5- أن يكون بلَغه وفهم منه خلاف المراد:
ويُضرَب لذلك مثالان، الأول من الكتاب، والثاني من السُّنَّة:
فمن القرآن قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43].
حيث اختلف العلماء رحمهم الله في معنى: ﴿ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾، ففهم بعضٌ منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون أن المراد به اللمس المثير للشهوة، وفهم آخرون أن المراد به الجِماع.
ومن تأمَّل الآية يجد أن الصواب مع مَن يرى أنه الجِماع؛ لأن الله تبارك وتعالى ذَكَرَ نوعين في طهارة الماء: طهارة الحدث الأصغر والأكبر، ففي الأصغر قوله: ﴿ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6]، وأما الأكبر فقوله: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ﴾ [المائدة: 6]، وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يُذكر أيضًا موجبًا الطهارتين في طهارة التيمم، فقوله تعالى: ﴿ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِط ﴾ إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر، وقوله: ﴿ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر.
ومن السُّنَّة: ما ثبت في الصحيحين عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدَّة الحرب جاءه جبريل، فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرُج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال: "لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة".
وقد اختلف الصحابة في فَهم هذا الحديث، فمنهم مَن فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج؛ حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلمَّا حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها، ومنهم مَن فهم أن مراد رسول الله ألا يصلوا إلا إذا وصلوا إلى بني قريظة، فأخَّروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها، وإن كان الأقرب للصواب هم الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه، وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم.
6- أن يكون قد بلغه الدليل لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ:
ومثال ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ [البقرة: 240]، نسختها الآية وهي قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [البقرة: 234].
وقوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، نسختها الآية وهي قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].
ومن السنة: نسخ وجوب الوضوء لكل صلاة، ونسخ التطبيق بين اليدين، ووضعهما بين الركبتين إلى وضعهما على الركبتين، وثبت في الصحيحين أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعلم بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلَّى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبتيهما، ولكنه رضي الله عنه نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق.
7- أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع:
يمكن أن يمثل لذلك برأي ابن عباس رضي الله عنهما في رِبا الفضل؛ حيث ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الربا في النسيئة"، وثبت في صحيح مسلم من حديث عبادة بن الصامت وغيره: أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة، وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة، أما ابن عباس فبقي على رأيه بأن الربا يكون في النسيئة فقط، كما لو بعت صاعًا من القمح بصاعين يدًا بيد، فعند ابن عباس لا بأس بذلك؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط، وإذا بعت دينارًا من الذهب بدينارين من الذهب يدًا بيد، فعنده ليس ربا، لكن إذا أخَّرت القبض ولم يعطك البدل، فقد وقع الربا، والصحيح أن الربا قسمان، فلا بد من المثلية والتقابض في المجلس إذا بادلت الشيء بجنسه، بشرط أن يكون مما يجري فيه الربا.
8- أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالًا ضعيفًا[5]:
وهذا أمثلته كثيرة جدًّا؛ كاختلاف العلماء في الدعاء عند الفراغ من قضاء الحاجة: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"، وكاختلافهم في جلد الميتة إذا دبغ، ومدة المسح على الخفين، وفي صلاة التسبيح، والرمي قبل الزوال...إلخ.
رابعًا: آداب الخلاف:
هناك عدة آداب ينبغي مراعاتها عند الخلاف؛ منها:
1- الإخلاص لله والتجرد من الأهواء:
فأحيانًا ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات، ظاهرها أنها خلاف على مسائل علمية، أو قضايا فكرية، وباطنها حب الذات، واتباع للهوى.
2- التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف:
فالتعصب يعمي البصر، ويطمس البصيرة.
3- الإنصاف والعدل: قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
4- الرجوع إلى الحق عند تبيُّن ذلك وثبوته:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه إلى أبي موسى الأشعري: "ولا يمنعك قضاء قضيت فيه بالأمس، فراجعت فيه نفسك، فهُديت فيه إلى رشدك - أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع في الحق خير من التمادي في الباطل".
وفي الحديث الصحيح عند أبي داود وغيره عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه".
وعند أحمد، والترمذي، وابن ماجه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، ثم تلا: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58].
5- إحسان الظن بالآخرين.
6- الحوار بالتي هي أحسن، واختيار أرق التعبيرات وألطفها.
7- التركيز على الأصول قبل الفروع ونقاط الالتقاء والخلاف.
خامسًا: أمثلة على اختلاف السلف الصالح:
من ذلك ما روي أن علي بن أبي طالب رأى طلحة ملقًى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه، ثم قال: "عزيز علي أبا محمد أن أراك مجندلًا في الأودية، وتحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري"[6].
وقد اختلفت عائشة رضي الله عنها مع ابن عباس رضي الله عنه في رؤية النبي لربه، وفي الرضاع فرأى ابن عباس أن الرضاع بعد السنتين لا يحرم، بينما رأت عائشة خلافه، ومع ذلك لم يمنعهما هذا الاختلاف من التواصل والتراحم، فقد روى البخاري عن القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال: "يا أم المؤمنين، تقدمين على فَرَط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر"[7].
♦ وقد تمثل السلف هذا الخُلق من بعدهم، فقد أخرج القاضي عياض قال الليث بن سعد: لقيت مالكًا في المدينة فقلت له: إني أراك تمسح العرق عن جبينك، قال: عرقت مع أبي حنيفة، إنه لفقيه يا مصري، ثم لقيت أبا حنيفة وقلت له: ما أحسن قول ذلك الرجل فيك، فقال أبو حنيفة: والله ما رأيت أسرع منه بجواب صادق، ونقد تام يعني مالكًا[8].
♦ وعن الشَّافعي رضي الله عنه: "إذا جاءك الحديث عن مالك فَشُدَّ به يديك، وإذا جاء الأَثر فمالك النَّجْم، وعنه: مالك بن أنس معلمي وعنه أخذنا العلم"[9].
سادسًا: واجب العلماء والعامة عند ظهور الاختلاف:
الواجب على العلماء عند وجود الخلاف: أن يردوا العوام إلى الكتاب والسنة، وأن يتمسكوا بالدليل متى ما صحَّ، وكان في موضع النزاع، فرد الناس إلى الأدلة الشرعية نجاة المفتي والمستفتي، ودليل على الرسوخ في العلم، ولا يجوز الخروج عن دلالة النص الواضحة إلا بدليل، كنص يخصص عامًّا، أو يقيد مطلقًا، أو ينسخ آخر، وأما مراعاة المصالح والمفاسد، فمرد ذلك إلى الراسخين في العلم.
والواجب على عوام الناس: ألا يأخذوا دينَهم إلا عمن يُوثَق به ممَّن يدعو إلى الله على بصيرة، وليسمعوا لهم ويُطيعوا، إن أرادوا لأنفسهم الخيرَ والسعادة، وليعلموا أن العلماء في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، يهتدي بهم الحيران في الظَّلماء، وأن الحاجة إليهم أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، وأن طاعة أمرهم واجب؛ لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
سابعًا: كيفية التعامل مع المخالف:
أولًا: المخالف خلافًا سائغًا.
1- لا يجوز الحط من قدره؛ لأنه مجتهد ينشد الحق فهو على خير.
2- لا تجعل المسائل المختلف فيها اختلافًا سائغًا سببًا للنزاع والفرقة، والولاء والبراء[10].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الاختلاف في الأحكام، فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة"[11].
ثانيًا: المخالف خلافًا غير سائغ، فهو على حالتين:
الأولى: أن يكون من أهل العلم المشهود لهم بالخير، واتباعه للسنة، يناصح، ولا تنشر زلته، ولا يقلد فيها، ويحذر منها نصحًا للأمة، ولا يعتد بقوله ذلك في الخلاف بين العلماء[12].
الثانية: أن يكون من أهل الأهواء والبدع، أو المتجاسرين على الفتيا، فيناصح، ويُبين أمره للناس، ويهجر، ويحذر منه، ويعزر من قبل الحاكم بما يراه مناسبًا[13].
ثامنًا: من أهم الكتب التي صنفت في فن الخلاف:
1- التعليقة لأبي زيد الدبوسي الحنفي.
2- عيون الأدلة لأبي القصار المالكي.
3- المنهاج في ترتيب الحجاج لأبي الوليد الباجي المالكي.
4- المآخذ للغزالي الشافعي.
5- رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي.
6- الخلاف بين العلماء لابن عثيمين.
وهناك كتب معاصرة في غاية الأهمية، ككتابي العصيمي والشبيلي المشار إليهما أعلاه.
[1] القاموس المحيط ص 1045، والمصباح المنير ص69، وأصول الفقه الإسلامي لوهبه الزحيلي ص 492، ومفردات ألفاظ القرآن ص294.
[2] مجموع الفتاوى 19/ 122.
[3] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 156 ــ 168، وفقه الخلاف وأثره، للشبيلي ص 4 ــ 12.
[4] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أكثر من خمسة عشر صحابيًّا بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، ولذا عدَّه بعضهم من الأحاديث المتواترة.
[5] ينظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية ص 11 ــ 52، والخلاف بين العلماء لابن عثيمين ص 9 ــ 27.
[6] سير أعلام النبلاء (1/ 36)، والبداية والنهاية لابن كثير (7/ 258).
[7] أخرجه البخاري برقم 3560.
[8] الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء لابن عبدالبر (ص16).
[9] عمدة القاري (1/ 149)، وترتيب المدارك (3/ 179).
[10] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 107 ــ 108.
[11] مجموع الفتاوى لابن تيمية (124/ 173 ــ 174).
[12] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 214 ــ 2120.
[13] ينظر: الخلاف أنواعه وضوابطه للعصيمي ص 177.