عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-10-2021, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,977
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بعث الروح الإسلامية في أمم الشرق عند محمد إقبال

ويُمثِّل فَهْمُ الدِّين فهمًا صحيحًا وعميقًا إحدى الرَّكائز الأساسيَّة في البعث الإسلاميِّ المنشود لدى محمد إقبال؛ يقول في قصيدتِه بعنوان: "أسرار الشَّريعة":



"إنَّ حِفْظ المال ضروريٌّ من أجل الدِّين، وتِلْك حكمةٌ لا يُدرِك معناها كثيرٌ مِمَّن يمتلكون الذَّهَب والفضَّة، الذين ينحَصِر هَمُّهم في جَمْع المال وتَكْديسه في خزائنهم؛ ولذلك فإنَّ تجديد روح الأمَّة لا قيمةَ له عندهم، فهم مُقلِّدون يحافظون على القديم ويَدْعمونه، الباطل في نظَرِهم صواب؛ لأنَّهم يَخْشون معارك الثُّوار، السيِّد يأكل خبزَ العبد الأجير، ويُريق ماءَ وجه ابنته!







إنَّ إصلاح الأُمَّة لا يأتي إلاَّ مِن فارغي الأيدي، وفَسادها يأتي من المُنعَّمين المُتْرَفين، وما لَم تعرف حِكْمة الأكل الحلال، فحياتُك وبالٌ على جماعة المسلمين"!







وبعد أن يَسْتطرد إقبال إلى المقارنة بحال أوروبا التي لا تدرك حقيقة هذا المقام الدِّيني؛ لأنَّ عيونها لا تنظر بنور الله، ولا تُميِّز بين الحرام والحلال، يُؤكِّد للمسلمين أن:



"الشرع ينهض من أعماق الحياة، وإذا أردتَ أن ترى أعماق الدِّين واضحة، فلا تنظر إليه إلاَّ مِن أعماق الضَّمير، وإن لم تَفْعل، فدينُك هو الجَبْر، ومثل هذا الدِّين لا يرضاه الله".







ويَستمِرُّ إقبال في دعوة عُلَماء الدِّين إلى الخروج من مَجالسهم المَحْدودة إلى فضاء العالم الرَّحيب؛ لكي ينشروا الإسلام، ويكتَشِفوا أسرار الشَّرع المبين؛ حتَّى لا يُصبِح أحَدٌ في هذا العالم مُحتاجًا إلى أحد، وهو يُعلِّق على هذا قائلاً:



"هذه هي أسرار الشَّرع المبين وحَسْب! أمَّا العلماء الَّذين لجَؤوا إلى التأويل، فقد خمدَ ميزانُهم في الضَّمير، ومن ثَمَّ لم يعودوا قادرين على التَّواصل مع الشَّباب، والتأثير فيهم".







يقول إقبال: "لقد وُجد في عصري مَن لا يرى في القرآن سِوَى نفسِه، وكأنَّه نبيٌّ! كلُّ واحد منهم عالِمٌ في القرآن والحديث، إلاَّ أنهم قليلو الدِّراية بالشريعة.







جعَلوا العقل والنَّقْل تبعًا لأهوائهم، فمِنْبرُهم منبر "أَكْل العيش وحسب"!







وفي قصيدته "دموعٌ بسبب فرقة الهنود" تصل اللَّهجة الثَّائرة لدى إقبال أقصى مَداها، وفيها يقول:



"إنَّ الأمة التي لا تَأْكل السُّم من أجل المَجْد سوف يُمحَى مكانُها من خريطة الوجود".







وهو يحدِّد وضع الهند المُتردِّي بسبب الاستِعْمار البريطاني قائلاً:



"اختلَفَ الهنودُ مع بعضهم، وأثاروا الفِتَن القديمة، حتَّى جاء الإفرنجُ من الغرب؛ لكي يكونوا وسيطًا بين الكُفْر والدِّين، فما عاد المَرْء يُفرِّق بين الماء والسراب، فالثَّورة، الثَّورة، الثورة"!







أما قصيدة "السِّياسة الحاضرة"، فتصف أسلوبَ الاستعمار الماكر، والذي يخدع أبناءَ الوطن بقشرة من الحريَّة، بينما هو يُحْكِم القيد على رقابهم، يقول إقبال:



"يُحْكِم الاستعمارُ القيدَ على العبيد، ويَعدُّ ذلك حريَّةً لهم، وعندما رأى شعاراتِ الجمهوريَّة برَّاقة، أسدَلَ السِّتار على الملَكِيَّة، وقال: إنَّ السُّلطة جامعةٌ للأقوام، فبدا نَقْصُها!







لا يَسْتطيع أحدٌ أن يطير في فضائها، كما لا يستطيع أحدٌ فتْحَ بابها بمفتاحها"!







ويُحذِّر إقبال مواطنيه بألاَّ ينخدعوا بمعسول حديث المستعمر؛ فإنَّ حديثه كلَّه زيف:



"فقد عمِيَت العيون من كحله، فالعَبْد معه أشَدُّ قهرًا من ذي قبل، حَذارِ مِن شرابه اللَّذيذ، وحذار من مُجالستهم في قمارهم السيِّئ، الرجل الحرُّ لا يغفل عن ذاتيَّتِه، فاحفَظْ نفسك، ولا تتناول الأفيون، واعتَمِد على نفسك في هذا الطَّريق؛ لأنَّ الرجل لا يصطاد الغزالَ بالكلب الأعمى"!







ويَكاد إقبال يَصْرخ من تحَسُّره على حال قومه الَّذين خلَتْ قلوبهُم من الإيمان الحقيقيِّ، القائم على اليقين:



"آهٍ من القوم الَّذين عميَتْ أعينُهم، فتعلَّقَت قلوبهُم بغير الله، فضاعوا، إذا كانت (الذاتيَّة) في صدر الأُمَّة انهارت ولو كانت كالجبَل".







أمَّا إذا كان في أساسها "لا إله إلاَّ الله" وُلِد من بطنها المُسْلم، ذلك الذي يَمْنح اليقين للمرتابين.







ذلك الذي تتزلزَلُ الأرض من سجوده، ذلك الذي يُعلِن "لا إله إلاَّ الله" تحت ظلال السُّيوف، ويَكْتبها بدمه"!







أمَّا القصيدة "خطاب إلى الأمَّة العربيَّة"، فيحمل فيها إقبال على العرَبِ، مُشيرًا إلى جهلهم بِماضيهم العريق، وبِذاتيَّتِهم الحاضرة، ثم بانخِداعهم بأسلوب حياة الغرب الَّذي استعمَرَ أرضهم، وفرَّق مجتمعَهم الواحد إلى العديد من المُجتمَعات المُتفرِّقة الغَريبةِ إِحْداها عن الأخرى.







وفي البداية، يُنادي إقبال العربَ قائلاً:



"يا مَن مُلْكهم باقٍ إلى الأبد، يا من أطلَقوا صيحة: "لا كسرى ولا قيصر"، مَن الذي كان أوَّل قارئٍ للقرآن في هذا العالَم المُترامي الأطراف بالأَمْس واليوم؟ ومَن الذي علَّم الدُّنيا سرَّ "إلاَّ الله"؟!







ومن الَّذي أشعلَ هذا السِّراج لأوَّل مرَّة؟ ومن الذي أطعم النَّاس على مائدته العلمَ والحِكْمة، ومَن الَّذين نزلَتْ فيهم آيةُ ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ؟!".







والإشارة هنا إلى الآية الكريمة ﴿ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103].







ثُم بعد أن يُعدِّد بعض مناقب الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُشيد بسيفِ صلاح الدِّين الأيوبي، ونَظْرة بايزيد، والمنجزات الحضاريَّة الرائعة التي ما زالت قائمة، ومُعبِّرة عن مدى ما وصَلَ إليه المُسلمون من حضارةٍ ورُقيّ؛ مثل: "قَصْر الحمراء" في إسبانيا، و"تاج محل" في الهند "الَّتي يَدْفع الزُّوارُ الخَراجَ لأهلها طوعًا"، يُصارح إقبالٌ العربَ قائلاً:



"لقد تقدَّمَت الأمم بِسَعيها، وأنت أيُّها العربي لا تعرف قيمة صَحْرائك، كنتم أمَّة، فصِرْتُم أُمَمًا، وأصبحتم متفرِّقين غُرَباء، حتَّى عن أنفُسِكم، كلُّ مَن تحَلَّل مِن قيد ذاتيَّته فقد مات، وكلُّ من أسلمَ زمامه للغرباء فقد مات.







لقد فعلتَ بنفسك ما لَم يفعَلْه أحد، فتألَّمَت روحُ المصطفى الطَّاهرة من فعلتك، يا مَن صرت جاهلاً بسِحْر الغرب، انظر: إنَّ الفتن كامنةٌ تَحْت ثوبه، فإذا أردتَ الخلاص من خداعه، فعليك أن تطرد إبِلَه عن حياضِك!







لقد وضَعَ الشُّعوبَ في فمه، ومزَّق الوطن العربي مائة دويلة، منذ وقَعُ العرَبُ في قبضته، لم تتمتَّع سماؤهم بلحظةٍ واحدة من الأمان، فانظُر إلى عصرك يا صاحب النَّظَر؛ حتى تعيد روحَ عُمر - رضي الله عنه - إلى بدَنِك.







إنَّ قوة الجماعة من الدِّين المبين، والدِّين عزمٌ وإخلاص ويقين"!







ويمكن القول هنا: إنَّ الشاعر المُلْهَم هو الذي يتمكَّن من وضع يدِه بدِقَّة على مَواطن الدَّاء في أُمَّتِه، كما يُمْكِنه أيضًا أن يُشخِّص المرض، ورُبَّما نبَّه إلى علاجه والشِّفاء منه، ويَكْفي أن نتأمَّل قول إقبال في هذه القصيدة الرائعة عن العرَبِ وأحوالهم: "منذ وقَعَ العرَبُ في قبضَتِه - الاستعمار - لَم تتمتَّع سماؤهم بلحظةٍ واحدة من الأمان"؛ لكي نُدرِك حقيقةً واقعة، ومع ذلك فإنَّها قد تغيب عن معظم العُقول التي ترصد وتُحلِّل، والكثير منها يتفلسَفُ ويتفَذْلك!







كذلك فإنَّ الشاعر يُؤكِّد أن الحلَّ موجودٌ ومُتاح:



"إنَّ قوَّة الجماعةِ من الدِّين المبين، والدِّين عزمٌ وإخلاص ويقين"!







وفي قصيدة إقبال التي اختارَ عُنوانَها؛ ليكون هو عنوان هذا الدِّيوان الهام: "إذًا ماذا يجب أن نَفْعل يا أمم الشرق؟"، يضَعُ خلاصةَ تجربته وثقافته السياسيَّة، التي أدركَ مِن خلالها حقيقة الغرب، أو موقفه المُعادِيَ من أمم الشَّرق؛ باعتبارها مجالاً واسعًا لاستعماره واستغلاله، مُحاوِلاً بكلِّ الطُّرق تحطيم ذاتيته، وتفريقَ شعوبه، وجَعْله دائمًا في مكان التَّابع الذليل له؛ لذلك فهو يستهلُّ القصيدة بقوله:



"لقَدْ أنَّت الإنسانيَّة من جَوْر الغرب، وذبلت الحياةُ بسببه"!







وهو يؤكِّد أنَّ "أوروبا هوَتْ بحدِّ سيفها، منذُ رسمَتْ طريق الإلحاد تحت القُبَّة الزرقاء".







وهكذا يضَعُ محمد إقبال الصِّراع بين الغرب والشَّرق على بساط الدِّين واللاَّدين، وليس فقط على بِساط الاستعمار والاستغلال، فيَقول:



"إنَّ عقل الغرب وفِكْرَه لا يُفرِّق بين الخير والشَّر، وعَيْناه جامدتان، وقلبه صخرٌ أصم.







العلم في الحواضر والبَوادي في خجَلٍ منهم، عِلْم الغرب سيفٌ بتَّار قد صُنِع لإهلاك النَّوع الإنساني، فآهٍ من الغرب! وآهٍ من قوانينه! وآه من فِكْره الإلحادي!







وهو يَدْعو المسلم - الذي يَعرف الفرق بين الرُّوح والجسَد - أن يُحطِّم سِحْر هذه المدنيَّة المُلحِدة، وأن ينتزع السَّيف من قبضة قاطع الطَّريق! وهنا يُعبِّر إقبال عن مضمون رسالته الشعريَّة، والعقلية أيضًا حين يُخاطب هذا المسلم:



"انْفث روحَ الشَّرق في جسده، حتَّى تصير هذه الرُّوح مفتاح قفلِ المعنى.







إنَّ الإنسان العقلانيَّ ربَّاني ما دام في حُكْم القلب، فإذا تحرَّر منه صار شيطانًا"!







وهذا ما حدثَ في أوروبا، الَّتي أصبحَ شرْعُها هو شَرْعَ الغابة، وهو الَّذي جعل لَحْم الحمَلِ حلالاً للذِّئاب، أولئك الذين يَصِفُهم إقبالٌ بأنَّهم "سارقو الأَكْفان، ونبَّاشو القبور"!







وهو يُخاطِب ابن الشَّرق، والمَقْصود بالطَّبْع هو المُسْلِم الحقيقي:



"يا أسير الألوان، انتبه! كُن مؤمِنًا بذاتك، واكفر بالغرب؛ فزِمام النَّفْع والضَّرر بيدك أنت، وكَرامة الشَّرق وعِزَّتُه في يدك أنت.







وَحِّدْ شتاتَ هذه الأمم العريقة، وارفع رايةَ الصِّدق والصفاء عاليًا؛ فقُوَّة الأمة تَكْمن في وحدتها".







ولا تقتصر دعوة محمد إقبال للمسلمين إلى النُّهوض بِذَواتهم، والتَّماسك من أجل وحدتهم، وعدم الاغترار بحضارة الغرب الزَّائفة، والتي تُخفي سُمَّها القاتل في العسل الذي تُقدِّمه للشُّعوب الشرقيَّة المقهورة، بل إنَّه يَعْمل على المقارنة بين الطَّرَفين، مُشيدًا بالحضارة الإسلاميَّة التي أشرَقَتْ بِنُورها على العالم كلِّه، فأضاءَتْه:



"نبتَ العلم والدِّين في أرض الشَّرق، رفَعْنا الحجاب عن الكائنات، فالشَّمس منَّا، ونحن من الشمس!







جَوهرُ كلِّ صدف مِن ربيعنا، وشوكة كل بحر من قوَّة طوفاننا، كشَفَ فِكْرُنا أسرارَ الوجود، وكُنَّا أوَّل عازفٍ على أوتار الكَوْن".







ويُنبِّه محمد إقبال المسلمَ إلى عدم الانخِداع بِمُنتجات الغَرْب، فيقول:



"يا غافلاً عن شؤون هذا العَصْر، تأمَّلْ مهارة الأيدي الأوروبيَّة؛ نسَجوا السجَّاد من حريرِك، ثم أعادوه إليك مرَّة أخرى، فانخدَعَت عينُك بِظَاهره وبأصباغه الزَّائفة"!







وهو يتأسَّى على حال المسلم، الَّذي نزع (العُلماءُ الجامدون) من قَلْبِه "جذبة الدِّين" أو بالأَحْرى شعلتَه الَّتي كانت تضيء العالمَ مِن حوله، حتَّى صار مثل العبد الَّذي يرسف في أغلاله، ويستَجْدي مِن الغرب خبز الشَّعير؛ يقول إقبال:



"تجوَّلتُ بين العجم والعرَب، فرأيتُ قلَّةَ أتباعِ المصطفى، وكثرةَ أتباع أبي لهَب!







هذا المسلم مضيءُ القلب، الَّذي يُضيء ضميره بدون سراج، كالحرير نعومةً ولُطفًا في شبابه، تَموت الرَّغبة في صدرِه!







وهذا العَبْد أبو العبد ابن العبد، فِكرُه في الحريَّة حرام! أخذَ أهل العلم جذبة الدِّين منه، ولا يَعْلم من وجوده سوى أنَّه كائنٌ حي، فنَسِي نفسه، وتعلَّق بالغرب، يَطْلب منه خبز الشعير"!







وفي ختام الدِّيوان، يضَعُ إقبال قصيدةَ مناجاةٍ للرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يخاطبه فيها بأسًى وحُرْقة، ويعتَرِف أمامه بصِدْقٍ وانكسار، ويَشْكو إليه حالَ الأُمَّة التي أصبحَتْ مريضة كالغزال الضَّعيف، وعلاجها صعبٌ للغاية، لكنَّه يظلُّ بيد الله تعالى، القادر على أن يهبَ المسلمين عبدًا مِن عباده المُحبِّين يجلي لهم حقيقتهم، ويلم شملهم الممزَّق في أرجاء العالم، ثم يقول:



"ما دام ليس لي في غير الله أمَل، فإمَّا أن يجعَلَني سيفًا للحق، أو مفتاحًا للخير".







ويتحدث عن نفسه قائلاً:



"إنَّ لي في فَهْم الدِّين فكرًا قويًّا، لكنَّه لم يثمر في تربيتِي، فأَعْطِ فأسي حدًّا حادًّا؛ إذْ إنَّ محنتي أشدُّ من صخور الجبال، وأنا مؤمنٌ، لستُ منكِرًا لذاتيَّتِي التي تحطم الخرافات؛ لأنني نقيُّ الجوهر.







وإن كانت تربة عمري قد خلَتْ من المَحصول، فإنَّني ما زِلْت أملك شيئًا، وهو القَلْب، أُخْفيه عن أعين الناس؛ لأنَّه خُتِم بخاتَمِ حُبِّك".







ويختم مناجاته قائلاً:



"يا من وهبت صلاح الدِّين شجاعة العرَب، اقبَلْ طلبي لأَكون في حضرتك، أنا العبد الذي صار كالشَّقائق حُمْرةً من الألَم، ولا يدري أصحابُه عن ألَمِه شيئًا، أنا العبد الَّذي صارت أنَّاتُه كأَنَّات الناي، واحترقَتْ روحه بنار النغمات!







قد راحت القافلةُ وخلَّفَتْني في الصَّحراء كَعُودٍ يحترق، وما زال، فهَلْ ستأتي قافلةٌ أخرى في هذه الصَّحراء الشاسعة؟!".







ومن جانبنا لا يسَعُنا بعد هذه الجولة السَّريعة في ديوان محمد إقبال "والآن ماذا يَنْبغي أن نفعل يا أمم الشرق؟" إلاَّ أن نسجِّل مدى الصِّدق الذي تفيض به قصائِدُ الشَّاعر، والذي يدقُّ بشدَّة على أبواب القلوب، فيَجْعلها تنتفض من رَقْدة الكسَل والجهل والتَّخاذل؛ لكي تتحرَّك نحو الاعتزاز بِماضيها، والإحساس بذاتيتها، والتَّقَوِّي بإيمانها.







لكن الشاعر لا يَعْتمد فقط على صدق عاطفته وشفافية رُوحِه، وإنَّما يجعل من العقل مقياسًا لِمَعرفة الحقِّ من الباطل، والخير مِن الشَّر، والحُرِّية من العبوديَّة، والاستقلال من التبعية للمستعمِر الماكر والمُخادِع، إنَّ العقل الواعي هو أهمُّ ما يعتمد عليه محمد إقبال في توعية المسلمين المعاصرين بالأخطار المُحْدِقة بهم، وهو لا يترَدَّد عن الكَشْف عن أهم أسباب التخلُّف والانحطاط الَّتي أصابَتْ حضارتَهم.







وليس الدِّينُ عند إقبال مجرَّدَ شكلِيَّات ومظاهر، بل إنَّه إيمانٌ عميق يَسْري في كيان المسلم كلِّه، فيَجْعله أحَدَّ من السيف، وأقوى من الصَّخر، وأعتَى من الطُّوفان، وأنَّ كلمة "لا إله إلا الله" - الَّتي تتضمَّن عدم الإذعان أو الإقرار بالعبوديَّة لغير الله تعالى - هي المِفْتاح الَّذي يَفْتح به المسلم كنوزَ العالم، ويُسخِّرها من أجل خير الإنسانيَّة جمعاء.







والتصوُّف الذي يصبغ الشَّاعرُ به دعوتَه الدينيَّة ليس هو أيضًا ما يَظْهر به أدعياءُ الزُّهد في الدنيا، وإنَّما هو "الجذبة" أو الجَذْوة الرُّوحية حين تملأ الشَّعائر التي يتَّجِه بها المسلمُ نَحْو الله في صلاته، وخاصَّة عند سجوده الذي تتزلزَلُ منه الأرض، وترتَعِش منه الطواغيت!







أمَّا الحضارة الإسلاميَّة، فهي الخلفيَّة التي تظهر في المشهد الَّذي يرسمه محمد إقبال للمسلم المعاصر، تلك الحضارة التي أبدعَت الرَّوائع التي ما تَزال شاهدةً حتَّى اليوم بمدى ما وصلَ إليه الأجدادُ مِن علمٍ وإتقان، وفي هذا المجال يُشار إلى "قصر الحمراء" الموجود في مدينة غرناطة بأندلُسِ الأمس، وإسبانيا اليوم، وكذلك "تاج محل" في الهند، ومن الجدير بالذِّكْر أنَّ محمد إقبال يلاحظ أنَّ زوار هذه الأماكن يدفعون الخراجَ طوعًا لأهلها!







وبالنِّسبة إلى الغرب، وطليعتُه أوروبا التي يَعْرفها إقبال جيِّدًا، تَبْدو الصُّورة المضادَّة تمامًا للعالَم الإسلاميِّ، أوروبا الَّتي أغارت عليه، فبدَّدَتْ قوتَه، واستَنْزفَتْ موارده، واستعبدت أبناءَه، وحملَتْ موارده إلى مَصانعها، ثُم أعادت منتجاتها لتبيعها لهم بأَضْعاف ثمَنِها، ومع ذلك فإنَّها لم تتوقف عن أن تورِّد للمسلمين الضلال والانحلال والإلحاد، وتُشيع بين شعوبهم الفُرقةَ والتخاذل.







إذًا لن يَنْهض العالم الإسلاميُّ المعاصر إلاَّ إذا تخلَّص من تبعيته للغرب، هذا الغرب الذي يُشبِّهه محمد إقبال بالذِّئب الذي يوصي الحمَل بأن يَبْني حظيرتَه في فِنائه! والواضح تمامًا لدى الشَّاعر أنَّ التَّعارُض - بل التضادّ - قائمٌ - وسيَظلُّ - بين الغَرْب والعالم الإسلامي؛ لأنَّ مُنطلَقات كلٍّ منهما مُختلِفةٌ تَمامًا.







فالغَرْب لا يعترف إلاَّ بِحَضارة الجسَد، بينما العالم الإسلاميُّ كلُّه يقوم تصَوُّره على أنَّ الإنسان - أكرَمَ المخلوقات - مكوَّنٌ من جسَد وروح، وهذا يعني أنَّنا أمام طرَفَيْن: أحدهما تقوم حضارتُه على الإيمان بالله الواحد، والطَّرَف الآخَر ميَّال بطبعه وحضارته إلى الإلحاد!







وأخيرًا، فإنَّ تمَيُّز الشاعر محمد إقبال يَكْمُن - بالإضافة إلى فِكْره الثاقب، وتحليلاته الدقيقة، وملاحظاته الواعية - في صُوَرِه الشعريَّة التي تُضْفي على أبياته جمالاً وروعة، وتبثُّ فيها روحًا وحيويَّة، وتجعلها تنتقل بين العقول والقلوب، وتمتزج بالنُّفوس والأرواح، ومِن المُقرَّر أنَّ هذه الخصائص تقف وَراءها موهبةٌ شعريَّة متكامِلةُ العناصرِ والأدوات.







[1] أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، ونائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.30 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.85%)]