
26-11-2021, 07:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,190
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (67)
صـ305 إلى صـ 312
المسألة الثالثة
قد تحصل إذا أن الضروريات ضربان :
أحدهما : ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود ، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الاقتيات ، واتخاذ السكن ، والمسكن ، واللباس ، وما يلحق بها من المتممات ; كالبيوع ، والإجارات ، والأنكحة ، وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية .
والثاني : ما ليس فيه حظ عاجل مقصود ، كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية ; من الطهارة ، والصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وما أشبه ذلك ، أو من فروض الكفايات كالولايات العامة ; من الخلافة ، والوزارة ، والنقابة ، والعرافة ، والقضاء ، وإمامة الصلوات ، والجهاد ، والتعليم ، وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام .
فأما الأول ; فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل ، وباعث من نفسه يستدعيه [ ص: 306 ] إلى طلب ما يحتاج إليه ، وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك ; لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه ، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب ، بل كثيرا ما يأتي في معرض الإباحة ، كقوله : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] .
فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] .
كلوا من طيبات ما رزقناكم [ البقرة : 172 ] .
وما أشبه ذلك ، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك ; لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب ، فهذا من الشارع ; كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية ، كما [ ص: 307 ] لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب ، وما أشبه ذلك .
فالحاصل أن هذا الضرب قسمان :
قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة ; كقيامه بمصالح نفسه مباشرة .
وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير ; كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد والاكتساب بما للغير فيه مصلحة ; كالإجارات والكراء ، والتجارة ، وسائر وجوه الصنائع والاكتسابات ، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه ، فيقوم بذلك حظ الغير ، خدمة دائرة بين الخلق كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا ، حتى تحصل المصلحة للجميع .
ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر ، وهذه حكمة بالغة ، ولما كان النظر هكذا وكانت جهة الداعي كالمتروكة إلى ما يقتضيه ، وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم ، بل هو على الضد من ذلك ; [ ص: 308 ] أكدت جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا ، والإيعاد بالنار في الآخرة ; كالنهي عن قتل النفس ، والزنا ، والخمر ، وأكل الربا ، وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل ، والسرقة ، وأشباه ذلك ; فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ، ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء .
وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه ; فإن عز السلطان ، وشرف الولايات ، ونخوة الرياسة ، وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه ، فكان الأمر بها جاريا مجرى الندب لا الإيجاب ، بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها ، وأكد النظر في مخالفة الداعي ; فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها ; كقوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص : 26 ] إلى آخرها .
وفي الحديث : لا تطلب الإمارة ; فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها أو كما قال .
وجاء النهي عن غلول الأمراء ، وعن عدم النصح في الإمارة ; لما كان [ ص: 309 ] هذا كله على خلاف الداعي من النفس ، ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل ، بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات .
وأما قسم الأعيان ; فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود ، أكد القصد إلى فعله بالإيجاب ، ونفيه بالتحريم ، وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية ، وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب [ الباعث عليه ، وغير المقصود وهو ما لم يكن مقصودا للشارع بوضعه السبب ] ; فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها ، ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها ، فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات ، بل هي خالصة لله رب العالمين ، ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 3 ] .
وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان ، ونخوة الولاية ، وشرف الأمر والنهي ، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع ، فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر ، وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا ، من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به ، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع ، بل هو مطلوب متأكد ، فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة ، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك ، وقد قال تعالى :
[ ص: 310 ] وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] الآية .
وقال : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] .
وفي الحديث : من طلب العلم ، تكفل الله برزقه .
إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق .
فصل
فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع ، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول [ ص: 311 ] يحصل فيه العمل المبرأ من الحظ .
وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولا من حظ نفسه وماله ، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة ، وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامة المعالم الدينية ، وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السماوات لهم ، ووضع القبول لهم في الأرض حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم ، وما يخصون به من انشراح الصدور ، وتنوير القلوب ، وإجابة الدعوات ، والإتحاف بأنواع الكرامات ، وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة : من آذى لي وليا ، فقد بارزني بالمحاربة .
وأيضا ; فإذا كان من هذا وصفه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه ; وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ، ويتكفلوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم ، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص ، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه ، وما له في الآخرة من النعيم أعظم .
وأما الثاني ; فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر ; فإن أكل المستلذات ، ولباس اللينات ، وركوب [ ص: 312 ] الفارهات ، ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة ، وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لا حظ فيه .
وأيضا ; فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير ، وإن كان في طريق الحظ ; فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه ، وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه ، وهكذا نفقته على أولاده وزوجته ، وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير عاقل ، وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب ، والله أعلم .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|