
24-11-2021, 05:15 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,423
الدولة :
|
|
رد: مظاهر اهتمام ابن جني بالبنية العميقة والسطحية في الخصائص
ولقد تناول ابن جني في كتابه الخصائص عرض العلاقة بين اللفظ والمعنى، والعلاقة بين اللفظ واللفظ، وأفرد لذلك أبواباً من ذلك (باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني) حيث عرض فيه لاشتراك الأسماء في المعنى الواحد، وردَّه لوجود تقارب دلالي بين تلك الأسماء، يقول في مُستهلِّ هذا الباب:" هذا فصلٌ من العربية حسنٌ كثير المنفعة، قويُّ الدلالة على شرف هذه اللغة، وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة، فتبحث عن أصل كل اسم منها، فتجده مُفضي المعنى إلى معنى صاحبه، وفي ذلك إشارة إلى وقوع التَّرادف في اللغة، وما اشتهر به صاحب الخصائص هو إبراز لظاهرة لغوية تتمثل في تقارب الدلالات لتقارب حروف الألفاظ، وهو ما سمَّاه (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني) سجَّل فيه أنَّ مخارج حروف اللفظ التي تقترب من مخارج حروف لفظ آخر، هما متقاربان دلالياً لتقاربهما فنولوجياً، وتلك خاصية من خصائص اللغة العربية [63].
ولقد قدَّم ابن جني تعليلاً بديعاً، يفسر العلاقة الطبيعية بين الصوت ودلالته، فينقل قول الخليل:" كأنَّهم توهَّموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا: صرًّ. وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: صرصر. ويقول سيبويه في المصادر التي جاءت على وزن فعلان أنَّها تأتي للاضطراب والحركة؛ نحو: القفزان والغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال"[64]. وهذا ما أدرجه ابن جني في باب (إمساس الألفاظ أشباه المعاني)، إذ التأليف الصُّوري للفظ يرسم القيمة الدلالية للمعنى الذي يقابله، وإن كان ذلك صعباً تطبيقه على كل عناصر النِّظام اللُّغوي، إلا أنَّ ذلك يبقـى طرحاً جريئاً من قِبَلِ ابن جني، له قيمته العلمية وسبقه المعرفي في عصره[65].
وكلام ابن جني السابق في معظمه يتفق مع كثير من مسائل علم السيميائية، والتداولية، والمدرسة الوظيفية، علم لغة النصِّ، وغيرها من المناهج اللغوية الحديثة، وخاصة اهتمام ابن جني بالمعنى.
وقد غلَّب ابن جني المعنى على اللفظ، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ في الخصائص، ومنه قوله:" فقد رأيت بما أوردناه غلبة المعنى للفظ، وكون اللفظ خادمًا له، مشيدًا به، وأنَّه إنَّما جيء به له ومن أجله ".[66] ويقول:" ويدلُّك على تمكُّن المعنى في أنفسهم وتقدُّمه للفظ عندهم؛ تقديمهم لحرف المعنى في أول الكلمة، وذلك لقوة العناية به، فقدَّموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكُّنه عندهم".[67] ويقول: "الإخلال باللفظ في جنب الإخلال بالمعنى يسيرًا سهلاً وحجمًا محتقرًا".[68] ويقول في هذا الشَّأن أيضًا:" فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسَّنوها وحموا حواشيها، وهذَّبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا ترينَّ أنَّ العناية إذ ذاك إنَّما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها وتشريف منها، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته وتقديسه، وإنَّما المبَغىُّ بذلك منه الاحتياط للموعى عليه وجواره بما يعطر بشره ولا يعر جوهره، كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه ويغض منه كدرة لفظه وسوء العبارة عنه".[69]
ويتحدَّث عن العرب في هذا الشأن قائلاً:" سبب إصلاحها ألفاظها وطردها إياها على المثل والأحذية التي قننتها لها، وقصرتها عليها، إنَّما هو لتحصين المعنى وتشريفه، والإبانة عنه وتصويره.... زينة الألفاظ وحليتها، لم يُقصد بها إلا تحصين المعاني وحياطتها، فالمعنى إذا هو المُكرم المخدوم، واللَّفظ هو المُبتذل الخادم ".[70]
ويرى ابن جني أنَّ العرب والنحاة قد جعلوا المعنى محور دراستهم؛ كدراسة الإعراب، والحذف، والتقديم والتأخير..الخ، " فـالمعنى قطبٌ مهمٌ في دراسة بناء الجملة، ويعتبر المعنى مكمِّلاً للنحو العربي الذي يدرس وظائف المفردات في الجملة"[71]، وينبع الاهتمام بالمعنى لدى النحاة واللغويين العرب ومنهم ابن جني، من إيمانهم بأنَّ "النحو ليس مجرَّد قاعدة تُطبَّق، بل بحث في معاني التَّراكيب وأسرار حسنها وقوتها، وإن كان النحو ينطلق من المباني للوصول إلى غايته من المعاني"[72]. ومن ذلك عند ابن جني قوله:"إنَّما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى".[73] ويقول:" تقدير الإعراب على سمت تفسير المعنى فهو مالا غاية وراءه، وإن كان تقدير الإعراب مُخالفًا لتفسير المعنى، تقبَّلت تفسير المعنى على ما هو عليه، وصحَّحت طريق تقدير الإعراب".[74]
ويرى ابن جني أنَّ المعنى ثابت واحد يجب إدراكه بوضوح أو البحث عنه إن لم يكن واضحًا، ولابد من اتِّخاذ الوسائل الكفيلة لإيضاحه، والمعنى مرتبطٌ بالبنية العميقة ـ على حد تعبير البنيويين التحويليين ـ ومن ذلك قولـه:" فأمَّا المعنى فواحدٌ، فقد ترى إلى سعة طريق اللفظ، وضيق طريق المعنى".[75] ويقول:" اعلم أنَّ العرب إذا أرادت المعنى مكَّنته واحتاطت له، فمن ذلك التوكيد...".[76] ويقول:" واعلم أن العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ".[77] وذلك لأنَّ " قدر المعنى عندهم أعلى وأشرف من قدر اللَّفظ ".[78]
وركَّز ابن جني على العلاقة العضوية التي تربط اللفظ بالمعنى، وعقد أبوابًا عدة في خصائصه، ومن ذلك (باب في إيراد المعنى المراد بغير اللفظ المعتاد) حيث يقول: "اعلم أنَّ هذا موضع قد استعملته العرب واتبعتها فيه العلماء، والسَّببُ في هذا الاتِّساع أنَّ المعنى المُراد مُفاد من الموضعين جميعًا، فلمَّا آذنا به وأدَّيا إليه سامحوا أنفسهم في العبارة عنه، إذ المعاني عندهم أشرف من الألفاظ".[79]ومنه (باب في التفسير على المعنى دون اللفظ) حيث يقول:" اعلم أنَّ هذا موضع قد أتعب كثيرًا من الناس، واستهواهم ودعاهم من سوء الرأي وفساد الاعتقاد إلى ما مذلوا به وتتايعوا فيه، حتى إنَّ أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة والأقوال المستشنعة إنَّما دعا إليها القائلين بها تعلُّقهم بظواهر هذه الأماكن دون أن يبحثوا عن سرِّ معانيها ومعاقد أغراضها".[80]
ومنه (باب في قوة اللفظ لقوة المعنى) حيث يقول: "هذا فصلٌ من العربية حسنٌ؛ منه قولهم: «خشن واخشوشن» فمعنى (خشن) دون معنى (اخشوشن) لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو، ومنه قول عمر رضي الله عنه:«اخشوشنوا وتمعددوا» أي: اصلبوا وتناهوا في الخشنة، وكذلك قولهم:«أعشب المكان» فإذا أرادوا كثرة العشب فيه قالوا:«اعشوشب»".[81]
ويقول:" وبعد فإذا كانت الألفاظ أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له زيادة المعنى به".[82] ويقول:"ونحو من تكثير اللفظ لتكثير المعنى العدول عن مُعتاد حاله، وذلك (فعَّال) في معنى (فعيل)؛ نحو طوَّال) فهو أبلغ معنى من (طويل)، و(عرَّاض) فإنَّه أبلغ معنى من (عريض)، وكذلك (خفَّاف) من (خفيف) و(قلاَّل) من قليل، و(سرَّاع) من سريع "[83].
ومنه (باب في المستحيل وصحة قياس الفروع على فساد الأصول) حيث يقول:" اعلم أنَّ هذا الباب وإن ألانه عندك ظاهر ترجمته، وغضَّ منه في نفسك بذاذة سمته، فإنَّ فيه، ومن ورائه تحصينًا للمعاني، وتحريرًا للألفاظ وتشجيعًا على مُزاولة الأغراض، والكلام فيه من موضعين: أحدهما: ذكر استقامة المعنى من استحالته، والآخر: الاستطالة على اللفظ بتحريفه والتَّلعب به؛ ليكون ذلك مدرجة للفكر، ومشجعة للنفس، وارتياضًا لما يرد من ذلك الطُّرز...".[84]
وكما مرَّ فإنَّ المعنى يلعب دورًا رئيسًا في عملية التَّحول من صورة إلى صورة، وفـي هذا الشَّأن يقول عبد القاهر:" واعلم أنَّ الفائدة تعظم إذا أنت أحسنت النَّظر فيما ذكرت لك، من أنَّك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة، من غير أن تُغيِّر من لفظه شيئًا، أو تُحوُّل كلمة عن مكانها إلى مكانٍ، وهو الذي وسع مجال التَّأويل والتَّفسير، حتى صاروا يتأوَّلون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير"[85].
ولقد كان تشومسكي وتلاميذه مقتنعين " بأنَّ معنى الجمل يجب أن يخضع لنفس الخطوات التحليلية التي يخضع لها التحليل النحوي، وأنَّ الدلالة ينبغي أن تدخل في هذا التحليل كعنصر يتكامل مع التحليل النحوي للغات الإنسانية... فالجملة اشتعلت النار في المنزل) صحيحة نحويًّا، والجملة (اشتعل الثلج في الماء) غير صحيحة نحويًّا، ويرجع انحراف الجملة الثانية عن الصِّحة أنَّ المكون الدلالي للفعل (اشتعل) لا يتركَّب مع المكون الدلالي للفاعل (الثلج)"[86]. "والبحث الحديث هدفه دراسة التركيب الشكلي لعناصر الجملة؛ وسيلة للتعبير عن معنى، ومن ثم َّ يعتبر المعنى قطبًا مهمًا في دراسة بناء الجملة "[87].
وبعد، فقد تأكَّد لنا تشابه آراء ابن جني ودراساته حول المعنى مع أحدث الدراسات لدى السيميائيين، والوظيفيين، والتداوليين، والبنيويين التحويليين، وعلم لغة النصّ، وغيرهم، فالمعنى قطب الدراسات اللغوية شرقًا وغربًا، قديمًا وحديثًا.
سابع عشر: دراسة تأثير الإشارة وحركات الوجه في دلالة الكلام:
من الأمور المُهمَّة ذات العلاقة بالبنية السطحية والبنية العميقة دراسة ابن جنى للإشارة أو الحركات أثناء تأدية الكلام، وقد تعرض اللغويون العرب لدراستها وتحليلها، ومن هؤلاء الجاحظ المتوفى (255هـ) الذي درسها في كتابيه (البيان والتبيين) و(الحيوان)، ومن أقوال الجاحظ في هذا الشَّأن:" فأمّا الإشارة فأقربُ المفهومِ منها: رَفْعُ الحواجبِ، وكسرُ الأجفان، وليُّ الشِّفاهِ، وتحريك الأعناق، وقبْض جلدةِ الوجه. وأبعدُها: أن تلوى بثوبٍ على مقطع جبل تُجاهَ عينِ النَّاظر... "[88]. ومنه قوله أيضًا:" ولا بدَّ لبيان اللسانِ من أمور: منها إشارة اليد، ولولا الإشارةُ لَمَا فهمـوا عنك خاصَّ الخاصِّ" [89]. وقوله:" وكلما كانت الدلالة أوضح وأفصح، وكانت الاشارة أبين وأنور، كان أنفع وأنجع "[90]، فدراسة الجاحظ في هذه المسألة أسبق وأشمل ممَّا ذكره ابن جني عنها، وكلامهما عنها أسبق بطبيعة الحال عمَّا جاء لدى العلماء المحدثين.
وما يهمنا هنا هـو دراسة ابن جني لها، ومن ذلك قوله:"... وإن لم يكن ذا جارحة بأن يُحدث في جسم من الأجسام خشبةً أو غيرها؛ إقبالاً على شخصٍ من الأشخاص وتحريكًا لها نحوه، ويسمع في نفس تحريك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتًا يضعه اسمًا له، ويُعيد حركة تلك الخشبة نحو ذلك الشَّخص دفعات... فتقوم الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في المُواضعة، وكما أنَّ الإنسان أيضًا قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو المُراد المُتواضع عليه، فيقيمها في ذلك مقام يده لو أراد الإيماء بها نحوه".[91] ومن ذلك قولـه أيضًا:"... وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق. قلت: « سألناه وكان إنسانًا » وتزوى وجهك وتقطبه، فيغنـى ذلك عن قولك: « إنسانًا لئيمًا أو لحزًا[92] أو مبخلاً أو نحو ذلك "[93].
وأمَّا حركات الوجه فقد اهتم ابن جني بدراستها، ومن ذلك أيضًا قوله:" فلو قال حاكيًا عنها: «أبعلي هذا بالرَّحى المُتقاعس» من غير أن يذكر صكَّ الوجه، لأعلمنا بذلك أنَّها كانت متعجبة منكرة، لكنه لمَّا حكى الحال فقال: « وصكت وجهها » علم بذلك قوة إنكارها، وتعاظم الصورة لها، هذا مع أنَّك سامع لحكاية الحال غير مُشاهدٍ لها، ولو شاهدتها لكنت بها أعرف، ولعظم الحال في نفس تلك".[94]ويقول أيضًا:" وقد قيل: « ليس المُخبر كالمُعاين » ولو لم يُنقل إلينا هذا الشّاعر حال هذه المرأة بقوله: « وصكت وجهها » لم نعرف به حقيقة تعاظم الأمر لها، وليست كل حكاية تُروى لنا، ولا كل خبر يُنقل إلينا يشفع به شرح الأحـوال التَّابعة لـه المُقترنة كانت بـه. نعم، ولو نُقلت إلينا لم نفـد بسماعها، ما كنا نفيـده لو حضرناها ".[95]
ودراسة الإشارة وحركات الوجه عند ابن جني تُخالف تعريفه للغة بأنَّ حدَّها أصوات، وتتعارض مع دراسة البنيويين التقليديين (الوصفيين) للغة، فهم يدرسون الكلام المسموع، ولا يهتمون بما هو خارج عن اللغة، كما مرَّ بنا، وكذلك فهذا لا يتطابق مع دراسة البنيويين التحويليين التوليديين للكلام المسموع أو المكتوب، كما لا يحفل بذلك علم لغة النَّصِّ، ولكنه قد يهتم بدراسته السيمائيون؛ لأنهم يهتمون بكل ما من شأنه إيضاح الدلالة أو المعنى.
ثامن عشر: دراسة التَّنغيم والنَّبر وأثرهما في دلالة الكلام:
التَّنغيم (Intonation): عبارة عن تنويعات صوتية تُكسب الكلمات نغمات موسيقية مُتعدِّدة. أو هو رفع الصَّوت وخفضه في أثناء الكلام؛ للدلالة على المعاني المختلفة للجملة الواحدة. أو هو الإطار الصوتي الذي تقال به الجملة في السِّياق. وتتَّفق هذه التَّعريفات جميعها على أنَّ التَّنغيمَ عنصرٌ صوتيٌّ، تتراوح شدَّتُه بين الارتفاع والانخفاض، وذلك على مستوى الحدث الكلامي. ولقـد فرَّق بعض اللغويين بين مصطلحين أساسيين هما: النَّغمـة (Ton)، والَّتنغيم (Intonation)، فأمَّا النَّغمة فتكون على مستوى الكلمات المُفردة، في مثل: نعم، لا، ولد،...الخ. وأمَّا التَّنغيم فيكون على مستوى الجملة [96]. وذهب كارتشيفسكي (ت1931م) إلى أنَّ التَّنغيم هو الذي يتحكَّم في التَّركيب، وأنَّ بناء الجملة بناء إيقاعي في أصله (نَفَسي ـ فيزيزلزجي). ويتَّفق جميع علماء اللغة المُحدثين ـ على اختلاف مدارسهم ـ على أنَّ النَّبر يقـوم بدورٍ دلاليٍّ في بعض اللغات؛ كالصِّينية، واليابانية، والإنجليزية، والفرنسية، فإنَّ النبر فيها ذو وظيفة دلالية. ففي الإنجليزية ـ مثلاً ـ نجد أنَّ النَّبر إذ وقع على المقطع الأول كانت الكلمة اسمًا، أمَّا إذا وقع على المقطع الثاني فتكون الكلمة فعلاً [97]، ويزعم بعض العلماء أنَّ التنغيم لا يقوم بمثل هذه الوظيفة في بعض اللغات الأخرى؛ كالعربية مثلاً، كما يزعمون أنَّ قُدامى اللغويين العرب لم يُسجلوا هذه الظاهرة في كتبهم؛ لأنَّها ليست ذات قيمة صرفية أو نحوية.
وتُثير مسألة التَّنغيم في التُّراث العربي خلافًا كبيرًا بين الدَّارسين المُعاصرين، حيث انقسمت آراؤهم في ذلك إلى قسمين؛ فذهب قسمٌ من الباحثين إلى أنّ العرب لم يتناولوا هذه الظاهرة، ولم يدرسوها ولم يلتفتوا إليها؛ ومنهم الأستاذ الدكتور تمّام حسّان على ما عُرِف عنه من دقّةٍ وتمهّل في الحكم، عندما ذهب في كتابه "مناهج البحث في اللّغة" إلى القول:" إنّ العربيّة الفُصحى لم تعرف هذه الدراسة في قديمها، وإنّ القدماء لم يُسجلوا لنا شيئًا عن هذه الظاهرة " [98]، مستخدمًا أسلوب النفي الجازم، وهي مسألة لنا فيها وجهة نظر أخرى.
ويذهب براجشتراسر في كتابه "التطور النحوي" إلى مثل ذلك، ولكنّه يقصر نفيَه، في تناول هذه الظاهرة في التُّراث، على النَّحويين والمُقرئين القدماء، دون أهل التجويد والأداء، حيث يقول:" إنّنا نعجب كلَّ العجب من أنّ النحويين والمقرئين القدماء لم يذكروا النغمَة ولا الضغط أصلاً، غير أنّ أهل الأداء والتجويد رمزوا إلى ما يُشبه النغمة"[99]. والأستاذ محمد الأنطاكي ينفي إشارة النُّحاة في كتبهم إلى هذا الجانب عندما يقول:" إنَّ قواعد التَّنغيم في العربية قديمًا مجهولة تمامًا؛ لأنّ النُّحاة لم يُشيروا إلى شيءٍ من ذلك في كتبهم" [100].
والقسم الثاني من الآراء التي تناولت مسألة التَّنغيم في التُّراث، هي آراء لباحثين معاصرين ترى أنَّ القدماء أدركوا هذا الجانب، إذ تُوجد إشارات في كتبهم تُوحي إلى ذلك، وإنْ لم يكن لها حاكم من القواعد، ومِنْ مُمثلي هذا القسم الدكتور أحمد كشك في كتابه "من وظائف الصَّوت اللغوي" فقد خصَّص فصلاً في كتابه المذكور لدراسة التنغيم على أنّه ظاهرة نحوية [101]، يقول فيه:" وقدامى العرب، وإنْ لم يربطوا ظاهرة التَّنغيم بتفسير قضاياهم اللغويّة، وهم وإنْ تاه عنهم تسجيل قواعد لها، فإنّ ذلك لم يمنع من وجود خطرات ذكيّة لمَّاحة تعطي إحساسًا عميقًا؛ بأنّ رفض هذه الظاهرة تمامًا أمرٌ غير واردٍ، وإنْ لم يكن لها حاكمٌ من القواعد..." [102].
ويذهب الدكتور عبد الكريم مجاهد في ثنايا حديثه عن الدلالة الصوتيّة والصرفيّة عند ابن جني، إلى أنّ ابن جنّي قد أدرك هذا الجانب، ويرى أنَّه " بذلك يظهر فضل ابن جنّي بجلاءٍ ووضوحٍ، ويُثبت أنّه قد طرق باب هذه الموضوعات التي تُعتبر من مُنجزات علم اللغة الحديث، وبذلك تحفظ له أصالته ومساهمته"[103].
والمُلاحظ في قول الدكتور مجاهد أنّه جعل من التَّنغيم أحدَ مُنجزات علم اللغة الحديث، وهذا أمرٌ مخالفٌ لطبيعة اللغة، إذ لا يمكن أن تكون الظَّاهرة اللُّغوية منجزًا يُخترع في عصر ما، بل هي نتاج تطوّرٍ زمنيٍّ طويلٍ، لا يمكن أن يُحدَّ بعصرٍ معيَّنٍ. فالتَّنغيمُ ظاهرةٌ موجودةٌ في اللُّغة، ثم جاءت اللسانيات الحديثة لتوصّفها. ودليلنا على ذلك أنَّ الحديث عمَّا نسميه حديثًا بالتنغيم، الذي جعل الدكتور مجاهد "ابن جني" مُساهماً فيه، موجودٌ عند غير ابن جني، ولا سيما لدى سيبويه ولدى الفلاسفة، لذلك يمكن القول: إنَّ ظاهرة التنغيم قد شغلت في علم اللسانيات حيّزاً درسيّاً مُستقلاً، وأُفردت لها أبحاثٌ خاصّةً بها، ولم تُكتشف أو تُنجز فجأةً، مع الإشارة إلى أنّ الفضل في ذلك يرجع إلى تلك الإرهاصات البحثية التي نجدها عند الأقدمين من علماء العربيّة [104].
وعليه، فإنَّ التنغيم من الظواهر اللغوية التي يراعيها العرب فـي لغتهم، وتابعهم العلماء بدراستهما [105]، والنَّبر والتنغيم يُؤثِّران في تغيير البنية السطحية، ويُشير ابن جني إشاراتٍ لطيفةً إلى التَّنغيم والنَّبر وأثر حركات الوجه أثناء تأدية الكلام عندما عرض لكلـام العرب: «سير عليه ليلٌ» بقوله:" وكأنَّ هذا إنّما حُذفت فيه الصفة، لمّا دلَّ من الحال على موضعها، وذلك أنَّك تحسُّ في كلام القائل لذلك من التَّطويح والتطريح (التطويل) والتضخيم والتعظيم، ما يقوم مقام قوله (طويل) أو نحو ذلك. وأنت تحسُّ هذا من نفسك إذا تأملته، وذلك أنَّك تكون في مدح إنسانٍ والثَّناء عليه، فتقول: « كان والله رجلاً »، فتزيد في قوة اللفظ (والله) وتتمكّن من تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها؛ أي: رجلاً فاضلاً أو شجاعًا أو كريمًا أو نحو ذلك. وكذلك تقول: « سألناه فوجدناه إنساناً! »، وتمكّن الصوت بِـ (إنسان) وتفخّمه فتستغني بذلك عن وصفه؛ بقولك: إنسانًا سمحًا أو جوادًا أو نحو ذلك "[106]. ألا تدلُّ هذه الأمثلة من كلام ابن جني على أهمية النَّبر والتَّنغيم فـي تغيُّر البنية السطحية، وخير دليل قـول ابن جني السابق:" فتزيد فـي قوة اللفظ بـ (الله) وتتمكَّن في تمطيط اللام، وإطالة الصوت بها وعليها "، هـو نطق الكلمة منغمة.
من هنا كانت إشارات ابن جني الذكية تدلُّ على أهمية التنغيم، فقد بين أنَّ ".. لفظ الاستفهام إذا ضامَّه معنى التَّعجب استحال خبرًا. وذلك قولك: مررتُ برجلٍ أيِّ رجلٍ. فأنت الآن مُخبَّرٌ بتناهي الرَّجل في الفضل، ولست مُستفهماً "[107]. والذي يدلُّ على ذلك إنَّما هو التَّنغيم الذي يجعل المُتحدِّث يمد صوته، عندما يقول: أي رجل، مستخدماً النَّغمة العالية المُنتهية بالمُنحدرة. ويظهر التَّنغيم جلياً عند التَحدُّث والنُّطق، وبالأخص عند إنشاد الشِّعر. فالأصلُ في اللغة أن تكون مُتحدَّثة ومنطوقة؛ لأنَّ النَّطق يأتي أولاً، والكتابة تمثل المرحلة الثانية، لأنَّها ما هي إلا صدى ومحاولة لرسم ما نطق. والكتابة غالباً ما تخفي بعض طرق النطق؛ كالنبر والتنغيم؛ لذا لجأ العلماء إلى وضع علامات ورموز عند الكتابة يسترشدون بها إلى النطق الصحيح.
كذلك يظهر أثر البناء المنطوق في التفسير الدلالي عند دخول النبر أو التنغيم، وهما من وسائل البناء المنطوق الدلالية، فقد يُحوُّل التنغيم الجملة من الخبر إلى الاستفهام، وقد يتوقَّـف فهم الجملة على ذلك التنغيم، " ويصبحُ التَّنغيمُ ـ وهو قرينةٌ صوتيةٌ ـ كاشًفا عن البنية العميقة "[108]. والتنغيم كما رأينا لا ينشئ علاقات نحوية ليست موجودة، ولكنه يختار بعض العلاقات النحوية القابعة تحت السطح المنطوق، ويظهر تأثيرها في التفسير.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|