عرض مشاركة واحدة
  #12  
قديم 16-10-2021, 03:41 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: محاور الغربة والاغتراب في ديوان نقوش إسلامية

ومن ثم يحاول في نهاية القصيدة أن يعرف لنا الشعر الحقيقي الذي يحمل القضايا، ولا يكون خدرًا في العقول والقلوب، وقعودًا عن عظائم الأمور، ونكصًا على الأعقاب، وعيشًا في مواخير الفساد:
الشعر ليس عصافيرًا ملونةً
تزورنا وكؤوس الخمر تنتخبُ

ولا حبوبًا - كما قلتم - منومةً
حاشا فإن القوافيْ أمرُها عجبُ

ما قيمة الشعر بالونًا نُطيِّرهُ
وحيثما قلبته الريحُ ينقلبُ؟![7]



إنه يريد الشعر الذي يوجِّه، لا الشعر الذي يدور مع الريح حيث دارت، يريد الشاعر الذي يلتزم بفكر سليم، وهدف سام، وغاية نبيلة؛ لذا يصبح الشعر عند الملتزم بالمنهج الحق عبئًا حقيقيًّا يحتاج الأشداء الأوفياء ليحملوه:
حملت شعري دهرًا دونما تعبٍ
حتى تقوَّس هذا الظهر والتعبُ

حملته صخرةً ما كان أثقلها
ولم أعاتب ولم أَعبأ بمن عَتبوا

وخُضت فيه بحورًا من مكابدةٍ
وكم سريتُ بليلٍ ما له شُهبُ

الشعر دورقُ ماءٍ كنت أحملهُ
إلى العطاش وحرُّ الشمس يلتهبُ

خبز أَمُدُّ به الجوعان حين أرى
ولعنة فوقَ من عاثوا ومَن نهبوا[8]



وفي هذه الغربة القاسية وهذا الهجير الشديد، يمد الشاعر بصره ويطل بقلبه - على بعد المدى - إلى إخوانه على شاطئ الأطلسي في المغرب، الذين حملوا نفس الراية - راية الالتزام الإسلامي في الأدب - ويكتب لهم قصيدة "الأشجار"، وكأني بهذه الإطلالة هي الظل الذي يجد فيه الشاعر بعضًا من الطمأنينة والراحة، بعد أن مرت قافلته على ظلال كاذبة فما ارتاحت؛ يقول محمود مفلح في هذه القصيدة:
إليكم
إلى كل قلبٍ تندَّى بماء القداسة والبَسملهْ
إلى كل نجمٍ هنالك يغزل أعيادنا المُقبلهْ
إلى كل نقطة حبرٍ تجادل عن نفسها قبل فوت الأوانِ،
ترسِّخ من واقع السُّنبلهْ.
إلى رقصة الزيزفون الذي لا يُمارَى بـ"وَجْدَةَ"
وهو يؤذنُ للفجر، ثم يرتل شيئًا من السوَرِ المثقلهْ
إليكم وأنتم تضيؤون في غسَق الليلِ
تجترحون الحكاياتِ التي أرَّخت للبدايةِ
تستنزفون الأصالة حتى الثمالهْ
تشدُّون أقواسكم والنيامُ نيامٌ على فرش من نذالهْ
إليكم أزف التحية والمجدَ
أشهد أني على باب هذا الكفاح المكافحِ
أصبحتُ عالهْ[9]

والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، والشاعر يعرف هؤلاء جميعًا واحدًا واحدًا، ويغلق نوافذ القلب كيلا يفروا منه، ثم يتمنى لو أنه انضم إليهم، ورحل إليهم، والتقى بهم؛ حيث اتحد الطريق واتحدت الوجهة، واتحدت الغاية والهدف:
عرفتكمُ واحدًا واحدًا
وغلَّقت كل النوافذ في القلب كيلا تفرُّوا
قرأتكمُ ساعدًا ساعدًا
عرفت متى تشهرونَ القصائدَ
كي تستريحوا على شرفاتِ القمرْ
عرفت متى تقرؤون حروفَ الندى..
أو متى ترحلونَ إلى الموعدِ المنتظرْ
تمنيت لو أنني ريشةٌ في الجناح الكبيرِ
ترفُّ على سرب أحلامِكم..
تمنيت لو أنني نقطةٌ في"المحيط"..
سحابةُ صيف تجول على ذلك المنحدرْ
تمنيت لو أُطلقَ القلب صوبَ مساءاتكم في الشمالِ
وأنتم تجيدون كنس الغثاءِ
ليلعب في الريح تحتَ المطرْ[10]

والقصيدة تفيض بالعذوبة، وتضم بين جوانحها كثيرًا من المشاعر الأخوية الصادقة، وتدل بمجرد النظر إلى مفرداتها على النموذج الإسلامي للأدب الذي نريده اليوم، والذي يتمتع بقدر كبير من الحساسية الشعرية، وتشرب المعاني والمفردات القرآنية والإيمانية جاعلاً القرآن - بلغته وصوره وتعبيراته ومضامينه - مرجعيةً فكريةً وفنيةً في آن واحد.

وحسبنا أن ننظر في بعض التعبيرات التي ضمتها القصيدة؛ لنقف على هذه الحقيقة:
كل قلب تندى بماء القداسة والبسملة

كل نقطة حبر تجادل عن نفسها

يؤذن للفجر، ثم يرتل شيئًا من السور المثقلة

تشدون أقواسكم والنيام نيام

تجيدون كنس الغثاء...

يعانق كل الكواكب كل المآذن

تدقون بالقبضات العنيدة أعتى الرياح

أهز جذوع الأخوة فيكم، فيساقط الثمر الحلو

تفيضون من ماء زمزم في الليلة الباردة

تعوذون بالله من همزات الشياطين


أيها القابضون على الجمر

الخطى المسرعات إلى الفجر

كل هذا الزخم من التعبيرات التي تلمح فيها أثرًا قرآنيًّا في فكرتها، أو طريقة تعبيرها، أو حساسيتها التعبيرية والدلالية، يقدم القصيدة النموذج ويؤصل من خلال ذلك للشعر الإسلامي الذي نطمح إليه.

إن غربة الغريب في هذه القصيدة قد تحولت ظلاًّ وتهادلت ثمرًا:
وجاءَ الربيع بما لا يجيءُ كثيرًا
يفتِّح أزهارنا الواعدة
وفي نبضكم أيها القابضونَ على الجمرِ
أحكمتُ نبضي
عرفتكمُ بالخُطى المسرعات إلى الفجرِ
والقسماتِ الجريئة.. والأعينِ الثاقبة
عرفتكم بالحروف الندية
والكلماتِ التي تنعش القلبَ..
في درب أيامنا اللاهبة
عرفتكم حينما تنقشونَ بتلك الأظافرِ
فجرًا جديدًا
تضيؤون في عتمة الفكرِ حرفًا جديدًا
تجيئون كالموجةِ العاضبة.[11]


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.78%)]