر فيه آحاد المخبرين ، لكان إخبار كل واحد منهم على فرض عدالته مفيدا للظن ، فلا يكون اجتماعهم يعود بزيادة على إفادة الظن ، لكن للاجتماع خاصية ليست للافتراق ، فخبر واحد مفيد للظن مثلا ، فإذا انضاف إليه آخر قوي الظن ، وهكذا خبر آخر وآخر حتى يحصل بالجميع القطع الذي لا يحتمل النقيض ، فكذلك هذا; إذ لا فرق بينهما من جهة إفادة العلم بالمعنى الذي تضمنته الأخبار .
وهذا بين في كتاب المقدمات من هذا الكتاب .
فإذا تقرر هذا; فمن كان من حملة الشريعة الناظرين في مقتضاها ، والمتأملين لمعانيها سهل عليه التصديق بإثبات مقاصد الشارع في إثبات هذه القواعد الثلاث .
[ ص: 83 ] المسألة العاشرة
هذه الكليات الثلاث إذا كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها; فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات .
ولذلك أمثلة : أما في الضروريات; فإن العقوبات مشروعة للازدجار ، مع أنا نجد من يعاقب فلا يزدجر عما عوقب عليه ، ومن ذلك كثير وأما في الحاجيات; فكالقصر في السفر مشروع للتخفيف وللحوق المشقة ، والملك المترفه لا مشقة له ، والقصر في حقه مشروع ، والقرض أجيز للرفق بالمحتاج ، مع أنه جائز أيضا مع عدم الحاجة ، وأما في التحسينيات; فإن الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم .
فكل هذا غير قادح في أصل المشروعية; لأن الأمر الكلي إذا ثبت كليا; فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا ، وأيضا; [ ص: 84 ] فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي ; لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت ، هذا شأن الكليات الاستقرائية ، واعتبر ذلك بالكليات العربية; فإنها أقرب شيء إلى ما نحن فيه ، لكون كل واحد من القبيلين أمرا وضعيا لا عقليا ، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية ، كما نقول : ما ثبت للشيء ثبت لمثله عقلا ، فهذا لا يمكن فيه التخلف ألبتة ، إذ لو تخلف لم يصح الحكم بالقضية القائلة : " ما ثبت للشيء ثبت لمثله " .
فإذا كان كذلك فالكلية في الاستقرائيات صحيحة ، وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات .
وأيضا; فالجزئيات المتخلفة قد يكون تخلفها لحكم خارجة عن مقتضى الكلي; فلا تكون داخلة تحته أصلا ، أو تكون داخلة لكن لم يظهر لنا دخولها ، أو داخلة عندنا لكن عارضها على الخصوص ما هي به أولى; [ ص: 85 ] فالملك المترفه قد يقال : إن المشقة تلحقه ، لكنا لا نحكم عليه بذلك لخفائها ، أو نقول في العقوبات التي لم يزدجر صاحبها : إن المصلحة ليست الازدجار فقط ، بل ثم أمر آخر ، وهو كونها كفارة ، لأن الحدود كفارات لأهلها ، وإن كانت زجرا أيضا عن إيقاع المفاسد ، وكذلك سائر ما يتوهم أنه خادم للكلي .
فعلى كل تقدير لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة وضع الكليات للمصالح .
[ ص: 86 ] المسألة الحادية عشرة
مقاصد الشارع في بث المصالح في التشريع أن تكون مطلقة عامة ، لا تختص بباب دون باب ، ولا بمحل دون محل ، ولا بمحل وفاق دون محل خلاف ، وبالجملة الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليات الشريعة وجزئياتها .
ومن الدليل على ذلك ما تقدم في الاستدلال على مطلق المصالح ، وأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد ، ولو اختصت لم تكن موضوعة للمصالح على الإطلاق ، لكن البرهان قام على ذلك فدل على أن المصالح فيها غير مختصة ، وقد زعم بعض المتأخرين - وهو القرافي - : أن القول بالمصالح إنما يستمر على القول بأن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد ، لأن القاعدة العقلية أن الراجح يستحيل أن يكون هو الشيء والنقيض ، بل متى كان أحدهما [ ص: 87 ] راجحا كان الآخر مرجوحا ، وهذا يقتضي أن يكون المصيب واحدا ، وهو المفتي بالراجح ، وغيره يتعين أن يكون مخطئا; لأنه مفت بالمرجوح ، فتتناقض قاعدة المصوبين مع القول بالقياس ، وأن الشرائع تابعة للمصالح .
هذا ما قال .
ونقل عن شيخه ابن عبد السلام في الجواب أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا : إن هذه القاعدة لا تكون إلا في الأحكام الإجماعية ، أما في مواطن الخلاف; فلم يكن الصادر عن الله تعالى أن الحكم تابع للراجح في نفس الأمر ، بل فيما في الظنون فقط; كان راجحا في نفس الأمر أو مرجوحا ، وسلم أن قاعدة التصويب تأبى قاعدة مراعاة المصالح لتعين الراجح ، وكان يقول يتعين على القائل بالتصويب أن يصرف الخطأ في حديث الحاكم إلى [ ص: 88 ] الأسباب; للاتفاق على أن الخطأ يقع فيها ، وحمل كلام الشارع على المتفق عليه أولى ، هذا ما نقل عنه .
ويظهر أن القاعدة جارية على كلا المذهبين ; لأن الأحكام على مذهب التصويب إضافية; إذ حكم الله عندهم تابع لنظر المجتهد ، والمصالح تابعة للحكم أو متبوعة له فتكون المصالح أو المفاسد في مسائل الخلاف ثابتة بحسب ما في نفس الأمر عند المجتهد وفي ظنه ، ولا فرق هنا بين المخطئة والمصوبة ، فإذا غلب على ظن المالكي أن ربا الفضل في الخضر والفواكه الرطبة جائز ، فجهة المصلحة عنده هي الراجحة ، وهي كذلك في نفس الأمر في ظنه; لأنها عنده خارجة عن حكم الربا المحرم ، فالمقدم على التفاضل فيها مقدم على ما هو جائز ، وما هو جائز لا ضرر فيه ، لا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، بل فيه مصلحة لأجلها أجيز ، وإذا غلب على ظن الشافعي أن الربا فيها غير جائز ، فهي عنده داخلة تحت حكم الربا المحرم ، وجهة المصلحة عنده هي المرجوحة لا الراجحة ، وهي كذلك في نفس الأمر [ ص: 89 ] على ما ظنه فلا ضرر لاحق به في الدنيا وفي الآخرة ، فحكم المصوب هاهنا حكم المخطئ .
وإنما يكون التناقض واقعا إذا عد الراجح مرجوحا من ناظر واحد ; بل هو من ناظرين ظن كل واحد منهما العلة التي بنى عليها الحكم موجودة في المحل بحسب ما في نفس الأمر عنده ، وفي ظنه لا ما هو عليه في نفسه; إذ لا يصح ذلك إلا في مسائل الإجماع ، فهاهنا اتفق الفريقان ، وإنما اختلفا بعد ، فالمخطئة حكمت بناء على أن ذلك الحكم هو ما في نفس الأمر عنده وفي ظنه ، والمصوبة حكمت بناء على أن لا حكم في نفس الأمر ، بل هو ما ظهر الآن ، وكلاهما بأن حكمه على علة مظنون بها أنها كذلك في نفس الأمر .
ويتفق هاهنا من يقول باعتبار المصالح لزوما أو تفضلا ، وكذلك من قال : إن المصالح والمفاسد من صفات الأعيان ، أو ليست من صفات الأعيان ، وهذا مجال يحتمل بسطا أكثر من هذا ، وهو من مباحث أصول الفقه ، وإذا ثبت [ ص: 90 ] هذا; لم يفتقر إلى الاعتذار الذي اعتذر به ابن عبد السلام ، وارتفع إشكال المسألة والحمد لله .
وتأمل; فإن الجويني نقل اتفاق المعتزلة على القول بالتصويب اجتهادا وحكما ، وذلك يقتضي تصور اجتماع قاعدة التصويب عندهم مع القول بالتحسين والتقبيح العقلي ، وأن ذلك راجع إلى الذوات; فكلام القرافي مشكل على كل تقدير ، والله أعلم .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|