عرض مشاركة واحدة
  #87  
قديم 08-01-2022, 10:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,350
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (87)
صـ511 إلى صـ 524

المسألة السابعة عشرة

المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها ، وقد علم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة ، وأن أعظم المفاسد ما يكر بالإخلال عليها .

والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها ; كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه ، والزنى والسرقة وشرب الخمر وما يرجع إلى ذلك مما وضع له حد أو وعيد ، بخلاف ما كان راجعا إلى حاجي أو تكميلي ; فإنه لم يختص بوعيد في نفسه ، ولا بحد معلوم يخصه ; فإن كان كذلك ، فهو راجع إلى أمر ضروري ، والاستقراء يبين ذلك ; فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه .

إلا أن المصالح والمفاسد ضربان :

أحدهما : ما به صلاح العالم أو فساده ; كإحياء النفس في المصالح ، وقتلها في المفاسد .

والثاني : ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد ، وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب ، وكذلك الأول على مراتب أيضا ، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء ، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما ، ثم النفس ، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل [ ص: 512 ] والمال ; فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أكره بالقتل على الزنى أن يقي نفسه به ، وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بضعها جاز لها ذلك ، وهكذا سائرها .

ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلا وجدناه المفسدة في العمل [ به ] على مراتب ; فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن ، ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة وهو ممكن الرؤية من غير مشقة ، وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور ; فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرا كليا ضروريا ; كانت الطاعة لاحقة بأركان الدين ، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب ، وإن لم تنتج إلا أمرا جزئيا ; فطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية ، والمعصية صغيرة من الصغائر ، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد ، ولا كل ركن مع ما يعد ركنا على وزان واحد أيضا ، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد ، بل لكل منها مرتبة تليق بها .
[ ص: 513 ] المسألة الثامنة عشرة

الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني ، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني .

أما الأول ; فيدل عليه أمور :

منها الاستقراء ; فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها ، وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة ، إن خرجت عنها لم تكن عبادات ، ووجدنا الموجبات فيها تتحد مع اختلاف الموجبات ، وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب ، وفي هيئة أخرى غير مطلوب ، وأن [ ص: 514 ] طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره ، وأن التيمم - وليست فيه نظافة حسية - يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر ، وهكذا سائر العبادات ; كالصوم ، والحج ، وغيرهما ، وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى ، وإفراده بالخضوع ، والتعظيم لجلاله ، والتوجه إليه ، وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يفهم منها حكم خاص ; إذ لو كان كذلك لم يحد لنا أمر مخصوص ، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حد وما لم يحد ، ولكان المخالف لما حد غير ملوم ; إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلا ، وليس كذلك باتفاق ، فعلمنا قطعا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود ، وأن غيره غير مقصود شرعا .

والثاني : أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد ; لنصب الشارع عليه دليلا واضحا ، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه ، ولكان ذلك يتسع في أبواب [ ص: 515 ] العبادات ، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه ; دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود ; إلا أن يتبين بنص أو إجماع معنى مراد في بعض الصور ; فلا لوم على من اتبعه ، لكن ذلك قليل ; فليس بأصل ، وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في الموضع .

وأيضا ; فإن المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له ; كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره ، والجمع بين الصلاتين ، وما أشبه ذلك .

وإلى هذا ; فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة [ ص: 516 ] الخصوص ; كقوله : " سها فسجد " ، وقوله : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ، ونهيه عن " الصلاة طرفي النهار " ، وعلل ذلك بأن [ ص: 517 ] الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان .

وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها ; فتجب فيها النية قياسا على التيمم ، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع ، بل هو من المسمى شبها ، بحيث لا يتفق على القول به القائلون ، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه ، فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة ; فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه [ ص: 518 ] الوقوف عند ما حد ، دون التعدي إلى غيره ; لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات ، فكان أصلا فيها .

والثالث : أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات ; فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها ، والمشي على غير طريق ، ومن ثم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة ، وهذا مما يدل دلالة واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها ، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك ، ولما كان الأمر كذلك عذر أهل الفترات في [ ص: 519 ] عدم اهتدائهم ; فقال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] .

وقال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ النساء : 165 ] .

والحجة هاهنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق ، والله أعلم ، فإذا ثبت هذا ; لم يكن بد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع ، وهو معنى التعبد ، ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب ، وأجرى على طريقة السلف الصالح ، وهو رأي مالك رحمه الله ; إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق وإن حصلت النظافة بغير ذلك ، وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه ، والتسليم كذلك ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات ، إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض المنصوص عليه أو ما ماثله ; فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلا يبنى عليه ، وركنا يلجأ إليه .
[ ص: 520 ] فصل

وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني ; فلأمور :

أولها الاستقراء ; فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد ، والأحكام العادية تدور [ معه ] حيثما دار ; فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز ; كالدرهم بالدرهم إلى أجل ، يمتنع في المبايعة ، ويجوز في القرض ، وبيع الرطب باليابس ، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة ، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة ، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوما كما فهمناه في العادات ، وقال تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] .

وقال : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [ البقرة : 188 ] .

وفي الحديث : لا يقضي القاضي وهو غضبان .

وقال : لا ضرر ولا ضرار .

[ ص: 521 ] وقال : القاتل لا يرث .

[ ص: 522 ] ونهى عن بيع الغرر .

وقال : كل مسكر حرام .

وفي القرآن : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر [ المائدة : 91 ] [ ص: 523 ] الآية .

إلى غير ذلك مما لا يحصى ، وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد ، وأن الإذن دائر معها أينما دارت ، حسبما بينته مسالك العلة ; فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني .

والثاني : أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله ، وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ; ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني ، لا الوقوف مع النصوص ، بخلاف باب العبادات ; فإن المعلوم فيه خلاف ذلك ، وقد توسع في هذا القسم مالك رحمه الله ; حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة ، وقال فيه بالاستحسان ، ونقل عنه أنه قال : " إنه تسعة أعشار [ ص: 524 ] العلم " ، حسبما يأتي إن شاء الله .

والثالث : إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوما في الفترات ، واعتمد عليه العقلاء ; حتى جرت بذلك مصالحهم ، وأعملوا كلياتها على الجملة ; فاطردت لهم ، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم ; إلا أنهم قصروا في جملة من التفاصيل ; فجاءت الشريعة لتتم مكارم الأخلاق ; فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت متممة لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات ، ومن هاهنا أقرت هذه الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية ; كالدية ، والقسامة ، والاجتماع يوم العروبة - وهي الجمعة - للوعظ والتذكير ، والقراض ، وكسوة الكعبة ، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودا ، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول ، وهي كثيرة ، وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم عليه السلام .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.63 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.49%)]