شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(باب صلاة العيدين)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (145)
صـــــ(1) إلى صــ(12)
أحكام أخرى متعلقة بصلاة العيدين
[استحباب تقديم صلاة لأضحى وتأخير صلاة الفطر]
قال رحمه الله: [وتقديم صلاة الأضحى] السنة تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عجل الأضحى، فكان يصلي الأضحى والشمس على قيد رمح، ويصلي الفطر والشمس على قيد رمحين، وهذا لحكمة أشار إليها بعض العلماء، وهي أنه في الأضحى يحتاج الناس إلى ذبح الأضاحي، والسنة في الأضحية والأفضل والأكمل أن يذبح الإنسان أضحيته في أول الضحى؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقولون: يصيب الناس السنة بالتعجيل بحصول هذه الشعيرة التي شرعت في يوم عيد النحر، وأما في الفطر فالناس يحتاجون إلى وقت كاف قبل الصلاة لكي يتمكنوا من إخراج صدقة الفطر، فتؤخر الصلاة إلى قيد رمحين حتى يتسنى للإنسان أن يجد الفقراء، وأن يحسن إليهم، وأن يؤدي زكاة الفطر قبل أن ينتهي وقت زكاة الفطر.
وبناء على ذلك قالوا: السنة في الأضحى أن يعجل وفي الفطر أن يؤخر، ولكن لا يؤخر تأخير مضرا بالناس.ولذلك أنكر عبد الله بن بسر رضي الله عنه وأرضاه على الإمام لما تأخر على الناس يوم العيد، وقال: (إنا كنا في هذه الساعة قد فرغنا من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: ما شأنه يتأخر عن الناس، وقد كنا في مثل هذا الوقت ننتهي من هذه الصلاة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنكارا عليه لمخالفته هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
قال رحمه الله تعالى: [وعكسه الفطر].ذلك لأن الناس يحتاجون إلى وقت كاف لكي يخرجوا صدقة الفطر، فإنها تنتهي بالصلاة، فإذا تأخر إلى طلوع الشمس قيد رمحين فإنه أبلغ في حصول التوسعة عليهم.
[استحباب الأكل قبل صلاة الفطر دون الأضحى]قال رحمه الله تعالى: [وأكله قبلها وعكسه في الأضحى إن ضحى] أي: السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قبل صلاة عيد الفطر، وأن يؤخر أكله في الأضحى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عجل فطره لكي يكون أبلغ في الخروج عن عبادة الصوم، فإنه قد ألف الناس الصوم، فكان عليه الصلاة والسلام يفطر على تمرات، فإن تيسر له أصاب التمرة والتمرتين والثلاث، فإنه فطر؛ لأن المراد به أن يفطر فيغدوا إلى المصلى، خاصة إذا كان إماما، وكذلك المأمومون يشرع لهم أن يفطروا على تمر ونحوه، ويكون شهودهم الصلاة وهم مفطرون، حتى يكون أبلغ في الامتثال والطاعة لله سبحانه وتعالى، فسبحان من أمرهم بالصيام قبل وهم اليوم مفطرون.ولكن السنة في الأضحى أن يؤخر فطره إلى أن يصيب أضحيته، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام، فلا يأكل حتى ينحر أو يذبح أضحيته، ثم يأكل من هذه الأضحية.
[كراهية صلاة العيدين في الجامع بلا عذر]
قال رحمه الله تعالى: [وتكره في الجامع بلا عذر] أي: يكره أن يصليها في الجامع وفي المدينة بلا عذر، ومفهوم ذلك أنه إذا وجد العذر فلا كراهة، كما فعل السلف الصالح ذلك حينما كان في يوم العيد مطر، فصلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
[استحباب تبكير المأموم لصلاة العيد وتأخر الإمام]
قال رحمه الله تعالى: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشيا بعد الصبح، وتأخر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة] قوله: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشيا بعد الصبح].
أي: يسن أن يبكر المأموم إلى صلاة العيد ماشيا بعد الصبح؛ لأن ابن عمر فعل ذلك، وغدا إلى الصلاة وبكر، وهذا أفضل لما فيه من إدراك فضيلة الصف الأول، ولما فيه من إدراك فضيلة انتظار الصلاة، وذلك أنه سيجلس في المصلى ينتظر الصلاة، وهذه زيادة قربة، ولما فيه من عمارة الوقت بطاعة الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه جل وعلا، فالأفضل له أن يبكر؛ لأنه مسابقة ومسارعة إلى الخير، وذلك مندوب إليه.فيغدوا إلى الصلاة مبكرا مكبرا لله عز وجل معظما، ويكثر من التكبير وذكر الله سبحانه وتعالى، ويرفع صوته بذلك أحياء لهذه الشعيرة في هذا اليوم، ويسن له أن يخرج على خشوع وسكينة ووقار، وألا يأخذه الكبر، خاصة أن يوم العيد يصحبه التجمل والتزين، فيتواضع لله عز وجل، ويحمد الله سبحانه وتعالى الذي كساه من عري، فلا يبطر نعمة الله بالتباهي، ولا يغدو على سبيل الكبر والخيلاء،
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).وهذا الحديث يدل على أن التبختر والتباهي إذا لبس الإنسان أحسن ما يجد، أو تجمل أنه من الفتنة له، ولذلك عد العلماء الاختيال في المشية والتكبر فيها أنه من كبائر الذنوب، لورود هذا الوعيد -والعياذ بالله- الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.فلذلك ينبغي للإنسان أن يتنبه لهذا، وأن يكون بعيدا في خروجه إلى المصلى عن الكبر والاختيال والتعالي على الناس، وإنما يخرج خاشعا متذللا لله سبحانه وتعالى، حامدا ذاكرا شاكرا لنعمة الله عز وجل وإحسانه عليه.وكذلك المرأة تخرج إلى صلاة العيد بعيدة عن الفتنة، فلا تتطيب طيبا يشم منها، لا تتزين زينة تفتن الناس، فإنه إن رجعت من الصلاة رجعت بوزر قد يكون أكثر من أجرها، وخير لمثل هذه التي تفتن وتفتن أن تلزم بيتها، فقرارها في بيتها خير لها من الخروج.ولذلك ينبه العلماء على أنه ينبغي الاحتياط واتقاء الفتنة، فليس أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشهود الصلاة مطلقا، ولكنه مقيد بالضوابط الشرعية، فينبغي المحافظة على ذلك في الملبس وفي الهيئة، وفي صفة الخروج، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [وتأخر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة].أي: ويتأخر الإمام فلا يخرج إلى المصلى إلا متأخرا؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا في الجمعة، فالأفضل له أن يأتي وقت الخطبة أو قريبا منه، إلا إذا كان بعيدا عن المسجد ويخشى من العوارض أو ما يطرأ عليه فيبكر بقدر، فهذا يقيد بقدر الحاجة، وإلا فالأصل من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يبكر قبل الجمعة، وكذلك أيضا قبل الصلاة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يمضي وقت الجمعة أو الصلاة.والسبب في هذا أن تكبيرهم -على أحد القولين- ينقطع عند رؤية الإمام، وهذا فعله بعض الصحابة، فكانوا إذا رأوا الإمام قطعوا التكبير،
ولذلك قالوا: الخروج سنة، وفيه شعيرة ويتصل به حكم.ولذلك ينبغي أن يتأخر خروجه إلى وقت الصلاة، ولا يسن في حقه أن يبكر وأن يمضي مع الناس وأن يجلس معهم في الصحراء؛ لأن ذلك أبلغ في الهيبة والإجلال للإمامة وتعظيمها، فيخرج عند دنو وقت الصلاة، ولا يقرب من المصلى إلا وقد أزف الوقت، بحيث يقيم للناس صلاتهم وشعيرة العيد.
ويخرج الإمام بأحسن ما يجد من الثياب؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى حلة حمراء وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله: ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة)، فلم ينكر عليه قوله: (تجمل بها للعيد والوفود).فهذا يدل على أنه كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يتجمل للعيد، وإنما أنكر كونها حمراء، على تفصيل سيأتي إن شاء الله في حكم اللباس الأحمر.فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه قصد التجمل لصلاة العيد،
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاغتسال يوم الجمعة ولبس أحسن الثياب وقال: (إنه عيد)، فدل على أنه يسن التنظف وإبداء الهيئة الحسنة في الملبس، حتى يكون ذلك أبلغ في شهوده للعيد على أكمل وأحسن حال.وكان صلى الله عليه وسلم يتجمل للعيد ويلبس أحسن ما يجد من الثياب، ولذلك ينص العلماء على هذه السنة، وهي أن الإمام يتجمل لصلاة العيد، فيلبس أحسن ما يجد، دون أن يبالغ في زينته، خاصة وأن الأئمة وأهل العلم قدوة لغيرهم.
وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستحب للأئمة والخطباء والوعاظ ومن يلي توجيه الناس أن يكون ملبسه وسطا بين الابتذال وبين الشهرة، أي: المبالغة، والسبب في ذلك أنه لو لبس لباس الأغنياء لم يستطع أن يقرب منه الفقراء، وإذا لبس لباس الفقراء امتهنه الأغنياء والعظماء، فلذلك يلبس الوسط؛ ولأنه إن كان متواضعا ولبس الغالي والنفيس فإن الفقير إذا جاء بجواره تضرر وشعر بالنقص بقربه منه لضيق حاله وضيق يده، ولذلك كان العلماء والأخيار يوصون بأنه ينبغي ألا يبالغ أهل الفضل وأهل العلم في زيهم، حتى لا يكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء مما يوجب نفرتهم وبعدهم عنهم.
قال رحمه الله تعالى: [إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه].أي: إلا المعتكف فيشهد العيد بثياب اعتكافه، وليس ثم نص يدل على هذا، وقد كان بعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إنه إذا شهد العيد بثياب اعتكافه فربما كانت نتنة فآذى الناس، وربما أضرهم، ثم إنه يتميز عن الناس بذلك، والذي يظهر أنه يشرع له أن يغتسل وأن يلبس أحسن ما يجد كغيره سواء بسواء، وليس ثم دليل يخص المعتكف بهذا الحكم، والأصل أن السنة للجميع -رجالا ونساء- أن يتطيبوا ويتجملوا ويكونوا على أحسن هيئة، دون فرق بين معتكف وغيره.
[شروط صحة صلاة العيدين]
شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي يحكم باعتبار صلاة العيدين، فقال رحمه الله: [من شرطها الاستيطان]، وقد تقدم أن الاستيطان يعتبر من شروط صحة الجمعة، وبينا حقيقة الاستيطان هناك، وعلى هذا فلا تصح صلاة العيد من مسافر؛ لأنه غير مستوطن، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركه عيد النحر وهو على سفر، وذلك في حجته للوداع صلوات الله وسلامه عليه ولم يعيد، وكذلك أيضا لما فتح مكة صلوات الله وسلامه عليه لم يعيد، فدل هذا على أنه من شروط صحة صلاة العيد أن يكون الإنسان مستوطنا.
قال رحمه الله تعالى: [وعدد الجمعة]: وذلك أنهم ألحقوا العيدين بالجمعة، وقد تقدم الكلام على اشتراط العدد لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه إذا تقرر أن الجمعة تصح بثلاثة فكذلك صلاة العيدين فإنها تصح بهذا العدد؛ لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تعين الأربعين، أو تعين اثني عشر رجلا، فحينئذ لو صلى ثلاثة وتوفرت فيهم باقي الشروط فإن عيدهم معتبر.
قال رحمه الله تعالى: [ليس منها إذن الإمام]: أي: لا يشترط لصلاة العيدين إذن الإمام، وهذا قول الجماهير رحمة الله عليهم، والعيدان أخص من الجمعة، وإن كان العيد يلتحق بالجمعة في مسائل وأحكام لكنه لا يأخذ الشبه من كل وجه، وعلى هذا قالوا: إنه لا يلتحق بالجمعة من هذا الوجه، أي: لا يشترط في صحة العيد أن يأذن الإمام به، فلو أن جماعة اجتمعوا في ضاحية المدينة، وكانوا مستوطنين وصلوا العيد، فإنه يجزيهم ذلك ويصح منهم، وتعتبر صلاتهم صلاة صحيحة.
[استحباب مخالفة الطريق]
قال رحمه الله تعالى: [ويسن أن يرجع من طريق آخر]: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يذهب من طريق ويرجع من آخر).واختلف العلماء في سبب ذلك، فقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب من طريق ويخالف في الرجوع فيرجع من طريق آخر، لكي يمر على أكثر عدد من المساكين والضعفاء، فيحسن إليهم -صلوات الله وسلامه عليه-، ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم، خاصة أن يوم العيد يندب فيه إدخال السرور على ضعفة المسلمين من المساكين والفقراء ونحوهم،
فقال أصحاب هذا القول: إن ذهابه عليه الصلاة والسلام -كما في حديث جابر - من طريق ورجوعه من طريق آخر يعتبر من هذا الوجه سنة يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتدى بهديه، وليست من السنن الخاصة به عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك فإنه يسن للإنسان إذا مضى للعيد أن يمضي من طريق وأن يرجع من طريق آخر، حتى يمر على عدد كبير من الضعفة والفقراء، فيحسن إليهم ويواسيهم، فهذا استحبه جمع من العلماء رحمة الله عليهم.لكن على هذا التخريج لو كان الإنسان راكبا دابته، أو على السيارة كما هو موجود في عصرنا اليوم، أو ما في حكمها، فإنه قد يتعذر عليه صلة المساكين والإحسان إليهم، فيكون أمر السنة فيه من هذا الوجه أضعف.
الوجه الثاني: قالوا: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ورجع من طريق آخر حتى تكون شهادة الخير له من الأرض أكثر، وذلك أن الأرض تشهد بما عليها من الخير، وتحب أن يوطأ عليها إذا كانت تلك الخطوة أو ذلك المشي في طاعة الله، كما قال سبحانه وتعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان:29]،
قالوا: إن العبد الصالح تبكيه الأرض من كثرة ما كان يعمل عليها من خير، وتبكيه السماء لما كان يصعد من عمله الصالح إلى الله جل وعلا، ويكون فقده على هذا الوجه موجب لبكاء السماء والأرض عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما مضى للعيد من طريق ورجع من طريق آخر، قصد من هذا أن تكثر الخطا على الأرض، فبدل أن تكون من طريق واحد وتكون الشهادة لطريق واحد، تكون الشهادة لأكثر من طريق، وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: (يا بني سلمة: دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم البعيدة عن المسجد، فإن الله عز وجل يكتب لكم هذه الآثار إلى طاعتكم.وأفضل الطاعات الصلاة،
فكأنهم يقولون: كون الإنسان يمضي لصلاة العيد من طريق ويرجع من طريق آخر يكون شهود الأرض له بأرض غير التي شهدت بذهابه، فهذا أفضل في الخير وأكثر، وعلى هذا الوجه تكون الفضيلة والسنة آكد لمن يمشي على قدميه لشهود الخير، ومن ركب على دابته فإنه دون ذلك.
الوجه الثالث: قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى العيد من طريق ورجع من طريق آخر من أجل أنه أرفق به عليه الصلاة والسلام، أي: أخف عليه، فكأنه ذهب من طريق لأنه أضيق، ورجع من طريق آخر لأنه أيسر في الرجوع، وبعض الطرق أخف في الذهاب ولكنه أثقل في الرجوع، وبعضها أخف في الرجوع ولكنه أثقل في الذهاب.والصحيح من هذه الأقوال الأول، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا أكثر من مرة، فلما دخل مكة دخلها عليه الصلاة والسلام من ثنية كداء من جهة القبور والمعلاة، وخرج من أسفلها، وإن كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية القبور التي تسمى الآن الحجون.
قالوا: والسبب في هذا أنه فعله من أجل إعزاز الإسلام، أي أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الهجرة متخفيا في ظلام الليل وسواده، ودخل في وضح النهار من أعلى مكة حتى يكون أبلغ في عزة الإسلام وإظهاره.
كذلك قال بعض العلماء: إنه ذهب للعيد من طريق ورجع من طريق آخر لإغاظة المنافقين، وذلك أن شعائر الإسلام تغيظهم، وكان المنافقون في المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتنطوي قلوبهم على ما لا خير فيه للإسلام والمسلمين، فقصد إغارة صدورهم.والصحيح أنه لكثرة شهود الخير، ولكثرة الإحسان إلى الناس، ويدل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى عرفات من طريق ضب، ورجع إلى المزدلفة من طريق المأزمين، وهذا سنة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره، وقد تكرر هذا في حجه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك أيضا في ذهابه للعيدين.
وبعض العلماء يقول: هذه سنة جبلية محضة، خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتأسى به، والصحيح أنها من السنن التي يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهبت إلى عرفات من طريق ضب، ورجعت من طريق المأزمين فإنك تكون مصيبا للسنة ومتأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرع الاقتداء والتأسي بمثل هذا.والسبب في هذا وأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يشرع التأسي به بالإجماع، ومنها ما يكون جبليا خاصا به، ومنها ما يحتمل أن يكون جبليا ويحتمل أن يكون هديا،
فهذا الفعل وهو ذهابه إلى العيد من طريق ورجوعه من طريق آخر اختلف العلماء فيه: فبعضهم يقول: هذا سنة جبلية لا يتأسى ولا يقتدى به فيه؛ لأنه أرفق به، فغيره لا يشاركه في هذا، وهذا قول ضعيف.والصحيح مذهب الجمهور أنه سنة يتأسى ويقتدى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع لك أن تذهب من طريق، وأن ترجع من طريق آخر لعمارة الطرق بذكر الله، ولكي تشهد لك الأرض بما يكون عليها من الخير.وقد أخذ العلماء من هذا سنة عامة،
فقالوا: إذا ذهبت إلى أي عمل خير كصلة رحم، وبر والدين، وطلب علم، ونحو ذلك من الخير فلتذهب من طريق ولترجع من طريق آخر؛ لأنك لا تزال في خير حتى ترجع إلى بيتك، فمن خرج إلى طاعة الله عز وجل فهو في طاعة، ويكون في رحمة الله حتى يرجع إلى مكانه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تكفل لمن خرج في سبيله -أي: للجهاد- لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي أن أدخله الجنة أو أرده إلى بيته بما نال من أجر أو غنيمة)، فهذا كله من ضمان الله عز وجل للعبد، فيشرع للإنسان إذا ذهب إلى طاعة أن يذهب من طريق وأن يرجع من طريق آخر.