
تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
من صــ 106 الى صــ 110
الحلقة (17)
قلت : كذا قال في ( التمهيد ) : لا يوقف له على اسم . وذكر في كتاب الصحابة الاختلاف في اسمه . والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ; فقال : ( ألم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ) - ثم قال لي - ( إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ) ثم أخذ بيدي ، فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته . قال ابن عبد البر وغيره : أبو سعيد بن المعلى من جلة الأنصار ، وسادات الأنصار ، تفرد به البخاري ، واسمه رافع ، ويقال : الحارث بن نفيع بن المعلى ، ويقال : أوس بن المعلى ، ويقال : أبو سعيد بن أوس بن المعلى ; توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين سنة ، وهو أول من صلى إلى القبلة حين حولت ، وسيأتي . وقد أسند حديث أبي يزيد بن زريع قال : حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي ; فذكر الحديث بمعناه .
وذكر ابن الأنباري في كتاب الرد له : حدثني أبو عبيد الله الوراق حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال : إن إبليس - لعنه الله - رن أربع رنات : حين لعن ، وحين أهبط من الجنة ، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، وحين أنزلت فاتحة الكتاب ، وأنزلت بالمدينة .
الثانية : اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض ، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض ، فقال قوم : لا فضل لبعض على بعض ، لأن الكل كلام الله ، وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها . ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري ، والقاضي أبو بكر بن الطيب ، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي ، وجماعة من الفقهاء . وروي معناه عن مالك . قال يحيى بن يحيى : تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها . وقال عن مالك في قول الله تعالى : نأت بخير منها أو مثلها [ ص: 107 ] قال : محكمة مكان منسوخة . وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك . واحتج هؤلاء بأن قالوا : إن الأفضل يشعر بنقص المفضول ، والذاتية في الكل واحدة ، وهي كلام الله ، وكلام الله تعالى لا نقص فيه . قال البستي : ومعنى هذه اللفظة ( ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن ) : أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن ، إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم ، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه ، وهو فضل منه لهذه الأمة . قال ومعنى قوله : ( أعظم سورة ) أراد به في الأجر ، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض . وقال قوم بالتفضيل ، وأن ما تضمنه قوله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وآية الكرسي ، وآخر سورة الحشر ، وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في تبت يدا أبي لهب وما كان مثلها .
والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها ، لا من حيث الصفة ، وهذا هو الحق . وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين ، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار ، لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم ) قال : الله لا إله إلا هو الحي القيوم . قال : فضرب في صدري وقال : ( ليهنك العلم أبا المنذر ) أخرجه البخاري ومسلم .
قال ابن الحصار : عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص .
وقال ابن العربي : قوله : " ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها " وسكت عن سائر الكتب ، كالصحف المنزلة والزبور وغيرها ، لأن هذه المذكورة أفضلها ، وإذا كان الشيء أفضل الأفضل ، صار أفضل الكل . كقولك : زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس .
[ ص: 108 ] وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها ، حتى قيل : إن جميع القرآن فيها . وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن . ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده ، ولا تصح القربة إلا بها ، ولا يلحق عمل بثوابها ، وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم ، كما صارت قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ ، و قل هو الله أحد فيها التوحيد كله ، وبهذا المعنى وقع البيان في قوله عليه السلام لأبي . ( أي آية في القرآن أعظم ) قال : الله لا إله إلا هو الحي القيوم . وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صار قوله : أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له أفضل الذكر ; لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد ، والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير ، ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى .
الثالثة : روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، و شهد الله أنه لا إله إلا هو ، و قل اللهم مالك الملك ، هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب ) . أسنده أبو عمرو الداني في كتاب ( البيان ) له .
الرابعة : في أسمائها ، وهي اثنا عشر اسما :
( الأول ) : الصلاة ، قال الله تعالى : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) الحديث . وقد تقدم .
( الثاني ) : الحمد ، لأن فيها ذكر الحمد ; كما يقال : سورة الأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ونحوها .
( الثالث ) : فاتحة الكتاب ، من غير خلاف بين العلماء ; وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا ، وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطا ، وتفتتح بها الصلوات .
( الرابع ) : أم الكتاب ، وفي هذا الاسم خلاف ، جوزه الجمهور ، وكرهه أنس والحسن [ ص: 109 ] وابن سيرين . قال الحسن : أم الكتاب الحلال والحرام ، قال الله تعالى : آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . وقال أنس وابن سيرين : أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ . قال الله تعالى : وإنه في أم الكتاب .
( الخامس ) : أم القرآن ، واختلف فيه أيضا ، فجوزه الجمهور ، وكرهه أنس وابن سيرين ; والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين . روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني قال : هذا حديث حسن صحيح . وفي البخاري قال : وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف ، ويبدأ بقراءتها في الصلاة . وقال يحيى بن يعمر : أم القرى : مكة ، وأم خراسان : مرو ، وأم القرآن : سورة الحمد . وقيل : سميت أم القرآن لأنها أوله ومتضمنة لجميع علومه ، وبه سميت مكة أم القرى لأنها أول الأرض ومنها دحيت ، ومنه سميت الأم أما لأنها أصل النسل ، والأرض أما ، في قول أمية بن أبي الصلت :
فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد
ويقال لراية الحرب : أم ; لتقدمها واتباع الجيش لها . وأصل أم أمهة ، ولذلك تجمع على أمهات ، قال الله تعالى : وأمهاتكم . ويقال أمات بغير هاء . قال :
فرجت الظلام بأماتكا
وقيل : إن أمهات في الناس ، وأمات في البهائم ; حكاه ابن فارس في المجمل .
( السادس ) : المثاني ، سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة . وقيل : سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها .
( السابع ) : القرآن العظيم ، سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن ، وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله ، وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها ، [ ص: 110 ] والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى ، وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم ; وكفاية أحوال الناكثين ، وعلى بيانه عاقبة الجاحدين .
( الثامن ) : الشفاء ، روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاتحة الكتاب شفاء من كل سم .
( التاسع ) : الرقية ، ثبت ذلك من حديث أبي سعيد الخدري وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل ، الذي رقى سيد الحي : ( ما أدراك أنها رقية ) فقال : يا رسول الله شيء ألقي في روعي ; الحديث . خرجه الأئمة ، وسيأتي بتمامه .
( العاشر ) : الأساس ، شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة ; فقال : عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب ، سمعت ابن عباس يقول : لكل شيء أساس ، وأساس الدنيا مكة ، لأنها منها دحيت ; وأساس السماوات عريبا ، وهي السماء السابعة ; وأساس الأرض عجيبا ، وهي الأرض السابعة السفلى ; وأساس الجنان جنة عدن ، وهي سرة الجنان عليها أسست الجنة ; وأساس النار جهنم ، وهي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات ، وأساس الخلق آدم ، وأساس الأنبياء نوح ; وأساس بني إسرائيل يعقوب ; وأساس الكتب القرآن ; وأساس القرآن الفاتحة ; وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم ; فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى .
( الحادي عشر ) : الوافية ، قاله سفيان بن عيينة ، لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال ، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ، ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ ; ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز .