عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 10-01-2022, 08:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,393
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة الفاتحة
المجلد الثانى
صـ 16 الى صـ 23
الحلقة (4)


[ ص: 16 ] وَثَالِثُهَا هِدَايَةٌ يُوَلِّيهَا صَالِحِي عِبَادِهِ بِمَا اكْتَسَبُوهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ ، وَهِيَ الْهِدَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ وَقَوْلُهُ : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ وَقَوْلُهُ : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ هِيَ الْمَعْنِيَّةُ بِقَوْلِهِ : وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ

وَيَصِحُّ أَنْ نَنْسُبَ هَذِهِ الْهِدَايَةَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُقَالُ : هُوَ آثَرَهُمْ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا . وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : اكْتَسَبُوهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ تَوَصَّلُوا إِلَيْهَا بِاجْتِهَادِهِمْ . فَمَنْ قَصَدَ سُلْطَانًا مُسْتَرْفِدًا فَأَعْطَاهُ ، يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ السُّلْطَانَ خَوَّلَهُ . وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ اكْتَسَبَ بِسَعْيِهِ ، وَلِانْطِوَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ ، قَالَ تَعَالَى : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ فَنَبَّهَ أَنَّ ذَلِكَ بِجُهْدِهِمْ وَبِفَضْلِهِ جَمِيعًا .

وَهَذِهِ الْهِدَايَةُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مُبَاحَةٌ لِلْعُقَلَاءِ كُلِّهِمْ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مَحْظُورَةٌ [ ص: 17 ] إِلَّا عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، لِمَا كَانَ فِي إِمْكَانِ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَتَرَشَّحُوا لِتَنَاوُلِهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ : إِنَّهَا لَا يَسْهُلُ تَنَاوُلُهَا قَبْلَ أَنْ يَتَشَكَّلَ الْإِنْسَاْنُ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ ، بِتَقْدِيمِ عِبَادَاتٍ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ : الْهُدَى مِنَ اللَّهِ كَثِيرٌ ، وَلَا يُبْصِرُهُ إِلَّا الْبَصِيرُ ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا الْيَسِيرُ . أَلَا تَرَى أَنَّ نُجُومَ السَّمَاءِ مَا أَكْثَرَهَا وَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا الْعُلَمَاءُ . وَقَالَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ : إِنَّ مَثَلَ هِدَايَةِ اللَّهِ مَعَ النَّاسِ كَمَثَلِ سَيْلٍ مَرَّ عَلَى قِلَاتٍ وَغُدْرَانٍ ، فَيَتَنَاوَلُ كُلُّ قَلْتٍ مِنْهَا بِقَدْرِ سِعَتِهِ -ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ- : أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ كَمَطَرٍ أَتَى عَلَى أَرَضِينَ فَيَنْتَفِعُ كُلُّ أَرْضٍ بِقَدْرِ تَرْشِيحِهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ .

(وَالْمَنْزِلَةُ الرَّابِعَةُ) : مِنَ الْهِدَايَةِ التَّمْكِينُ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ فِي دَارِ الْخُلْدِ ، وَإِيَّاهَا عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ : وَنَـزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَمِنَ الْهِدَايَةِ مَا لَا يُنْفَى عَنْ أَحَدٍ بِوَجْهٍ . وَمِنْهَا مَا يُنْفَى [ ص: 18 ] عَنْ بَعْضٍ ، وَيَثْبُتُ لِبَعْضٍ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَقَالَ : لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَقَالَ : وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ فَإِنَّهُ عَنَى الْهِدَايَةَ -الَّتِي هِيَ التَّوْفِيقُ وَإِدْخَالُ الْجَنَّةِ- دُونَ الَّتِي هِيَ الدُّعَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَقَالَ فِي الْأَنْبِيَاءِ : وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا

فَقَوْلُهُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فُسِّرَ عَلَى وُجُوهٍ بِحَسَبِ أَنْظَارٍ مُخْتَلِفَةٍ إِلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ :

(الْأَوَّلُ) : أَنَّهُ عَنَى الْهِدَايَةَ الْعَامَّةَ ، وَأَمَرَ أَنْ نَدْعُوَ بِذَلِكَ -وَإِنْ كَانَ هُوَ قَدْ فَعَلَهُ لَا مَحَالَةَ- لِيَزِيدَنَا ثَوَابًا بِالدُّعَاءِ، كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ . (الثَّانِي) قِيلَ : وَفِّقْنَا لِطَرِيقَةِ الشَّرْعِ .

(الثَّالِثُ) : احْرُسْنَا عَنِ اسْتِغْوَاءِ الْغُوَاةِ وَاسْتِهْوَاءِ الشَّهَوَاتِ ، وَاعْصِمْنَا مِنَ الشُّبُهَاتِ .

[ ص: 19 ] الرَّابِعُ : زِدْنَا هُدًى اسْتِنْجَاحًا لِمَا وَعَدْتَ بِقَوْلِكَ : وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَقَوْلِكَ : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى

(الْخَامِسُ) : قِيلَ : عَلِّمْنَا الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ فَذَلِكَ سَبَبُ الْخَلَاصِ ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنُّورِ فِي قَوْلِهِ : يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ

(السَّادِسُ) : قِيلَ : هُوَ سُؤَالُ الْجَنَّةِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَقَالَ : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ الْآيَةَ. فَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ أَنْظَارِهِمْ إِلَى أَبْعَاضِ الْهِدَايَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا ، وَالْجَمِيعُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ - إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهَا – [ ص: 20 ] وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ" . اهـ كَلَامُ الرَّاغِبِ . وَبِهِ يُعْلَمُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْهِدَايَةِ فِي سَائِرِ مَوَاقِعِهَا فِي التَّنْزِيلِ الْكَرِيمِ ، وَأَنَّ الْوُجُوهَ الْمَأْثُورَةَ فِي آيَةٍ مَا -إِذَا لَمْ تَتَنَافَ- صَحَّ إِرَادَتُهَا كُلُّهَا ؛ وَمِثْلْ هَذَا يُسَمَّى : اخْتِلَافَ تَنَوُّعٍ لَا اخْتِلَافَ تَضَادٍّ.

كَمَا أَشَارَ لِذَلِكَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَبْحَثٍ لَهُ مُهِمٍّ ، نَأْثُرُهُ عَنْهُ هُنَا ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :

يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا لَيْسَ فِيهِ تَضَادٌّ وَتَنَاقُضٌ ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَقًّا، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ أَوِ اخْتِلَافٌ فِي الصِّفَاتِ أَوِ الْعِبَارَاتِ ، وَعَامَّةُ الِاخْتِلَافِ الثَّابِتِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِذَا ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ اسْمًا مِثْلَ قَوْلِهِ : "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" فَكُلُّ الْمُفَسِّرِينَ يُعَبِّرُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ بِهَا عَلَى بَعْضِ صِفَاتِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ بِمَنْزِلَةِ مَا يُسَمِّي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَكِتَابَهُ بِأَسْمَاءٍ ، كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمُ : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ كِتَابُ اللَّهِ ، أَوِ اتِّبَاعُ كِتَابِ اللَّهِ . وَيَقُولُ الْآخَرُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَيَقُولُ الْآخَرُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ. وَيَقُولُ الْآخَرُ : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ ، أَوْ طَرِيقُ الْخَوْفِ وَالرِّضَا وَالْحُبِّ ، وَامْتِثَالُ الْمَأْمُورِ ، وَاجْتِنَابُ الْمَحْظُورِ ، أَوْ مُتَابَعَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ أَوِ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ، أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْعِبَارَاتِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ وَاحِدٌ ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ صِفَاتُهُ وَتَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ وَعِبَارَاتُهُ ؛ وَكَثِيرٌ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّرْجَمَةِ تَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

وَمِنْهُ قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الْمُفَسِّرُ وَالْمُتَرْجِمُ مَعْنَى اللَّفْظِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ - مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مِنَ الْعَجَمِ: مَا مَعْنَى الْخُبْزِ ؟ فَيُشَارُ لَهُ إِلَى رَغِيفٍ -وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مُجَرَّدَ عَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الشَّخْصِ تَمْثِيلًا . وَهَذَا كَمَا إِذَا سُئِلُوا عَنْ قَوْلِهِ : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [ ص: 21 ] . أَوْ عَنْ قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أَوْ عَنِ الصَّالِحِينَ أَوِ الظَّالِمِينَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ الَّتِي قَدْ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُسْتَمِعِ أَوِ الْمُتَكَلِّمِ ضَبْطُ مَجْمُوعِ مَعْنَاهُ ; إِذْ لَا يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ فَيَذْكُرُ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ غَرَضُهُ ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ . فَإِنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ هُوَ تَارِكُ الْمَأْمُورِ فَاعِلُ الْمَحْظُورِ ، وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ فَاعِلُ الْوَاجِبِ وَتَارِكُ الْمُحَرَّمِ ، وَالسَّابِقُ هُوَ فَاعِلُ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ ، وَتَارِكُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ . فَيَقُولُ الْمُجِيبُ بِحَسَبِ حَاجَةِ السَّائِلِ : الظَّالِمُ الَّذِي يُفَوِّتُ الصَّلَاةَ ، أَوِ الَّذِي لَا يُسْبِغُ الْوُضُوءَ ، أَوِ الَّذِي لَا يُتِمُّ الْأَرْكَانَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي الْوَقْتِ - كَمَا أُمِرِ - وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ الَّذِي يُصَلِّي الصَّلَاةَ بِوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحِبَّاتِهَا وَيَأْتِي بِالنَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ مَعَهَا ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ :

تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا ، وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ ، وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، فَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ .

وَالصَّحَابَةُ أَخَذُوا عَنِ الرَّسُولِ لَفْظَ الْقُرْآنِ وَمَعْنَاهُ كَمَا أَخَذُوا عَنْهُ السُّنَّةَ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ غَيَّرَ السُّنَّةَ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ غَيَّرَ بَعْضَ مَعَانِي الْقُرْآنِ - إِذْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَغْيِيرِ لَفْظِهِ ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بَعْضُ مَعَانِي الْقُرْآنِ ، كَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ السُّنَّةِ ، فَيَقَعُ خَطَأُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

وَتَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ بَسْطٌ لِهَذَا الْبَحْثِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ . (انْظُرْ : ج1 ص17).

[ ص: 22 ] وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْآيَةِ :

"كُلُّ عَبْدٍ مُضْطَرٍّ دَائِمًا إِلَى مَقْصُودِ هَذَا الدُّعَاءِ ، وَهُوَ هِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، فَإِنَّهُ لَا نَجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ ، وَلَا وُصُولَ إِلَى السَّعَادَةِ إِلَّا بِهِ ، فَمَنْ فَاتَهُ هَذَا الْهُدَى فَهُوَ : إِمَّا مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، وَإِمَّا مِنَ الضَّالِّينَ ؛ وَهَذَا الِاهْتِدَاءُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهُدَى اللَّهِ : مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : أَنْ تَفْعَلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا أُمِرْتَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ ، وَلَا تَفْعَلُ مَا نُهِيتَ عَنْهُ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ فِي كُلِّ وَقْتٍ إِلَى أَنْ تَعْلَمَ : مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَمَا نَهَى عَنْهُ ، وَإِلَى أَنْ يَحْصُلَ لَكَ إِرَادَةٌ جَازِمَةٌ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ ؛ وَكَرَاهَةٌ لِتَرْكِ الْمَحْظُورِ . وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ قَدْ فُسِّرَ بِالْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ وَطُرُقِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَكُلُّ هَذَا حَقٌّ ، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ ، فَحَاجَتُهُ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ فِي سَعَادَتِهِ وَنَجَاتِهِ ؛ بِخِلَافِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ ، وَإِنِ انْقَطَعَ رِزْقُهُ مَاتَ -وَالْمَوْتُ لَا بُدَّ مِنْهُ- فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهِدَايَةِ ، كَانَ سَعِيدًا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَكَانَ الْمَوْتُ مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى السَّعَادَةِ الدَّائِمَةِ الْأَبَدِيَّةِ ، فَيَكُونُ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ النَّصْرُ -إِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قُهِرَ وَغُلِبَ حَتَّى قُتِلَ - فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْهِدَايَةِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ مَاتَ شَهِيدًا ، وَكَانَ الْقَتْلُ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ حَاجَةَ الْعِبَادِ إِلَى الْهُدَى أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الرِّزْقِ وَالنَّصْرِ ، بَلْ لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاءُ مَفْرُوضًا عَلَيْهِمْ فِي الصَّلَوَاتِ - فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا - وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ يَتَضَمَّنُ الرِّزْقَ وَالنَّصْرَ لِأَنَّهُ إِذَا هُدِيَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَكَانَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى [ ص: 23 ] اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ وَكَانَ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَمَنْ يَنْصُرُ اللَّهَ يَنْصُرُهُ ، وَكَانَ مِنْ جُنْدِ اللَّهِ ، وَجُنْدُ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ . فَالْهُدَى التَّامُّ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ أَعْظَمِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ هُوَ الْجَامِعُ لِكُلِّ مَطْلُوبٍ تَحْصُلُ بِهِ كُلُّ مَنْفَعَةٍ، وَتَنْدَفِعُ بِهِ كُلُّ مُضِرَّةٍ .

(فَائِدَةٌ) : الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ أَصْلُهُ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ ، وَلَا انْحِرَافَ ، وَيُسْتَعَارُ لِكُلِّ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ يَبْلُغُ بِهِ صَاحِبُهُ الْغَايَةَ الْحَمِيدَةَ ، فَالطَّرِيقُ الْوَاضِحُ لِلْحِسِّ ، كَالْحَقِّ لِلْعَقْلِ ، فِي أَنَّهُ : إِذَا سُيِّرَ بِهِمَا أَبْلَغَا السَّالِكَ النِّهَايَةَ الْحُسْنَى .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[7 ] صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ

أَيْ: بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.45 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.24%)]