عرض مشاركة واحدة
  #76  
قديم 19-12-2021, 04:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (76)
صـ401 إلى صـ 412

فصل

ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع ، وهي مسألة هبة الثواب ، وفيها نظر .

[ ص: 401 ] فللمانع أن يمنع ذلك من وجهين :

أحدهما : أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص ، وهو المال ، وأما في ثواب الأعمال ; فلا ، وإذا لم يكن لها دليل ; فلا يصح القول بها .

والثاني : أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب ، وقد نطق بذلك القرآن ; كقوله تعالى : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات [ النساء : 13 ] .

ثم قال : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [ النساء : 14 ] ، وقوله : جزاء بما كانوا يعملون [ الأحقاف : 14 ] .

[ ص: 402 ] ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل : 32 ] .

وهو كثير .

وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات ; كاستباحة الانتفاع بالمبيع مع عقد البيع ، واستباحة البضع مع عقد النكاح ; فلا خيرة للمكلف فيه ، هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل ، وإذا كان كذلك ; اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار ، ولا في يده منه شيء ، فإذا لا يصح فيه تصرف ; لأن التصرف من توابع الملك الاختياري ، وليس في الجزاء ذلك ; فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك ، كما لا يصح لغيره .

وللمجيز أن يستدل أيضا من وجهين :

أحدهما : أن أدلته من الشرع هي الأدلة على جواز الهبة في الأموال وتوابعها ; إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها ، وإما بالقياس عليها ; لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر ، فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر ، وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب ، لا يصح فيها غير ذلك ، فإذا كان كذلك ; صح وجود الدليل ، فلم يبق للمنع وجه .

والثاني : أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب ، وكالتوابع مع المتبوعات ، يقضي بصحة الملك لهذا العامل ; كما يصح في الأمور الدنيوية ، وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة .

لا يقال : إن الثواب لا يملك كما يملك المال ; لأنه إما أن يكون في الدار [ ص: 403 ] الآخرة فقط ، وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا ، وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] الآية ; فذلك بمعنى الجزاء في الآخرة ، أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه ، كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم ، فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته ، وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن .

لأنا نقول : هو وإن لم يملك نفس الجزاء ; فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى ، واستقر له ملكا بالتمليك ، وإن لم يحزه الآن ، ولا يلزم من الملك الحوز ، وإذا صح مثل هذا في المال ، وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها ; صح فيما نحن فيه ; فقد يقول القائل : ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان ، ويقول : إن اشترى لي وكيلي عبدا ، فهو حر أو هبة لأخي ، وما أشبه ذلك وإن لم يحصل شيء من ذلك ، في حوزه وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله ، وإن لم يعلم به الموكل ، فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل ; يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل ; فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب ، والله الموفق للصواب .
[ ص: 404 ] المسألة الثامنة

من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها ، والدليل على ذلك واضح ؛ كقوله تعالى : إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون [ المعارج : 22 - 23 ] .

وقوله : يقيمون الصلاة [ البقرة : 3 ] .

وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة ، وجاء هذا كله في معرض المدح ، وهو دليل على قصد الشارع إليه ، وجاء الأمر به صريحا في مواضع كثيرة ; كقوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 83 ] .

وفي الحديث : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل .

وقال : خذوا من العمل ما تطيقون ; فإن الله لن يمل حتى تملوا .

[ ص: 405 ] وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته ، وكان عمله ديمة .

وأيضا ; فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات ; من مفروضات ومسنونات ، ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب ; ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال ، وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا : فما رعوها حق رعايتها [ الحديد : 27 ] ، إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار .
فصل

فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات ، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق ، لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم ; فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب ، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه ، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا ؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين :

أحدهما : من جهة شدة التكليف في نفسه ، بكثرته أو ثقله في نفسه .

والثاني : من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا .

وحسبك من ذلك الصلاة ; فإنها من جهة حقيقتها خفيفة ، فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت ، والشاهد لذلك قوله تعالى : [ ص: 406 ] واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر ، واستثني الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة ; لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق ، والرجاء الذي هو حاد ، وذلك ما تضمنه قوله : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ البقرة : 46 ] الآية ، فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب ، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار ، والراجي لنيل مرغوبه يقصر عليه الطويل من المسافة ، ولأجل الدخول في الفعل على قصد الاستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج ، ونهي عن التشديد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : إن هذا الدين متين ; فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ; فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، وقال : من يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا يشمل التشديد بالدوام ، كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .
المسألة التاسعة

الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة ، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض ، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة ، والدليل على ذلك - مع أنه واضح - أمور :

أحدها : النصوص المتضافرة ; كقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] .

وقوله : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .

وقوله عليه الصلاة والسلام : بعثت إلى الأحمر والأسود .

[ ص: 408 ] وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة ، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره ; لم يكن مرسلا للناس جميعا ; إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به ; فلا يكون مرسلا بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا ، وذلك باطل ، فما أدى إليه مثله بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف ، فإنه لم يرسل إليه بإطلاق ، ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن ، فلا اعتراض به ، وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع ; فظاهر الأمر فيه .

والثاني : أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد ; فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة ، فلو وضعت على الخصوص ; لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق ، لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه ; فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص ، وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; كقوله : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إلى قوله : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] .

[ ص: 409 ] وقوله : ترجي من تشاء منهن [ الأحزاب : 51 ] الآية .

وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الاختصاص به بالدليل ، ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة ; فإنه راجع إليه عليه الصلاة والسلام أو غير راجع إليه ; كاختصاص أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق [ ص: 410 ] الجذعة ، وخصه بذلك بقوله : ولن تجزئ عن أحد بعدك ; فهذا لا نظر فيه ، إذ هو راجع إلى جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأجله وقع النص على الاختصاص في مواضعه إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الاختصاص .

والثالث : إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ولذلك صيروا أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة للجميع في أمثالها ، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم ; إما بالقياس ، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي ، أو غير ذلك من المحاولات ، بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به ، وقد قال تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] ; [ ص: 411 ] فقرر الحكم في مخصوص ليكون عاما في الناس ، وتقرر صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد ، لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة .

والرابع : أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس ; لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها ، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر ، وهذا باطل ، فما لزم عنه مثله ، ولا أعني بذلك ما كان نحو الولايات وأشباهها ; من القضاء ، والإمامة ، والشهادة ، والفتيا في النوازل ، والعرافة ، والنقابة ، والكتابة ، والتعليم للعلوم وغيرها ; فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها ، وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به ; فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم ، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق ، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها ; فالتكليف عام لا خاص ، [ ص: 412 ] [ وبسقوطه أيضا عام لا خاص ] من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى ، بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص ; كمراتب الإيغال في الأعمال ، ومراتب الاحتياط على الدين ، وغير ذلك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.39%)]