
22-09-2021, 12:43 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,413
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (47)
صـ91 إلى صـ 99
المسألة الثانية عشرة
إن هذه الشريعة المباركة معصومة كما أن صاحبها معصوم ، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة .
ويتبين ذلك بوجهين :
أحدهما : الأدلة الدالة على ذلك تصريحا وتلويحا; كقوله تعالى :
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] .
وقوله : كتاب أحكمت آياته [ هود : 1 ] .
وقد قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته [ الحج : 52 ] ; فأخبر أنه يحفظ آياته ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل ، والسنة وإن لم تذكر ، فإنها مبينة له ودائرة حوله ، فهي منه وإليه ترجع في معانيها ، فكل واحد من الكتاب والسنة يعضد بعضه بعضا ، ويشد بعضه بعضا ، وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] .
حكى أبو عمرو الداني في " طبقات القراء " له عن أبي الحسن بن المنتاب; قال :
كنت يوما عند القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق ، فقيل له : لم [ ص: 92 ] جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن ؟ فقال القاضي : قال الله عز وجل في أهل التوراة : بما استحفظوا من كتاب الله [ المائدة : 44 ] فوكل الحفظ إليهم; فجاز التبديل عليهم ، وقال في القرآن : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] ; فلم يجز التبديل عليهم ، قال علي : فمضيت إلى أبي عبد الله المحاملي ، فذكرت له الحكاية ، فقال : ما سمعت كلاما أحسن من هذا .
وأيضا ما جاء من حوادث الشهب أمام بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومنع الشياطين من استراق السمع لما كانوا يزيدون فيما سمعوا من أخبار السماء ، حيث كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مائة كذبة أو أكثر ، فإذا كانوا قد منعوا من ذلك في السماء ، فكذلك في الأرض ، وقد عجزت الفصحاء اللسن عن الإتيان بسورة [ ص: 93 ] من مثله وهو كله من جملة الحفظ ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة ، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل .
والثاني : الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله إلى الآن ، وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة ، والمناضلة عنها ، بحسب الجملة والتفصيل .
أما القرآن الكريم ، فقد قيض الله له حفظة; بحيث لو زيد فيه حرف واحد ، لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر ، فضلا عن القراء الأكابر .
وهكذا جرى الأمر في جملة الشريعة ، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم .
فكان منهم قوم يذهبون الأيام الكثيرة في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب ، حتى قرروا لغات الشريعة من القرآن والحديث - وهو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة ، إذ أوحاها الله إلى رسوله على لسان العرب - .
ثم قيض رجالا يبحثون عن تصاريف هذه اللغات في النطق فيها رفعا ونصبا ، وجرا وجزما ، وتقديما وتأخيرا ، وإبدالا وقلبا ، وإتباعا وقطعا ، وإفرادا وجمعا ، إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها في الإفراد والتركيب ، واستنبطوا لذلك قواعد ضبطوا بها قوانين الكلام العربي على حسب الإمكان ، فسهل الله بذلك [ ص: 94 ] الفهم عنه في كتابه ، وعن رسوله في خطابه .
ثم قيض الحق سبحانه رجالا يبحثون عن الصحيح من حديث رسول الله ، وعن أهل الثقة والعدالة من النقلة ، حتى ميزوا بين الصحيح والسقيم ، وتعرفوا التواريخ ، وصحة الدعاوى في الأخذ لفلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من أحاديث رسول الله .
وكذلك جعل الله العظيم لبيان السنة عن البدعة ناسا من عبيده بحثوا عن أغراض الشريعة كتابا وسنة ، وعما كان عليه السلف الصالحون ، وداوم عليه الصحابة والتابعون ، وردوا على أهل البدع والأهواء ، حتى تميز أتباع الحق عن أتباع الهوى .
وبعث الله تعالى من عباده قراء أخذوا كتابه تلقيا من الصحابة ، وعلموه لمن يأتي بعدهم حرصا على موافقة الجماعة في تأليفه في المصاحف ، حتى يتوافق الجميع على شيء واحد ، ولا يقع في القرآن اختلاف من أحد من الناس .
ثم قيض الله تعالى ناسا يناضلون عن دينه ، ويدفعون الشبه ببراهينه ، فنظروا في ملكوت السماوات والأرض ، واستعملوا الأفكار ، وأذهبوا عن أنفسهم ما يشغلهم عن ذلك ليلا ونهارا ، واتخذوا الخلوة أنيسا ، وفازوا بربهم جليسا ، حتى نظروا إلى عجائب صنع الله في سماواته وأرضه ، وهم العارفون من خلقه والواقفون مع أداء حقه ، فإن عارض دين الإسلام معارض ، أو جادل فيه خصم [ ص: 95 ] مناقض ، غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة ، فهم جند الإسلام وحماة الدين .
وبعث الله من هؤلاء سادة فهموا عن الله وعن رسول الله ، فاستنبطوا أحكاما فهموا معانيها من أغراض الشريعة في الكتاب والسنة ، تارة من نفس القول ، وتارة من معناه ، وتارة من علة الحكم ، حتى نزلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذكر ، وسهلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك ، وهكذا جرى الأمر في كل علم توقف فهم الشريعة عليه أو احتيج في إيضاحها إليه .
وهو عين الحفظ الذي تضمنته الأدلة المنقولة ، وبالله التوفيق .
المسألة الثالثة عشرة
كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أوالحاجيات أو التحسينيات فلا ترفعها آحاد الجزئيات كذلك نقول : إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها; فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكلي ، وذلك الجزئيات ، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكلي فتتخلف مصلحته المقصودة بالتشريع .
والدليل على ذلك أمور :
منها : ورود العتب على التارك في الجملة من غير عذر ، كترك الصلاة ، أو الجماعة ، أو الجمعة ، أو الزكاة ، أو الجهاد ، أو مفارقة الجماعة لغير أمر مطلوب أو مهروب عنه ، كان العتب وعيدا أو غيره ، كالوعيد بالعذاب ، وإقامة الحدود في الواجبات ، والتجريح في غير الواجبات ، وما أشبه ذلك .
ومنها : أن عامة التكاليف من هذا الباب لأنها دائرة على القواعد الثلاث ، والأمر والنهي فيها قد جاء حتما ، وتوجه الوعيد على فعل المنهي عنه منها ، أو ترك المأمور به من غير اختصاص ولا محاشاة; إلا في مواضع الأعذار التي تسقط أحكام الوجوب أو التحريم ، وحين كان ذلك كذلك ، دل على أن الجزئيات داخلة مدخل الكليات في الطلب والمحافظة عليها .
ومنها : أن الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي; لم يصح الأمر بالكلي من أصله ، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه; لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات ، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق ، [ ص: 97 ] وذلك ممنوع الوقوع كما سيأتي إن شاء الله ، فإذا كان لا يحصل إلا بحصول الجزئيات; فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات .
وأيضا فإن المقصود بالكلي هنا أن تجري أمور الخلق على ترتيب ونظام واحد لا تفاوت فيه ولا اختلاف ، وإهمال القصد في الجزيئات يرجع إلى إهمال القصد في الكلي; فإنه مع الإهمال لا يجري كليا بالقصد ، وقد فرضناه مقصودا ، هذا خلف; فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات ، وليس البعض في ذلك أولى من البعض ، فانحتم القصد إلى الجميع ، وهو المطلوب .
[ ص: 98 ] فإن قيل : هذا يعارض القاعدة المتقدمة أن الكليات لا يقدح فيها تخلف آحاد الجزئيات .
فالجواب : أن القاعدة صحيحة ، ولا معارضة فيها لما نحن فيه ، فإن ما نحن فيه معتبر من حيث السلامة من العارض المعارض ، فلا شك في انحتام القصد إلى الجزئي ، وما تقدم معتبر من حيث ورود العارض على الكلي ، حتى إن تخلف الجزئي هنالك ، إنما هو من جهة المحافظة على الجزئي في كليه من جهة أخرى ، كما نقول : إن حفظ النفوس مشروع - وهذا كلي مقطوع بقصد الشارع إليه - ، ثم شرع القصاص حفظا للنفوس ، فقتل النفس في القصاص محافظة عليها بالقصد ، ويلزم من ذلك تخلف جزئي من جزئيات الكلي المحافظ عليه ، وهو إتلاف هذه النفس لعارض عرض وهو الجناية على النفس; فإهمال هذا الجزئي في كليه من جهة المحافظة على جزئي في كليه أيضا ، وهو النفس المجني عليها; فصار عين اعتبار الجزئي في كلي هو عين إهمال الجزئي ، لكن في المحافظة على كليه من وجهين ، وهكذا سائر ما يرد من هذا الباب .
[ ص: 99 ] فعلى هذا تخلف آحاد الجزئيات عن مقتضى الكلي إن كان لغير عارض; فلا يصح شرعا ، وإن كان لعارض ، فذلك راجع إلى المحافظة على ذلك الكلي من جهة أخرى ، أو على كلي آخر; فالأول يكون قادحا تخلفه في الكلي ، والثاني لا يكون تخلفه قادحا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|