عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 04-01-2022, 09:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,460
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نفحات قرأنية رمضانية

(نفحات قرأنية رمضانية)

نفحات قرآنية (27)
بخاري أحمد عبده




﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

إسار العقلانية، ونير العلمانية[1]:
استَسْلمنا لأرواح الحُرِّية التي تَسْترسل رخاءً حول آيات الصِّيام، تُفَتِّت وتَذْرو أثقال الهوى، والطِّين، والمادانية العمياء.

والهوى، والطين، والمادانية تتلاحم بِخَصائصها العنصريَّة، وتتوافَق بعلائقها الشيطانيَّة، وتتفاعل، ثم تُسبك أطواقًا، وتُصاغ سلاسل، وتَرتفع سجونًا تزهق فيها أنفاس الحرِّية الربَّانية التي تتيح للعبد أن يرشد، ويلطِّف، ويعلو ليحوز صلاحيَّات الخلافة في الأرض.

ورأينا في غيابة تلك السُّجون قطعانًا في غَفْلتها تَعْمَهُ[2] وتَمرح، وسمعنا نبيبَ التيوس يُصَلصِل معلِنًا عن حيوانيَّة دنيا، لا تَرُودُها[3] قِيَمٌ، ولا يَكْبَحها إيمان.

والأيادي التي تُمْسِك بزمام تلك التُّيوس، وتلعب بِها مثيرةً وموجِّهة، تَحرص على أن تحشو أديم[4] التيوس بِمُغالطات، وخدع تربِّيها[5]، وتذكِّيها عقدة النَّقص التي تستحكم في أعماق كثيرين منَّا متولِّدةً من الانتكاسة التي أصابت العرب والمسلمين منذ هجروا الدِّين، وجهلوا الدنيا، فخسروا الدَّارين.

ومن الحِيَل التي تَلعب بها القُوَى المضادَّة للإسلام: المبالَغة في تقدير العقل، حتَّى يُمسي ربًّا يُعبَد من دون الله، والبغي في تقديس العلم حتَّى يُخال إِلَهًا يُرجى من دون الله.

والعقل نورٌ روحانِيٌّ، وهو - بِحُكم كونه نورًا - يكشف لك العلومَ الضروريَّة والنَّظرية، وبِحُكم كونه روحانيًّا يأنس بالغيبيات التي جاءت في القرآن أو السُّنة الصحيحة، يَعْبر هذه الحياة المحدودة إلى حياةٍ أخرى لا تُحَدُّ.

وتجريد العقل من خاصيَّتَيْه، وجَعْلُه إليكترونيًّا بحتًا يحيله إلى قَيد يعقل[6] ويُحبَس في محيطٍ مَحدود، ويجرِّده من أجنحته التي يَضرب بها في الآفاق، وقوى العقل مستمَدَّة من كلِّ الطاقات التي ميَّز الله بها الإنسانَ من حواسِّه، ومداركِه، ومشاعره، ومُخِّه، وقلبه وروحه، فإذا عدَدْنا العقل جهازًا قائمًا بنفسه مستقِلاًّ، فقد أوغلنا في الشَّطَط.

والإنسان بكلِّ قُوَاه محدودُ الزَّمان والمكان، والعقل جانبٌ من جوانب هذا المحدود، أمَّا ملَكُوت الله بشهادتِه وغَيْبه، ودنياه وآخرته، فغير محدود، والله الذي لا يكلِّف نفسًا إلاَّ وسعها لَم يكلِّف العقل أن يتجاوز حجمه، ولكنَّه أطلق له العنان - كي ينشط - في عالَم الشَّهادة، وكفاه سبحانه عالَم الغيب، وتكرَّم فعرض أمامه من قضايا الغيب ومَشاهدِ القيامة، ومن تاريخ ما قَبْل التَّاريخ ما عرَض.

وواجِبُ العقل أن يَنظر، ويَسْبر، ويستقرئ، ويَفرض الفروض، ويُحقِّق النَّظريات في مَجالاته الدُّنيوية، أمَّا واجبه حيالَ الغيبات التي صحَّت فهو أن يَخشع ويؤمن، ولا بأس من أن يتبصَّر ويُحاول أن يجد علَّة، أو يستنبط حِكمة، أمَّا أن يَزِنَ بِقُواه الثَّابت الصحيح، فيَقبل إن وافق الهوى، ويردّ إن لَم يوافِق، فهذا هو الجموح المُرْدي، وهو العقلانيَّة المرفوضة.

والعلم وليد القُوَى العقليَّة، فهو - كأصله - مَحْدود، وصدق الله: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، ومَحصولنا العلميُّ أهون من أن نقدِّر به كلَّ حقائق الدِّين، والمولى - جلَّ وعلا - يصنع للإنسان، ويَجبر قصورَه العلميَّ، فيعلِّمه من شؤون دينه، وشؤون حياته الأخرى ما به قوام أمرِه، وصلاحُ حياته.

وانتفاخُ الإنسان بِهذا العلم الضَّئيل الذي يُتاح له ظاهرة مرَضيَّة تنذر بالدَّمار ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ [يونس: 24].

وكمال الإنسان وجمالُه في أن يبحث ويتعلَّم عِلم الدُّنيا والآخرة، وأهليَّة الإنسان للخِلافة تعظم أو تقصر بِمِقدار ما حقَّق من علم مُورَث للتَّقوى ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، أمَّا العلم الذي ينفخ الأوداجَ، ويُطغي ويُنسي، فهو عِلم قارونِيٌّ قد يُضْفي بريقًا محدودًا، وقد يكفل مكانةً مؤقَّتة، ومتاعًا قليلاً؛ ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾ [النساء: 77].

والحديث عن رقِّ العقلانيَّة، ورقِّ العلمانية حديث يطول، والذي يهمُّني أن أشير إلى قوم يتشدَّقون بالعقل، والعلم، ويُحكِّمونهما في مثل قصَّة الإسراء والمعراج؛ يُنكرون، ويَرُدُّون، ويتندَّرون بالإسلام، وبالمسلمين الذين يردِّدون كالبَبْغاوات أساطيرَ ينبذها القرنُ العشرون، ويَرْكلها العقل، وينسفُها العلم المعبود!

ولقد قلنا: إنَّ هؤلاء موجَّهون مدفوعون بقوة نَفْخ الأعداء، وبتفاعل السُّموم التي حشيت بِها بواطنهم؛ ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [النحل: 107 - 109].

إنَّ هؤلاء يهرُّون كالكلاب المسعورة خلف الإسلام وقِيَمه، ويفقدون الصَّواب كلَّما رأوا مبادئَ الإسلام تستأثر باهتمامات الشَّباب، ويفزعون كلَّما لمَحوا في وجوه ساداتِهم ما ينمُّ عن التبَرُّم من اتِّساع المدِّ الإسلامي، وهؤلاء إذْ يَنطلقون في كل اتِّجاه، ويَعْوون، يضمُّ أعناقَهم حبلٌ طويل، طرَفُه الآخَر في قبضة القوى المضادَّة للإسلام، فهم ليسوا أحرارًا، وإن زعموا أنَّهم ينطلقون من قاعدة الفكر الحُر، كيف وهم مُعبَّؤون بشحنات مستورَدة؟!

وليتَ هؤلاء المتشدِّقين بالقرن العشرين يَعُون مغزى تصنيف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للقرون تصنيفًا تنازُليًّا، وذلك في حديث شريفٍ متَّفق عليه: ((خير أمَّتِي قرني، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم إنَّ بعدهم قومًا يَشهدون ولا يُستشهدون، ويَخونون ولا يُؤتَمنون، ويَنذرون ولا يُوفون، ويَحلفون ولا يُستحلفون، ويظهر فيهم السِّمَن)).

وهذه كلُّها صفات تدلُّ على الاضطراب والخِفَّة والطَّيش، ووطأة السَّمَانة التي تَعتريهم، تحطُّ بهم، وتُفقدهم الهمَّة، وتحبسهم طيَّ رغبات الجسد المليء الجسيم، وهي - بعدُ - سَمَانةٌ جَوفاء يَملؤها الرِّيح:
أُعِيذُهَا نَظَرَاتٍ مِنْكَ ثَاقِبَةً
أَنْ تَحْسَبَ الشَّحْمَ فِيمَنْ شَحْمُهُ وَرَمُ

(المتنبِّي)


وأولئك المنتفخون هم صنائع الشَّيطان؛ فالشيطان منذ أضحى في الملَكوت مذمومًا مدحورًا يُتابع الزَّفرات، ويواصل النَّفخ مستهدِفًا:
1 - إطفاءَ نورِ الله.

2 - ملْءَ تجاويف بعض جنوده بزفيره؛ حتَّى يُرَوْا - بالبناء للمجهول - جِسامًا مترهِّلين:
(أ) يغرون بِمَنظرهم.

(ب) وكي يسدُّوا مسدَّ الطَّبل حين يَبدو للشَّيطان أن يدقَّ ويثير.

(جـ) وحتَّى يَغدوا أفواهًا للشَّيطان، يُفرغون ما اختُزِن - بالبناء للمجهول - في أجوافهم مِن ريحٍ على مصادر نور الله، وموارد دِينه.

(د) وهؤلاء - بِحجمهم المنتفخ - لعبة الشَّيطان، ومُتعة رجلَيه، يُدحرِجهم بينهما، ويَقذف بهم نحو أهدافه التي منها ما ذكَر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَشهدون ولا يُستشهدون، ويحلفون ولا يستحلفون، ويخونون ولا يؤتمنون...)) إلخ؛ يَخونون الله ورسولَه، ويشهدون زورًا ضدَّ الإسلام، ويحلفون ضرارًا، وتغريرًا وتفريقًا بين المسلمين.

الفراغ الفكري والغزو الفكري:
في "صحيح مسلم" عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لَمَّا صوَّر الله آدمَ في الجنَّة تركه ما شاء أن يَتركه، فجعل إبليسُ يطيف به؛ يَنظر ما هو، فلمَّا رآه أجوَف، عرف أنَّه خُلِق خلقًا لا يتَمالك)).

ولعلَّ الملائكة الكِرَام حين أفصحوا عن الدَّهشة والعجز عن اكتِناهِ[7] الحِكمة في اصطِفاء آدم بقولِهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30]، لعلَّهم نظروا إلى هذا الفراغ الأجوف الذي أُقِيم عليه آدم، هذا الفراغ الذي لا يتيح لصاحبه أن يتمالك، فوق أنَّه عُرْضة لأنْ يَمتلئ بأيِّ شيء؛ بالطَّاهر والنَّجس، والنَّظيف والقذر، كالحفرة التي تَستقبل كلَّ عارض، وتبتلع أيَّ وارد.

والحقُّ أنَّ الخَواء[8] الأجوف واحة الشيطان، يَخَبُّ[9] فيه ويضع، ويَبِيض ويفرِّخ، ويتَّخِذه محطَّ رحالِه، ومُختزَنَ آصارِه وأغلالِه، والفراغ متنفَّس المستعمِرين، ومَجال الغَزْو الفكريِّ.

والمولى الذي اصطفى آدمَ خليفةً لَم يكن ليتركه نَهْب هذا الفراغ البلوع، فلا عجب إذا سدَّ الله الفراغ، وحشا التجويف بعِلم لا يعلم كنهَه غيْرُ الله: ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 - 33].

الفراغ إذًا مَتاهةٌ مضِلَّة، ومَطْرح لشباك الغازين، وهوَّة تحجب الأضواء، وتخنق الأنفاس.

والفراغ هو عينُ الجاهلية التي كان العرب يُقاسونَها قبل الإسلام.

وهذا الفراغ الذي ضاعف من وحشتِه عقدةُ الأُمِّية التي أورثَت العرب ما نسمِّيه اليوم بِمركب النَّقص، استغلَّه اليهودُ أسوأ استغلال، فحشَوْه بالغثِّ، وهالوا عليه من قُماماتِهم، وأباطيلهم ما ظَنُّوه يكفل لهم الْهَيمنةَ، وسَوْقَ العرب كما تُساق الأنعام.

والقرآن الكريم وهو يواجه الغَزو الفكريَّ المعتمِدَ أساسًا على الفراغ الفكريِّ قام بعمليتَيْن مترابطتين:
1) بِنَزح ما تراكَم في الأعماق من أباطيلِ أهل الكتاب.

2) وبِشَغل ما كان - أو ما نَجم - مِن فراغٍ ببدائِلَ ذات شعاع يَشفي ويُضيء، بدائل دسمة تغذِّي، وتروي، وتَملأ الفراغ.

أمثلة هادية:
1 - تحريرًا من وطأة الفراغ بدأَتْ سورة البقرة بالإشارة إلى الكتاب بأداةٍ تُوحي برِفْعة المَنْزلة ﴿ ذَلِكَ ﴾، ثم جاءت كلمة ﴿الْكِتَابُ﴾ مُحلاَّةً بـ "أل" الموحية بالاستغراق والْهَيمنة، والاستئثار - دون الكتب الأخرى المتداوَلة - بكلِّ معطيات كلمة "كتاب"، والأوصافُ التي تبِعَت الموصوفَ "الكتاب" تؤكِّد هذه المعاني، وتبيِّن سِرَّ تَميُّزِه عن كلِّ الكتب المتداوَلة، وهو انفراده بأنه ﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾، وبأنَّ تذوُّقه التذوُّقَ الكامل حظُّ المؤمنين المتقين ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2].

وهذا الأسلوب - بكلِّ جزئياته الهادفة - فوق ما يَحمل من هدايات؛ صلصلة مُثيرة كتلك التي كانت تواكب الوحي؛ تنبيهًا، وتَهيِئةً لنفس الرَّسول، واستخلاصًا لوجدانه من كلِّ ما يشغل.

والإشادة بالكتاب على هذا النَّحو تشدُّ الانتباه، وتثير الأذهان المتعثِّرة في فراغ الأُمِّية، ومتاهات الجاهلية، فما أشبهَ هذا الأسلوب الوجيز البليغ بِحَبل الإنقاذ تُدلِّيه إلى مُتردٍّ في بئرٍ سحيقة؛ ليتحسَّس، ويتعلَّق، ويلتَمِس أسباب النَّجاة من الوهدة الخانقة! فإذا ضمَمْنا إلى هذا ما تُحْدِثه الأحرف المتقطِّعة (أ ل م) من إثارةٍ وصلصلة زائدة، عَلِمنا مدى اهتمام القرآن بانتشال الهائمين في درب الفراغ.

وتبلغ عمليَّة الانتشال مبلغَها بآيتَيِ التحدِّي: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 23 - 24].

وعندئذٍ تشرئِبُّ الأعناق، وتتطلَّع الأفئدة، وتُعاد - بالبناء للمجهول - الحِسابات، ويعظم الإحساس بوطأة الفَراغ، وضرورة التِماس المَخرج، والمَخْرج يتمثَّل في هذا الحبل الممدود في هذا الكتاب الذي يلوح كما تلوح المنائر لِمُبحرين فقَدوا الهدى في يَمٍّ متلاطمِ الأمواج.

2 - وفي طريق عمارة الفراغ العميق يَنْزع القرآن من التاريخ، ومن تاريخِ ما قبْلَ التاريخ؛ حتَّى تصحَّ المعلومات، وتَتِمَّ دائرة المعارف التي تُحَدِّد الموقف العلميَّ، وتكوِّن التربة التي تَحْتضن جذور الشَّجرة الطيِّبة الوارِفة الظِّلال.

تَعْرض السُّورة قصة الحوار العلويِّ، وتعكس أصوات الملأ الأعلى، وتُبْرِز نُشوزَ إبليس، وفسقَه عن أمر ربِّه؛ كي نشكر، ونقدِّر، ونَحْذر من أن نتَّخِذ إبليس وذرِّيتَه أولياء من دون الله، واقرأ في هذا مِن قوله سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ... ﴾ [البقرة: 30] إلى قوله تعالى: ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38].

ومن هذا تلك النَّظرات السَّديدة في المُجتمع، وتلك الدِّراسة الثَّاقبة التي تقلب الناس، وتبيِّن أنماطهم، ونفسياتِهم واتِّجاهاتهم، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ... ﴾ [البقرة: 8]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ... ﴾ [البقرة: 165]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ... ﴾ [البقرة: 204]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ... ﴾ [البقرة: 207].

فالنَّاس هم رُفَقاء الطَّريق، وأبطال مَسرح الحياة، والعملة الحيويَّة، وسياسة الناس تنبني على معرفة الناس فهم المَحك، والمسلمون أخرجوا للنَّاس قاطبة، ودينهم يوفِّر لهم دراساتٍ شافية؛ حتَّى لا يُنشئوا احتكاكهم ومعاملاتِهم على فراغ.

3 - وتَسْبح السورة بالمؤمنين سَبحًا طويلاً عَبْر الكائنات والكون؛ تدريبًا على النَّظر، والاستقرار والتَّحليل، وتعميقًا لروافد الإيمان، وطردًا لِما تكدَّس من أوهامٍ ولَّدها الفراغ الرهيب:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21 - 22].

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 29].

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164].

4 - وتعرض السُّورة ما تعرض من تاريخ الأُمَم وكِفاح المرسلين؛ كي تَستقيم المعلومات التاريخيَّة سدًّا ضد الأساطير والخرافات التي تنعق في الفراغ نعيقَ البُوم في الخرابات ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾ [البقرة: 54]، [البقرة: 67].

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ [البقرة: 124]، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ [البقرة: 243]، ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ﴾ [البقرة: 246].

5 - وأمدَّ سبحانه بشرائِعَ قويمةٍ تَملأ الفراغ، وتضبط الحياة، وتشدُّ أواصر الأسرة، وتَحْكم العلاقات الاجتماعيَّة بشرائع تناولَت الأحوال الشخصيَّة؛ مِن نكاحٍ، وطلاق، وإرضاع، ونفَقة... إلخ، والأمراض الاجتماعية؛ من خمرٍ، وميسر، وعدوان... إلخ، والأحوال الاقتصاديَّة؛ من ديون، ورهن، وربا، وصدقات، وزكاة... إلخ، والعلل النَّفسية من جزَع، وجُبْن، ونَهَم، وأثَرة، وكتمانٍ للحقِّ... إلخ، والحيل النفسية التي تدفع إلى إعلاء الصَّوت بالأمر والنهي، دون أن نأتَمِر وننتهي: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 44].

إلى غير ذلك من المعارف الدسمة التي تسدُّ الخَصاصة، وتملأ خواءَ العقيدة، والفِكر، والوجدان.


[1] الإسار: القَيد، والنِّير: خشبةٌ تُوضع على عنق الثَّور، فتَحُدُّ حركته.

[2] تتخبَّط.

[3] تَنظر وتَطْلب.

[4] جِلْد.

[5] تَزِيدها وتنمِّيها.

[6] عقَلَ الرَّجلُ البعيرَ: إذا شدَّ ساقَه إلى ذراعه.

[7] الاكتِناه: بلوغ الكُنْه، والكُنه: جوهر الشَّيء، ووَقته، وغايته.

[8] الخواء: الفراغ.

[9] يغشُّ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.62 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.95%)]