
14-10-2021, 11:14 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (59)
صـ222 إلى صـ 232
فصل
ويترتب على هذا أصل آخر :
وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها ، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل .
أما هذا الثاني; فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر ، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به ، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب .
وأما الأول; فإن الأعمال بالنيات ، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله ، فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع ، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة ، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض .
[ ص: 223 ] فإن قيل : هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر; قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال بني سلمة ! دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم ! .
وفي رواية : فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا .
وفي رواية عن جابر; قال : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن لكم بكل خطوة درجة .
وفي رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري; أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها ، فإذا رجل يقول : " يا أهل السفينة ! قفوا " سبع مرار . فقلنا : ألا ترى على أي حال نحن ؟ ثم قال في السابعة : لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر; كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد [ ص: 224 ] الحر فيصومه .
وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه ، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا ، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل : أحدهما سهل ، والآخر صعب; فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر ، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر .
وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء; فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم ، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم ، وترك الرخص جملة ، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم .
وفي الصحيح أيضا عن أبي بن كعب; قال : كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة ، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فتوجعنا له; فقلنا له : يا فلان ! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض ؟ فقال : أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فحملت به حتى أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، قال : فدعاه ، فقال له مثل [ ص: 225 ] ذلك ، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لك ما احتسبت " .
فالجواب أن نقول :
أولا : إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات; فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات .
وثانيا : إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة ، فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره; فإنه زاد فيه : " وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك; لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها " .
وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ، ثم نزل إلى المدينة ، وقيل له عند نزوله العقيق : لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد ؟ فقال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويأتيه ، وأن بعض الأنصار [ ص: 226 ] أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد; فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما تحتسبون خطاكم ؟ " ; فقد فهم مالك أن قوله : " ألا تحتسبون خطاكم " ليس من جهة إدخال المشقة; ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه .
[ ص: 227 ] وأما حديث ابن المبارك; فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ، ومع ذلك; فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه; كالوضوء عند الكريهات ، والظمأ والنصب في الجهاد ، فإذا اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك ، لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به ، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها; فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة ، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة ، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد ، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره ، وهكذا سائر ما في هذا المعنى .
وأما شأن أرباب الأحوال; فمقاصدهم القيام بحق معبودهم ، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ، ولا يصح أن يقال : إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات; لما تقدم من الدليل عليه ، ولما سيأتي بعد إن شاء الله .
[ ص: 228 ] وثالثا : إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرادوا التشديد بالتبتل ، حين قال أحدهم : أما أنا; فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا; فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا; فلا آتي النساء ، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله ، وقال : من رغب عن سنتي; فليس مني .
وفي الحديث : ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصينا .
ورد - صلى الله عليه وسلم - على من نذر أن يصوم قائما في الشمس; فأمره بإتمام صيامه ، ونهاه عن القيام في الشمس .
وقال : هلك المتنطعون .
[ ص: 229 ] ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلا فيها قطعيا ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع; بطل ولم يصح ، وهذا واضح ، وبالله التوفيق .
فصل
وينبني أيضا على ما تقدم أصل آخر .
وهو أن الأفعال المأذون فيها; إما وجوبا ، أو ندبا ، أو إباحة ، إذا تسبب عنها مشقة ; فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل ، أو لا تكون معتادة ، فإن كانت معتادة; فذلك الذي تقدم الكلام عليه ، وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هي مشقة ، وإن لم تكن معتادة; فهي أولى ألا تكون مقصودة للشارع ، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره ، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله ، أو لا .
فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح في التعبد به; لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ، ومثال هذا حديث الناذر للصيام [ ص: 230 ] قائما في الشمس ، ولذلك قال مالك في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال : " أمره أن يتم ما كان لله طاعة ، ونهاه عما كان لله معصية " ; لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة ، لا بسبب الدخول في العمل; كما في المثال; فالحكم فيه بين .
وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما ، والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا; إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل ، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وجاء فيه مشروعية الرخص .
ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة; فذاك ، ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه ، وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه ، وإن لم يعمل بالرخصة; فعلى وجهين :
أحدهما : أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ، ويكره بسببه العمل; فهذا أمر ليس له ، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك ، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش .
وفي مثل هذا جاء : ليس من البر الصيام في السفر .
[ ص: 231 ] وفي نحوه نهي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان .
وقال : لا يقض القاضي وهو غضبان .
وفي القرآن : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] .
إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله ، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب ، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف .
والثاني : أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ، ولكن في العمل مشقة غير معتادة; فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ، ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام ، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت ، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج ، وإن قدر على الصبر عليها; فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة .
[ ص: 232 ] إلا أن هنا وجها ثالثا ، وهو أن تكون المشقة غير معتادة ، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ، ورب شيء هكذا ، فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى ، المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية ، وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة على المكلف ، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة ، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا ، وقام حتى تفطرت قدماه ، فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية .
وهذا القسم يستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس; فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه ، مع تأكده في أصول الشريعة .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|