عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 14-12-2021, 08:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,919
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى


تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
خُطْبَةُ الْمُصَنِّفِ
من صــ 71 الى صــ 75
الحلقة (10)


لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب ، وأن فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب ; كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط .

واختلفوا هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب ; فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب والطبري وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه ، وأن القرآن عربي صريح ، وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم ، وذهب بعضهم إلى وجودها فيه ، وأن تلك الألفاظ لقلتها لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا ، ولا رسول الله عن كونه متكلما بلسان قومه . فالمشكاة الكوة . ونشأ : قام من الليل ; ومنه : إن ناشئة الليل [ المزمل : 6 ] و يؤتكم كفلين [ الحديد : 28 ] أي ضعفين . و فرت من قسورة [ المدثر : 51 ] أي الأسد ; كله بلسان الحبشة . والغساق : البارد المنتن بلسان الترك ، والقسطاس : الميزان ; بلغة الروم . والسجيل : الحجارة والطين بلسان الفرس . والطور : الجبل . واليم : البحر بالسريانية . والتنور : وجه الأرض بالعجمية .

قال ابن عطية : " فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه . وقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات ، وبرحلتي قريش ، وكسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام ، وكسفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة ، وكسفر الأعشى إلى الحيرة ، وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة ; فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها ، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة ، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها ، حتى جرت مجرى العربي الصحيح ، ووقع بها البيان ; وعلى هذا الحد نزل بها القرآن . فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره ، كما لم يعرف ابن عباس معنى ( فاطر ) إلى غير ذلك . قال ابن عطية : " وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة فذلك بعيد ; بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر ; لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا " .

قال غيره : والأول أصح . وقوله : هي أصل في كلام غيرهم دخيلة في كلامهم ، ليس بأولى من العكس ، فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطبت بها أو لا ، فإن كان الأول فهي من كلامهم ، إذ [ ص: 71 ] لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم ، ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم ، وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة .

فإن قيل : ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه . قلنا : ومن سلم لكم أنكم حصرتم أوزانهم حتى تخرجوا هذه منها ; فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية ، وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطبهم الله بما لا يعرفون ، وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا ، ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم ، والله أعلم .
المعجزة واحدة معجزات الأنبياء الدالة على صدقهم صلوات الله عليهم ، وسميت معجزة لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها ، وشرائطها خمسة ، فإن اختل منها شرط لا تكون معجزة .

فالشرط الأول : من شروطها أن تكون مما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه . وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة لأنه لو أتى آت في زمان يصح فيه مجيء الرسل وادعى الرسالة وجعل معجزته أن يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد لم يكن هذا الذي ادعاه معجزة له ، ولا دالا على صدقه لقدرة الخلق على مثله ، وإنما يجب أن تكون المعجزات كفلق البحر ، وانشقاق القمر ، وما شاكلها مما لا يقدر عليها البشر .

والشرط الثاني : هو أن تخرق العادة . وإنما وجب اشتراط ذلك لأنه لو قال المدعي للرسالة : آيتي مجيء الليل بعد النهار وطلوع الشمس من مشرقها ، لم يكن فيما ادعاه معجزة ، لأن هذه الأفعال وإن كان لا يقدر عليها إلا الله ، فلم تفعل من أجله ، وقد كانت قبل دعواه على ما هي عليه في حين دعواه ، ودعواه في دلالتها على نبوته كدعوى غيره ; فبان أنه لا وجه له يدل على صدقه ، والذي يستشهد به الرسول عليه السلام له وجه يدل على صدقه ، وذلك أن يقول : الدليل على صدقي أن يخرق الله تعالى العادة من أجل دعواي عليه الرسالة ، فيقلب هذه العصا ثعبانا ، ويشق الحجر ويخرج من وسطه ناقة ، أو ينبع الماء من بين أصابعي كما ينبعه من العين ، أو ما سوى ذلك من الآيات الخارقة للعادات ، التي ينفرد بها جبار الأرض والسماوات ; فتقوم له هذه العلامات مقام قول الرب سبحانه ، لو أسمعنا كلامه العزيز وقال : صدق ، أنا بعثته . ومثال هذه المسألة - ولله ولرسوله المثل الأعلى - ما لو كانت جماعة بحضرة ملك من ملوك الأرض ، وقال أحد رجاله وهو بمرأى منه والملك يسمعه : الملك يأمركم أيها الجماعة بكذا وكذا ، ودليل ذلك أن الملك يصدقني بفعل من أفعاله ، وهو أن يخرج خاتمه من يده قاصدا بذلك تصديقي ; فإذا سمع الملك كلامه لهم ودعواه فيهم ، ثم عمل ما استشهد به على صدقه ، قام ذلك مقام قوله لو قال : صدق فيما ادعاه علي . فكذلك إذا عمل الله عملا لا يقدر عليه إلا هو ، وخرق به العادة على يد الرسول قام ذلك الفعل مقام كلامه تعالى لو أسمعناه وقال : صدق عبدي في دعوى الرسالة ، وأنا أرسلته إليكم فاسمعوا له وأطيعوا .

[ ص: 72 ] والشرط الثالث : هو أن يستشهد بها مدعي الرسالة على الله عز وجل ; فيقول : آيتي أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتا أو يحرك الأرض عند قولي لها : تزلزلي ; فإذا فعل الله سبحانه ذلك حصل المتحدى به .

الشرط الرابع : هو أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها المستشهد بكونها معجزة له ، وإنما وجب اشتراط هذا الشرط لأنه لو قال المدعي للرسالة : آية نبوتي ودليل حجتي أن تنطق يدي أو هذه الدابة فنطقت يده أو الدابة بأن قالت : كذب وليس هو نبي ، فإن هذا الكلام الذي خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعي للرسالة ، لأن ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه ، وكذلك ما يروى أن مسيلمة الكذاب - لعنه الله - تفل في بئر ليكثر ماؤها فغارت البئر وذهب ما كان فيها من الماء ، فما فعل الله سبحانه من هذا ، كان من الآيات المكذبة لمن ظهرت على يديه ، لأنها وقعت على خلاف ما أراده المتنبئ الكذاب .

والشرط الخامس : من شروط المعجزة ألا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدى على وجه المعارضة ، فإن تم الأمر المتحدى به المستشهد به على النبوة على هذا الشرط مع الشروط المتقدمة ، فهي معجزة دالة على نبوة من ظهرت على يده ، فإن أقام الله تعالى من يعارضه حتى يأتي بمثل ما أتى به ويعمل مثل ما عمل بطل كونه نبيا ، وخرج عن كونه معجزا ولم يدل على صدقه ، ولهذا قال المولى سبحانه : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين [ الطور : 34 ] وقال : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [ هود : 13 ] . كأنه يقول : إن ادعيتم أن هذا القرآن من نظم محمد - صلى الله عليه وسلم - وعمله فاعملوا عشر سور من جنس نظمه ، فإذا عجزتم بأسركم عن ذلك فاعلموا أنه ليس من نظمه ولا من عمله .

لا يقال : إن المعجزة المقيدة بالشروط الخمسة لا تظهر إلا على أيدي الصادقين ، وهذا المسيح الدجال فيما رويتم عن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يظهر على يديه من الآيات العظام ، والأمور الجسام ، ما هو معروف مشهور ; فإنا نقول : ذلك يدعي الرسالة ، وهذا يدعي الربوبية وبينهما من الفرقان ما بين البصراء والعميان ، وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق إلى بعض غير ممتنعة ولا مستحيلة ، فلم يبعد أن يقيم الله تعالى الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة .

ودلت الأدلة العقلية أيضا على أن المسيح الدجال فيه التصوير والتغيير من حال إلى حال ، وثبت أن هذه الصفات لا تليق إلا بالمحدثات ، تعالى رب البريات عن أن يشبه شيئا أو يشبهه شيء ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
إذا ثبت هذا فاعلم أن المعجزات على ضربين : الأول : ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - . والثاني : ما تواترت الأخبار بصحته وحصوله ، واستفاضت بثبوته ووجوده ، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة ; ومن شرطه أن يكون الناقلون له خلقا كثيرا وجما غفيرا ، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريا ، وأن يستوي في النقل أولهم وآخرهم ووسطهم في كثرة العدد ، [ ص: 73 ] حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب ; وهذه صفة نقل القرآن ، ونقل وجود النبي عليه الصلاة والسلام ، لأن الأمة رضي الله عنها لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف والسلف عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بالنبي عليه السلام المعلوم وجوده بالضرورة ، وصدقه بالأدلة المعجزات ; والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل ، فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة والنقصان ، ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه ويسمعونه ، لكثرة العدد ، ولذلك وقع لنا العلم الضروري بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ظهور القرآن على يديه وتحديه به . ونظير ذلك من علم الدنيا علم الإنسان بما نقل إليه من وجود البلدان ، كالبصرة والشام والعراق وخراسان والمدينة ومكة ، وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة الظاهرة المتواترة ; فالقرآن معجزة نبينا - صلى الله عليه وسلم - الباقية بعده إلى يوم القيامة ، ومعجزة كل نبي انقرضت بانقراضه ، أو دخلها التبديل والتغيير ، كالتوراة والإنجيل .

ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة :

منها : النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب وفي غيرها ; لأن نظمه ليس من نظم الشعر في شيء وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه : وما علمناه الشعر وما ينبغي له [ يس : 69 ] وفي صحيح مسلم أن أنيسا أخا أبي ذر قال لأبي ذر : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله ; قلت : فما يقول الناس ؟ قال يقولون : شاعر ، كاهن ، ساحر ; وكان أنيس أحد الشعراء قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة ، فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون . وكذلك أقر عتبة بن ربيعة أنه ليس بسحر ولا شعر لما قرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حم " فصلت ، على ما يأتي بيانه هنالك ; فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان وموضعه من الفصاحة والبلاغة ، بأنه ما سمع مثل القرآن قط كان في هذا القول مقرا بإعجاز القرآن له ولضربائه من المتحققين بالفصاحة والقدرة على التكلم بجميع أجناس القول وأنواعه .

ومنها : الأسلوب المخالف لجميع أساليب العرب .

ومنها : الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال وتأمل ذلك في سورة ق والقرآن المجيد [ ق : 1 ] إلى آخرها ، وقوله سبحانه : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة [ الزمر : 67 ] إلى آخر السورة ، وكذلك قوله سبحانه : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون [ إبراهيم : 42 ] إلى آخر السورة . قال ابن الحصار : فمن علم أن الله سبحانه وتعالى هو الحق ، علم أن مثل هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره ; ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول : لمن الملك اليوم [ غافر : 16 ] ، ولا أن يقول : ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء [ الرعد : 42 ] .

قال ابن الحصار : وهذه الثلاثة من النظم ، والأسلوب ، والجزالة ، لازمة كل سورة ، بل هي [ ص: 74 ] لازمة كل آية ; وبمجموع هذه الثلاثة يتميز مسموع كل آية وكل سورة عن سائر كلام البشر ; وبها وقع التحدي والتعجيز ، ومع هذا فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة ، من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة ; فهذه سورة " الكوثر " ثلاث آيات قصار ، وهي أقصر سورة في القرآن ، وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين : أحدهما : الإخبار عن الكوثر وعظمه وسعته وكثرة أوانيه ، وذلك يدل على أن المصدقين به أكثر من أتباع سائر الرسل . والثاني : الإخبار عن الوليد بن المغيرة ، وقد كان عند نزول الآية ذا مال وولد ، على ما يقتضيه قوله الحق : ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا [ المدثر : 11 - 14 ] ثم أهلك الله - سبحانه - ماله وولده ; وانقطع نسله .

ومنها : التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي ; حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه .

ومنها : الإخبار عن الأمور التي تقدمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله من أمي ما كان يتلو من قبله من كتاب ، ولا يخطه بيمينه ; فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها ، والقرون الخالية في دهرها وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه ، وتحدوه به من قصة أهل الكهف ، وشأن موسى والخضر عليهما السلام ، وحال ذي القرنين ; فجاءهم وهو أمي من أمة أمية ، ليس لها بذلك علم بما عرفوا من الكتب السالفة صحته ; فتحققوا صدقه .

قال القاضي ابن الطيب : - ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم ; وإذ كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار ، وحملة الأخبار ، ولا مترددا إلى المتعلم منهم ، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه ; علما أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي .

ومنها : الوفاء بالوعد ، المدرك بالحس في العيان ، في كل ما وعد الله سبحانه ; وينقسم : إلى أخباره المطلقة ، كوعده بنصر رسوله عليه السلام ، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه . وإلى وعد مقيد بشرط ، كقوله : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ التغابن : 11 ] ومن يتق الله يجعل له مخرجا [ الطلاق : 3 ] و إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين [ الأنفال : 65 ] وشبه ذلك .

ومنها : الإخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها إلا بالوحي ; فمن ذلك : ما وعد الله نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق [ التوبة : 33 ] الآية . ففعل ذلك . وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في إظهار دينه ، ليثقوا بالنصر ، وليستيقنوا بالنجح ، وكان عمر يفعل ذلك ; فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا ، برا وبحرا ، قال الله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم [ النور : 55 ] وقال : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ الفتح : 27 ] . وقال : [ ص: 75 ] وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم [ الأنفال : 7 ] وقال : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون [ الروم : 1 - 3 ] . فهذه كلها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلا رب العالمين ، أو من أوقفه عليها رب العالمين ، فدل على أن الله تعالى قد أوقف عليها رسوله لتكون دلالة على صدقه .

ومنها : ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام ، في الحلال والحرام ، وفي سائر الأحكام .

ومنها : الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي .

ومنها : التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف قال الله تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] .

قلت : فهذه عشرة أوجه ذكره علماؤنا رحمة الله عليهم ، ووجه حادي عشر قاله النظام وبعض القدرية : أن وجه الإعجاز هو المنع من معارضته ، والصرفة عند التحدي بمثله . وأن المنع والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن ، وذلك أن الله تعالى صرف هممهم عن معارضته مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله . وهذا فاسد ، لأن إجماع الأمة قبل حدوث المخالف أن القرآن هو المعجز ; فلو قلنا إن المنع والصرفة هو المعجز لخرج القرآن عن أن يكون معجزا ، وذلك خلاف الإجماع ، وإذا كان كذلك علم أن نفس القرآن هو المعجز ، لأن فصاحته وبلاغته أمر خارق للعادة ، إذ لم يوجد قط كلام على هذا الوجه ، فلما لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم ، دل على أن المنع والصرفة لم يكن معجزا . واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين : أحدهما : أنهم صرفوا عن القدرة عليه ; ولو تعرضوا له لعجزوا عنه . الثاني : أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في مقدورهم ; ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه .

قال ابن عطية : ( وجه التحدي في القرآن إنما هو بنظمه وصحة معانيه ، وتوالي فصاحة ألفاظه . ووجه إعجازه : أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما ، وأحاط بالكلام كله علما ، فعلم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ، وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ، ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن محيطا قط ; فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة . وبهذا النظر يبطل قول من قال : إن العرب كان في قدرتها أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة ، فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - صرفوا عن ذلك ، وعجزوا عنه . والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يضع خطبة أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ، ثم تعطى لآخر بعده فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ، ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر والبدل ، وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب أن يوجد أحسن منها لم يوجد .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.96%)]