عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 05-01-2022, 05:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,264
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقرير: موقعة القادسية.. دروس وعبر في مواجهة المحن

حذيفة بن محصن يخاطب رستم
في اليوم التالي يبعث رستم برسالة إلى زهرة بن الحُوِيَّة يقول له: أرْسِلْ إلينا الرجل الذي كان عندنا. فيرسل زهرة بذلك إلى سعد بن أبي وقاص، فيقول له سعد: بل أرسل له اليوم آخر. فيرسل له حذيفة بن محصن الذي كان قائد الجيش الثامن من جيوش حروب الردة التي ذهبت لقتال مرتدي عُمَان في عهد أبي بكر الصديق t، فيدخل عليه وهو راكب فرسه، فقالوا له: انزل من على فرسك. فقال: لا، والله لا أنزل؛ أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رجعت. نفس كلام ربعي بن عامر، ودخل حذيفة بجواده يمشي به على البُسط، وظل راكبًا حتى وصل إلى رستم. ولنا أن نتخيل هذا الموقف: حذيفة فوق حصانه يكلمه، فقال له: انزل. فقال: لا أنزل؛ أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رجعت. فقبل رستم أن يحدثه فوق حصانه، وهو يمشي على سريره المذهب!! وبدأ يخاطبه، فقال له: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبك؟ يقصد ربعي بن عامر، فقال له: إن أميرنا يعدل بيننا في الرخاء والشدة، وهذه نوبتي. أي أن كل واحدٍ في جيش المسلمين له دور، وهذا دوري، وأميرنا يوزع علينا الأمور بالتساوي. فقال له: ما جاء بكم؟ فقال له: إن الله مَنَّ علينا بدينه، وأرانا آياته فعرفناه، وكنَّا له منكرين، ثم أمرنا بدعاء الناس إلى ثلاث فأيُّها أجابوا قبلناه: الإسلام وننصرف عنكم، أو الجزاء (أي الجزية) ونمنعكم إن أردتم ذلك، أو المنابذة. فقال له رستم: أو الموادعة إلى يوم ما؟ أي من الممكن أن تعطينا فرصة؛ فقال له: نَعَمْ، ثلاثة أيام. فقال: إذن تقاتلونا في اليوم الرابع. فقال: ثلاثة أيام من أمسِ (وهو اليوم الذي تحدث فيه مع ربعي بن عامر)؛ وعلى ذلك فقتالكم في اليوم الثالث.
وعلى الفور اضْطَرب رستم اضطرابًا شديدًا، ونظر إلى قومه، فعلم القوم ما يدور في ذهنه (فهذان الاثنان متفقان في الرأي والتفكير، وهذا ما أوقع الرعب في قلبه)، فأراد رؤساء القوم أن يخففوا من هول الموقف عليه، وأن يُثبتوا له أن هؤلاء القوم ليس لهم قوة أو خبرة بالحروب؛ فقالوا لحذيفة بن محصن: ما هذا الذي تحمله؟! فأخرج سيفه كأنه شعلة من نار؛ فصرخ رستم في وجهه: أَغْمِدْه. فأغمده بعد أن رأى الرعب في أعينهم، ثم أقاموا له درعًا من دروعهم، فأطلق فيه سهمًا فخرقه، ثم أقام لهم جحفته وكانت من جريد النخل، فأطلقوا عليها سهامهم، فسلمت؛ فقال لهم: يا قوم فارس، إنكم عظَّمتم الطعام والشراب وعظمتم اللهو، ولم نعظمهم؛ فعَظَّمَنا الله وصغَّرَكُم. أي: كانت هذه الأشياء منتهى تفكيركم، ولم نكن نحن كذلك؛ فلذلك منحنا الله I قوة تجعل سهامنا تخترق أي درع من دروعكم، ولا تخترق سهامكم دروعنا حتى وإن كانت من جريد النخل؛ ثم رجع حذيفة بن محصن إلى المسلمين، وعاد رستم يجادل قومه مرة أخرى، كما جادلهم من قبل بعد حديث ربعي بن عامر.
المغيرة بن شعبة يخاطب رستم:
في اليوم الثالث يطلب رستم رجلاً آخر يتحدث معه، فيرسل له سيدنا سعد بن أبي وقاص سيدنا المغيرة بن شعبة. ونحن نعلم أن سيدنا المغيرة يعرف الفارسية، ولكنه لم يخبرهم بذلك، وجعل المترجم يمشي بينهم حتى يسمع ما يقولون، وينقل هذا الكلام إلى المسلمين بعد ذلك؛ فدخل عليه المغيرة بن شعبة -وكما ذكرنا من قبل رجل دخل عليه برمحه وقد خرق البسط في طريقه حتى وصل إليه، وآخر دخل بفرسه إلى أن انتهى إليه، وهذا قد ترك حصانه بالخارج؛ ففرحوا وظنوا أنه لم يكن مثلهما- وظل يمشي حتى وصل إليه، فجلس بجانبه على السرير المُذهَّب، فصرخوا في وجهه إذ الفُرْسُ جميعهم يقفون بعيدًا جدًّا عن رستم، وهذا يجلس بجانبه! هذا أمر لا يُصَدَّق؛ فقامت الحاشية بسرعة لكي تجذبه من مكانه، فقال لهم: أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أحب، وإلا رجعت. فقال لهم رستم: صدق. وتركه، فقال لهم المغيرة بن شعبة: واللهِ جلوسي جنب أميركم لم يزدني شرف، ولم ينقصه شيء، والله يا أهل فارس إنَّا كانت تبلغنا عنكم الأحلام (أي نسمع عنكم أنكم عقلاء)، ولكني أراكم أسفهَ قوم، وكان أجدرَ بكم أن تقولوا لنا إنما يعبد بعضكم بعضًا (أي أنتم في تقديسكم لرستم كأنكم تعبدوه)، ولكننا نتواسى ولا تتواسَوْا (أي: يُوجَدُ بيننا رحمة ومودة وألفة وهذا عكس ما أنتم عليه)، واللهِ الآن أدركتُ أن أمركم مضمحلٌّ، وأن أمر الغَلَبَة والملك لا يقوم على مثل ما أنتم عليه. فسمع الحاشية من خلفه وهي تقول: واللهِ صَدَقَ العربي. فأهل فارس والجند والحاشية يشعرون بهذا الكلام، فهم بالفعل كأنهم يعبدون رستم ويزدجرد والقادة، كما أن بداخلهم سخطًا شديدًا على هؤلاء القادة، ولكنهم لا يستطيعون أن يعلنوه، ثم أخذ الرؤساء يحدث بعضهم بعضًا يقولون: ما أحمقَ أَوَّلِينا (أي جدودنا) عندما كانوا يُصَغِّرُون أمر هذه الأمة!! فأراد رستم أن يخفف من تأثير أفعال الحاشية مع المغيرة حتى لا يغضب؛ فقال له: يا عربي، إن الحاشية قد تفعل شيئًا لا يرضى عنه الملك، ولكنه يتجاوز حتى لا يكسر حاشيته. ثم بدأ يسخر من سلاحه (وهذه آخر فرصة لرستم، فإذا خرج من عنده، ولم يحدث بينهما اتفاق، فالمعركة ستقع لا محالة؛ فقال في نفسه: إن المسلمين لا يوافقون على الصلح؛ فلأعمل على إضعاف قوتهم وعزيمتهم، وأحاول أن أخوِّفَهم)؛ فقال له: يا هذا، ما هذه المغازل التي تحملها؟ يقصد سهامه القصيرة التي تشبه مغازل الصوف في نظره، وكانت سهام الفرس طويلة جدًّا تعرف بالنشاب؛ فقال له المغيرة بن شعبة: ما ضَرَّ الجمرةَ أن لا تكون طويلة. أي أن كرة النار لا يضرها صغرُها، فإذا ألقيت على شخص قتلته وحققت الهدف منه، فليس بالضرورة أن تكون طويلة؛ ورماهم كما رماهم من قبلُ حُذَيفة، فأحضروا له درعًا من دروعهم، فرماه بسهم من سهامه التي يقولون عنها مغازل، فاخترقه، ولم تخترق سهامهم جحفته؛ فهَزَّ ذلك رستم، ثم حاول أن يتماسك، فقال له: ما بالي أرى سيفك رَثًّا؟ أي مظهره قديم وضعيف؛ فقال له: رَثُّ الكسوة، ولكنه حديد الضربة. ثم قال له: تتكلم أو أتكلم؟ فقال له: أنت دعوتني فتكلَّمْ. فتكلم رستم قائلاً: لم نزلْ متمكنين في الأرض، وظاهرين على الأعداء؛ نُنصر ولا يُنصر علينا إلا اليوم واليومين، والشهر والشهرين؛ لِلذُّنوب (سبحان الله! هذا مفهوم رستم عن القتال، وقد لا يكون عند كثير من المسلمين، فهو يعلم أنهم يهزمون بسبب كثرة اقترافهم للذنوب)، فإذا رضي الله عنا رَدَّ لنا بأسنا وجَاهَنَا، ومَلَّكنا على من ناوأنا (أي هذه طبيعتنا، فنحن نُنصرُ دائمًا، وقد نُغلب مرةً أو مرتين بسبب المعاصي، فلا تظن أن لك الغلبة)، أما أنتم فأهل قَشْفٍ، ومعيشةِ سوءٍ وجَهدٍ وشقاء، لا نراكم شيئًا، ولا نَعُدُّكم، وكانت إذا قحطت أرضكم أتيتمونا، فحملناكم وِقْرًا من تمر أو قمح، فرَضِيتم ورجعتم.
ثم أخذ يشبه المسلمين وقوم فارس بقوله: وإنما مَثَلُكم كرجل له حائط (أي حديقة أو بستان)، فدخل فيه ثعلب من خرم أو ثقب في سور الحائط؛ فأخذ يأكل من الكَرْمِ (أي العنب الموجود في الحديقة)، فنظر الرجل (صاحب الحائط) إلى الثعلب، فقال: وما ثعلب؟ فأكل، ثم بدأ يعيث في الحديقة فسادًا: يأكل من هذا، ويفسد في هذا؛ فغضب الرجل وطلب منه أن يخرج، فأَبَى الثعلب، فنادى الرجل على غلمانه، فتتبعوه، فعندما أدرك الثعلب أنهم طالبوه وغير تاركيه؛ رجع إلى الثقب فدخل فيه حتى يخرج، ولكنه كان قد سمُن فانحشر في الثقب (أي عندما دخل إلى الحديقة كان نحيفًا، ولكنه عندما أكل من الحائط امتلأ جسمه فلم يستطع الخروج من الثقب)، فأتاه الغلمان على هذه الحالة، فظلوا يضربونه حتى قتلوه، فانظروا كيف تخرجون؟ (أي: جئتمونا مهازيل فتركناكم حتى سمنتم، فأروني كيف تخرجون من أرض فارس؟!) وإني لأرى أن ما جاء بكم إلا الجَهْد (أي أن حالتكم المادية أصبحت سيئة فلذلك جئتم)، فعودوا أدراجكم ونحن نُوقِرُ لكم ركائبكم قمحًا وتمرًا (أي سنحمل لكم كل هذه الجمال التي معكم بالقمح والتمر)، وأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وكل رجل منكم له وِقْر من تمر وقمح وثوبين، وتعودون إلى أرضكم؛ فإني لا أشتهي قتلكم، فارجعوا عافاكم الله.
فقال المغيرة: الحمد والشكر لله رب العالمين، إن الله خالق كل شيء، ورازق كل شيء، وصانع كل شيء؛ فأما ما ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الغلبة، ومن الظهور على الأعداء، ومن التمكُّن في البلاد فنحن نعرف ذلك ولا ننكره، ولكننا نعلم أن الله قد صنعه بكم (فأنتم لم تصنعوا ذلك، ولكن الله قد وضعه فيكم)، وأما الذي ذكرت من سوء حالنا، ومن قلة زادنا، ومن ضيق عيشنا، ومن اختلاف قلوبنا، فنحن نعرفه أيضًا ولا ننكره، كنا في مثله أو أشد منه: كان أفضلنا من يقتل ابن عمه، ويأكل ماله، وكنا نأكل الميتة والدَّم والعظام، وغير ذلك من سوء العيش، ولكن الدنيا دُوَل (فالحياة تتغير دائمًا)، وما زال أهل شدائدها ينتظرون الرخاء حتى يصيروا إليه، وما زال أهل الرخاء ينتظرون الشدائد حتى تنزل بهم (يقصد أنكم إذا كنتم اليوم في نعمة فمن الممكن أن تنزل بكم الشدائد، وإذا كنا نحن في شدة فمن الممكن أن نصير إلى الرخاء)، ولو كنتم فيما آتاكم الله ذوي شكر لقصر عنه شكركم (أي أن الله قد أعطاكم نعمًا كثيرة، فإن كنتم شكرتموه فشكركم قليل إذا قورن بنعم الله)، ولكن أسلمكم ضعفُ الشكر إلى تغير الحال (أي أنتم كفرتم بالله I ولم تشكروا نعمه فأدى ذلك بكم إلى تغير حالكم). ثم قال له: إن الله تعالى بعث فينا رسولاً، وأنزل فينا كتابه؛ فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به، فصدقه منا مُصدِّق، وكذَّب به آخر، فقاتل من صدَّقه من كذَّبه، حتى كانت لهم الغلبة واجتمعت العرب كلهم معه، وكانوا من اختلاف الرأي مما لا يطيق الخلائق تأليفهم، فعرفنا أنه الحق ثم أمرنا أن ننابذ من خالفه ممن يلينا؛ فنحن ندعوكم إلى واحدة من ثلاث: إما الإسلام ونرجع عنك ونتركك، ونخلف فيك كتاب الله، وإما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر (نفس الكلام الذي قاله ليزدجرد)، وإن أبيت فالسيف. فقال له رستم: وما صاغر؟ فقال له: أن يقوم أحدكم على رأس أميرنا فيطلب منه أن يأخذ الجزية، فيحمده إن قبلها (يشكره إذا قبلها منه)، فكن يا رستم عبدًا لنا تعطينا الجزية؛ نكف عنك ونمنعك.
وعندما قال له: كن عبدًا لنا؛ قام رستم واستشاط غضبًا، واحمرَّت عيناه وبدأ يزبد ويخرج عن أصول الحديث بين رؤساء الدول والسفراء؛ فقال له: واللهِ ماكنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا الكلام منكم. ثم حلف بالشمس أن لا يرتفع الصباح حتى يدفنهم في القادسية، ثم قال له: ارجع إلى قومك، لا شيء لكم عندي، وغدًا أدفنكم في القادسية. فرجع المغيرة وأثناء مروره على القنطرة أرسل رستم رجلاً يناديه، فناداه، فنظر إليه، فقال له: مُنَجِّمُنا يقول: إنك تُفقَأ عينُك غدًا. وذلك ليخوفه، فتبسَّم المغيرة بن شعبة وقال: واللهِ لولا أني أحتاج الأخرى لقتال أشباهكم؛ لتمنيت أن تذهب الأخرى في سبيل الله. فعاد الرجل يخبر رستم بذلك، وهو في ذلك الوقت يتحدث مع حاشيته ويقول لهم: أرأيتم من اجتماع كلمتهم؟! والله إن هؤلاء إن كانوا صادقين ما قامت لغيرهم قائمة، ولم يستطع أحد أن يحاربهم؛ لأنهم يتفقون على رأي واحد وكلمة واحدة. وفي أثناء ذلك قَدِمَ الرجل الذي أرسله إلى المغيرة، وأخبره بما قال؛ فقال لهم: أرأيتم؟! أي: هل أدركتم ما أريد؛ فغضب القوم منه وأخذوا يجادلونه حتى أغضبهم وأغضبوه.
ثم بات ليلته يفكر في الأمر؛ فالمهلة قد أوشكت على الانتهاء، ودخل اليوم الثالث فنام رستم في هذه الليلة، ورأى الرؤيا نفسَها مرة أخرى؛ فاستيقظ فزعًا ونادى على خاصته وقال: واللهِ يا أهل فارس إن الله يعظنا، وإني أراكم تُلْقُون بنا إلى التهلكة. فجادلوه في ذلك، وأخذوا يحفزونه على القتال، حتى وجد أنه لا بُدَّ له من القتال.
رستم يقرر خوض المعركة

وبعد أن قرر خوض المعركة أحضروا له فرسًا جديدًا؛ لأن فرسه القديم كان قد غنمه منه طليحة، فأخذ يستعرض أمام جنده، فقفز عليه دون أن يضع رجله في الركاب، وهذا أمر لا يفعله إلا فارس عظيم مثل رستم، ووقف على فرسه بمنتهى الخيلاء يستعرض جيشه، ثم قال: غدًا ندقهم دقًّا. فقال أحد الجند: إن شاء الله. فقال: وإن لم يشأ!! وقرر أن يدخل المعركة وهو يصِرُّ على كفره وعناده، فقد انتهت المفاوضات بين الطرفين، وباءت الدعوة بالفشل، وستحدث المعركة في اليوم الرابع، وأصبح المسلمون في حِلٍّ من وعدهم لأهل فارس. وفي بداية اليوم يرسل رستم إلى المسلمين؛ فيقول لهم: تعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ وكان الفرس في غرب نهر العتيق والمسلمون في شرقه؛ فقال له سعد بن أبي وقاص: اعبروا إلينا. فقال له: خَلُّوا بيننا وبين القنطرة. أي اجعلوا زهرة يتحرك بعيدًا عن القنطرة لكي نعبر إليكم؛ فقال له سعد: والله لن نعطيكم شيئًا غلبناكم عليه. فهذه القنطرة قد استولينا عليها منكم، ولن نعطيها لكم أبدًا، فانظروا طريقة أخرى تعبرون بها. فذهب جيش رستم إلى منطقة ضحلة من نهر العتيق، وظلوا يردمونها بالتراب والبوص والزروع طيلة الليل وسَاوَوْا عليها؛ ليتمكنوا من العبور عليها، وعُرِفَتْ هذه المنطقة بعد ذلك باسم منطقة الرَّدْم.
وكان المسلمون على أهبة الاستعداد وعلى أحسن تعبئة للقتال، فقد عبأ سعد بن أبي وقاص جيشه مبكراً، وأمّر الأمراء، وعرّف على كل عشرة عريفاً، وجعل على الرايات رجالاً من أهل السابقة أيضاً ورتّب المقدمة والساقة والمُجنِّبات والطلائع، وقد وصل القادسية على تعبئة، وقد عبأ جيشه على الشكل التالي:
على المقدمة زُهرة بن الحَويَّة، وعلى الميمنة عبد الله بن المُعْتمِّ، وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط الكندي وخليفته خالد بن عُرْفُطة، وعلى الساقة عاصم بن عمرو، وعلى الطلائع سواد بن مالك، وعلى المجرّدة: سلمان بن ربيعة الباهلي، وعلى الرَّجَّالة حَمَّال بن مالك الأسدي، وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الحنفي، وعلى القضاء عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وكاتب الجيش زياد بن أبي سفيان، ورائده وداعيه سلمان الفارسي، وكل ذلك بأمر من عمر، وقد خطب سعد بن أبي وقاص في الناس، وتلا قول الله تعالى: }وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ{ [الأنبياء:105).
وأمر القرّاء أن يشرعوا في سورة الأنفال، فقرئت، ولما أتموا قراءتها هشت قلوب الناس وعيونهم، ونزلت السكينة وصلى الناس الظهر.
وأمر سعد جيشه أن يزحفوا بعد التكبيرة الرابعة وأن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله. واستمرت المعركة أربعة أيام.
وقد كان سعد رضي الله عنه مريضاً بعرق النسا، وبه دمامل لا يستطيع الركوب ولا الجلوس؛ فكان مكبِّاً على صدره وتحته وسادة ويشرف على الميدان من قصر قُدَيْس الذي كان في القادسية. وقد أناب عنه في تبليغ أوامره خالد بن عرفطة، وقد أمر بأن ينادي في الجيش: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله، أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد".
وقبل بدء القتال حصل اختلاف على خالد بن عرفطة نائب سعد، فقال سعد: احملوني وأشرفوا بي على الناس، فارتقوا به، فأكبّ مطَّلعاً عليهم والصف في أسفل حائط قصر قُدَيْس يأمر خالداً فيأمر خالد الناس. وكان ممن شغب عليه بعض وجوه الناس فهمَّ بهم سعد وشتمهم، وقال: "أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم، فحبسهم، ومنهم أبو محجن الثقفي وقيدهم في القصر، وقال جرير بن عبد الله مؤيداً طاعة الأمير، أما أني بايعت رسول الله على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبداً حبشياً". وقال سعد: "والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننتُ فيه سنة يؤخذ بها من بعدي".
وقد قام فيهم سعد بن أبي وقاص بعد هذه الحادثة خطيباً، فقال بعد أن حمد لله وأثنى عليه: إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلف، قال الله جل ثناؤه:}وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ{ [الأنبياء:105]. إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج فأنتم تطعمون منها وتأكلون، وتقتلون أهلها وتجبرنهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة، عِزَّ من وراءكم. فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرِّب ذلك أحداً إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم تُوبقوا آخرتكم".
وكتب سعد إلى الرايات: "إني قد استخلفت فيكم خالد بن عرفطة، وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي يعودني وما بي من الحبوب، فإني مُكبُّ على وجهي وشخصي لكم باد، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه إنما يأمركم بأمري ويعمل برأيي".
فقُرئ على الناس فزادهم خيراً، وانتهوا إلى رأيه وقبلوا منه وتحاثُّوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرِّضى بما صنع، وقد بقي سعد بن أبي وقاص فوق القصر، وأصبح مشرفاً على ساحة المعركة، ولم يكن القصر محصناً، وهذا يدل على شجاعة سعد رضي الله عنه، فعن عثمان بن رجاء السعدي قال: كان سعد بن مالك أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصراً غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذ برُمَّته، فو الله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه.
رفع الروح المعنوية بين أفراد الجيش الإسلامي
جمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجهاء المسلمين وقادته في بداية اليوم الأول من المعركة، وقال لهم: "انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق لهم عند مواطن البأس، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم، وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتُهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال"، فساروا فيهم.
فقال قيس بن هبيرة الأسدي: "أيها الناس احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم له يزدكم، واذكروا آلاء الله، وارغبوا إليه في عاداته، فإن الجنة أو الغنيمة أمامكم، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء، والأرض القفر، والظِّراب الخُشْن والفلوات التي لا تقطعها الأدلة".
وقال غالب بن عبد الله الليثي: "أيها الناس احمدوا الله على ما أبلاكم وسلوه يزدكم، وادعوه يحيكم، يا معشر معدّ، ما علّتكم اليوم وأنتم في حصونكم (يعني الخيل)، ومعكم من لا يعصيكم (يعني السيوف)؟. اذكروا حديث الناس في غد، فإنه بكم غداً يبدأ عنده، وبمن بعدكم يُثنَّى".
وقال ابن الهذيل الأسدي: "يا معشر معدّ، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا عليهم كالأسود الأجم، وتربَّدوا لهم تربُّد النمور وادرعوا العجاج، وثقوا بالله، وغضوا الأبصار، فإذا كلَّت السيوف فإنها مأمورة فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه".
وقال بسر بن أبي رهم الجهني: "احمدوا الله وصدقوا قولكم بفعل، فقد حمدتم الله على ما هداكم له، ووحدتموه ولا إله غيره، وكبرتموه، وآمنتم بنبيه ورسله، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا يكوننَّ شيء بأهون عليكم من الدنيا، فإنها تأتي من تهاون بها، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم لتميل بكم انصروا الله ينصركم".
وقال عاصم بن عمرو: "يا معشر العرب إنكم أعيان العرب، وقد صمدتم لأعيان من العجم، وإنما تخاطرون بالجنة، ويخاطرون بالدنيا، فلا يكونُنّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم، لا تحدثوا اليوم أمراً تكونون شيئاً على العرب غداً".
وقال ربيع بن البلاد السعدي: "يا معشر العرب قاتلوا للدين والدنيا }وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{ [آل عمران:133]. وإن عظم الشيطان عليكم الأمر فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل".
وقال ربعي بن عامر: "إن الله قد هداكم للإسلام، وجمعكم به، وأراكم الزيادة، وفي الصبر راحة، فعوِّدوا أنفسكم الصبر تعتادوه، ولا تعوّدوها الجزع فتعتادوه، وقد قال كلهم بنحو هذا الكلام، وتواثق الناس وتعاهدوا، واهتاجوا لكل ما كان ينبغي لهم".
يوم أرماث
يطلق يوم أرماث على اليوم الأول من أيام القادسية وقد وجه سعد رضي الله عنه بيانه إلى الجيش قائلاً: "الزموا مواقفكم لا تحركوا شيئاً حتى تصلُّوا الظهر، فإذا صليتم الظهر فإني مكبِّر تكبيرة فكبروا واستعدوا، واعلموا أن التكبير لم يُعْطه أحد قبلكم، واعلموا أنّما أُعطيتموه تأييداً لكم، ثم إذا سمعتم الثانية فكبروا، ولتسثتم عُدَتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا وليطاردوا، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله".
ولما صلى سعد الظهر أمر الغلام الذي كان ألزمه إياه عمر، وكان من القراء أن يقرأ سورة الجهاد (يعني الأنفال)، فقرأ على الكتيبة الذي يلونه سورة الجهاد، فقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها، ولما فرغ القراء كبّر سعد، فكبَّر الذين يلونه بتكبيرة، وكبر بعض الناس بتكبير بعض، فتحشحش الناس (يعني تحركوا) ثم ثنَّى فاستتمَّ الناس، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج من أهل فارس أمثالهم فاعتوروا الطعن والضرب، وكان لأبطال المسلمين من أمثال غالب بن عبد الله الأسدي، وعاصم بن عمرو التميمي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي وطليحة بن خويلد الأسدي أثر ظاهر في النكاية بالعدو، حيث قتلوا وأسروا عدداً من أبطالهم ولم يقتل من المسلمين أحد فيما ذُكر أثناء المبارزة، والمبارزة في عسير من فنون الحرب لا يتقنه إلا الأبطال من الرجال، وهي ترفع من شأن المنتصرين وتزيد من حماسهم، وتخفض من شأن المنهزمين وتحط من معنوياتهم، والمسلمون الأوائل متفوقون في هذا الفن على غيرهم دائماً؛ ولذلك هم المستفيدون من المبارزة، وبينما الناس ينتظرون التكبيرة الرابعة إذ قام صاحب رجالة بني نهد قيس بن حذيم بن جرثومة، فقال: يا بني نهد انهدوا فإنما سميتم نهداً لتفعلوا، فبعث خالد بن عرفطة، والله لتكفنّ أو لأوليِّن عملك غيرك، فكفَّ.
الخنساء بنت عمرو تحرض بنيها على القتال
في مضارب نساء المسلمين بالعذيب جلست الخنساء بنت عمرو شاعرة بني سليم المخضرمة ومعها بنوها أربعة رجال تعظهم وتحرضهم على القتال، قالت: "إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [آل عمران:200]. فإن أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وحللت تفجرت نار على أرواقها جوانبها فتيمموا وطيسها وسطها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها جيشها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة". فخرج بنوها قابلين لنصحها عازمين على قولها، فلما أضاء الصبح باكروا مراكزهم.
امرأة من النخع تشجع بنيها على القتال:
كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القتال ذلك اليوم، فلما بدأ الصباح ينبلج قالت لهم: إنكم أسلمتم فلم تبدلوا، وهاجرتم فلم تثربوا، ولم تَنْب بكم البلاد تقحمكم السنة، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس، والله إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره". فانصرفوا عنها مسرعين يشتدون، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهي تقول: "اللهم ادفع عن بنيّ، فرجعوا إليها بعد ذلك وقد أحسنوا القتال ما جرح منهم رجل جرحاً".
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]