عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 05-02-2022, 01:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,269
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد



تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
تفسير سورة الفاتحة (3)
الحلقة (13)
صــ 155إلى صــ 166


الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( يَوْمِ الدِّينِ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَالدِّينُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، بِتَأْوِيلِ الْحِسَابِ وَالْمُجَازَاةِ بِالْأَعْمَالِ ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ :


إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمْ وَدِنَّاهُمُ مِثْلَ مَا يُقْرِضُونَا


وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ :


وَاعْلَمْ وأَيْقِنْ أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَا تَدِينُ تُدَانُ


يَعْنِي : مَا تَجْزِي تُجَازَى .

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) - يَعْنِي : بِالْجَزَاءِ - ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ) سُورَةُ الِانْفِطَارِ : 9 ، 10 يُحْصُونَ مَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ( فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) سُورَةُ الْوَاقِعَةِ : 86 ، يَعْنِي غَيْرَ مَجْزِيِّينَ بِأَعْمَالِكُمْ وَلَا مُحَاسَبِينَ .

وَلِلدِّينِ مَعَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، غَيْرُ مَعْنَى الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ ، سَنَذْكُرُهَا فِي أَمَاكِنِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ . [ ص: 156 ]

وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( يَوْمِ الدِّينِ ) جَاءَتِ الْآثَارُ عَنِ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، مَعَ تَصْحِيحِ الشَّوَاهِدِ تَأْوِيلَهُمُ الَّذِي تَأَوَّلُوهُ فِي ذَلِكَ .

167 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : ( يَوْمِ الدِّينِ ) ، قَالَ : يَوْمِ حِسَابِ الْخَلَائِقِ ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، يُدِينُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرًّا ، إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْهُ ، فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ . ثُمَّ قَالَ : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 54 .

168 - وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْهَمْدَانِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ الْقَنَّادِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( " مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ " ) ، هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ .

169 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى ، قَالَ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا [ ص: 157 ] [ ص: 158 ] [ ص: 159 ] [ ص: 160 ] مَعْمَرُ ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قَالَ : يَوْمَ يَدِينُ اللَّهُ الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ .

170 - وَحَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قَالَ : يَوْمَ يُدَانُ النَّاسُ بِالْحِسَابِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) : لَكَ اللَّهُمَّ نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ ، إِقْرَارًا لَكَ يَا رَبَّنَا بِالرُّبُوبِيَّ ةِ لَا لِغَيْرِكَ .

171 - كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) ، إِيَّاكَ نُوَحِّدُ وَنَخَافُ وَنَرْجُو يَا رَبَّنَا لَا غَيْرُكَ . [ ص: 161 ]

وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا . وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْبَيَانَ عَنْ تَأْوِيلِهِ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَخْشَعُ وَنَذِلُّ وَنَسْتَكِينُ ، دُونَ الْبَيَانِ عَنْهُ بِأَنَّهُ بِمَعْنَى نَرْجُو وَنَخَافُ - وَإِنْ كَانَ الرَّجَاءُ وَالْخَوْفُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مَعَ ذِلَّةٍ - لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ ، عِنْدَ جَمِيعِ الْعَرَبِ أَصِلُهَا الذِّلَّةُ ، وَأَنَّهَا تُسَمَّى الطَّرِيقَ الْمُذَلَّلَ الَّذِي قَدْ وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ ، وَذَلَّلَتْهُ السَّابِلَةُ : مُعَبَّدًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ :


تُبَارِي عِتَاقًا نَاجِيَاتٍ وَأَتْبَعَتْ وَظِيفًا وَظِيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ


يَعْنِي بِالْمَوْرِ : الطَّرِيقَ . وَبِالْمُعَبَّد ِ : الْمُذَلَّلَ الْمَوْطُوءَ . وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْبَعِيرِ الْمُذَلَّلِ بِالرُّكُوبِ فِي الْحَوَائِجِ : مُعَبَّدٌ . وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَبْدُ عَبْدًا لِذِلَّتِهِ لِمَوْلَاهُ . وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ - مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَكَلَامِهَا - أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَمَعْنَى قَوْلِهِ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) : وَإِيَّاكَ رَبَّنَا نَسْتَعِينُ عَلَى عِبَادَتِنَا إِيَّاكَ وَطَاعَتِنَا لَكَ وَفِي أُمُورِنَا كُلِّهَا - لَا أَحَدًا سِوَاكَ ، إِذْ كَانَ مَنْ يَكْفُرُ بِكَ يَسْتَعِينُ فِي أُمُورِهِ مَعْبُودَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ مِنَ الْأَوْثَانِ دُونَكَ ، وَنَحْنُ بِكَ نَسْتَعِينُ فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا مُخْلِصِينَ لَكَ الْعِبَادَةَ .

172 - كَالَّذِي حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، [ ص: 162 ] قَالَ : حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، قَالَ : إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا مَعْنَى أَمْرِ اللَّهِ عِبَادَهُ بِأَنْ يَسْأَلُوهُ الْمَعُونَةَ عَلَى طَاعَتِهِ ؟ أَوَجَائِزٌ ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ ، أَنْ لَا يُعِينُهُمْ عَلَيْهَا ؟ أَمْ هَلْ يَقُولُ قَائِلٌ لِرَبِّهِ : إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ ، إِلَّا وَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ مُعَانٌ ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّاعَةُ . فَمَا وَجْهُ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ مَا قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ ؟

قِيلَ : إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الدَّاعِي رَبَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى طَاعَتِهِ إِيَّاهُ ، دَاعٍ أَنْ يُعِينَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى مَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ ، دُونَ مَا قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى مِنْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فِيمَا خَلَا مِنْ عُمْرِهِ . وَجَازَتْ مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ إِعْطَاءَ اللَّهِ عَبْدَهُ ذَلِكَ - مَعَ تَمْكِينِهِ جَوَارِحَهُ لِأَدَاءٍ مَا كَلَّفَهُ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِهِ ، فَضْلٌ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلُطْفٌ مِنْهُ لَطَفَ لَهُ فِيهِ . وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ التَّفَضُّلَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ بِالتَّوْفِيقِ - مَعَ اشْتِغَالِ عَبْدِهِ بِمَعْصِيَتِهِ ، وَانْصِرَافِهِ عَنْ مَحَبَّتِهِ ، وَلَا فِي بَسْطِهِ فَضْلَهُ عَلَى بَعْضِهِمْ ، مَعَ إِجْهَادِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَمُسَارَعَتِهِ إِلَى طَاعَتِهِ - فَسَادٌ فِي تَدْبِيرٍ ، وَلَا جَوْرٌ فِي حُكْمٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ جَاهِلٌ مَوْضِعَ حُكْمِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ عَبْدَهُ بِمَسْأَلَتِهِ عَوْنَهُ عَلَى طَاعَتِهِ .

وَفِي أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ أَنْ يَقُولُوا : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، بِمَعْنَى مَسْأَلَتِهِمْ إِيَّاهُ الْمَعُونَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ ، أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالتَّفْوِيضِ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ ، الَّذِينَ أَحَالُوا أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِأَمْرٍ ، أَوْ يُكَلِّفَهُ [ ص: 163 ] فَرْضَ عَمَلٍ ، إِلَّا بَعْدَ إِعْطَائِهِ الْمَعُونَةَ عَلَى فِعْلِهِ وَعَلَى تَرْكِهِ . وَلَوْ كَانَ الَّذِي قَالُوا مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا ، لَبَطَلَتِ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ فِي الْمَعُونَةِ عَلَى طَاعَتِهِ . إِذْ كَانَ - عَلَى قَوْلِهِمْ ، مَعَ وُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ - حَقًّا وَاجِبًا عَلَى اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِعْطَاؤُهُ الْمَعُونَةَ عَلَيْهِ ، سَأَلَهُ عَبْدُهُ أَوْ تَرَكَ مَسْأَلَةَ ذَلِكَ . بَلْ تَرْكُ إِعْطَائِهِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ جَوْرٌ . وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا ، لَكَانَ الْقَائِلُ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، إِنَّمَا يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ لَا يَجُورَ .

وَفِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَمِيعًا - عَلَى تَصْوِيبِ قَوْلِ الْقَائِلِ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ " ، وَتَخْطِئَتِهِم ْ قَوْلَ الْقَائِلِ : "اللَّهُمَّ لَا تَجُرْ عَلَيْنَا " - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى خَطَأِ مَا قَالَ الَّذِينَ وَصَفْتُ قَوْلَهُمْ . إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِ الْقَائِلِ عِنْدَهُمْ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ - اللَّهُمَّ لَا تَتْرُكْ مَعُونَتَنَا الَّتِي تَرْكُكَها جَوْرٌ مِنْكَ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَكَيْفَ قِيلَ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، فَقُدِّمَ الْخَبَرُ عَنِ الْعِبَادَةِ ، وَأُخِّرَتْ مَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا بَعْدَهَا ؟ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ بِالْمَعُونَةِ ، فَمَسْأَلَةُ الْمَعُونَةِ كَانَتْ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ قَبْلَ الْمُعَانِ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ ، وَالْعِبَادَةُ بِهَا .

قِيلَ : لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنْ الْعِبَادَةَ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ إِلَيْهَا إِلَّا بِمَعُونَةٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَكَانَ مُحَالًا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَابِدًا إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْعِبَادَةِ مُعَانٌ ، وَأَنْ يَكُونَ مُعَانًا عَلَيْهَا إِلَّا وَهُوَ لَهَا فَاعِلٌ - كَانَ سَوَاءً تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ . كَمَا سَوَاءٌ قَوْلُكَ لِلرَّجُلِ إِذَا قَضَى حَاجَتَكَ فَأَحْسَنَ إِلَيْكَ فِي قَضَائِهَا : "قَضَيْتَ حَاجَتِي فَأَحْسَنْتَ إِلَيَّ " ، فَقَدَّمْتَ ذِكْرَ قَضَائِهِ حَاجَتَكَ ، أَوْ قُلْتَ : أَحْسَنْتَ إِلَيَّ فَقَضَيْتَ حَاجَتِي " ، فَقَدَّمْتَ ذِكْرَ الْإِحْسَانِ عَلَى ذِكْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ . لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاضِيًا حَاجَتَكَ إِلَّا وَهُوَ إِلَيْكَ مُحْسِنٌ ، وَلَا مُحْسِنًا إِلَيْكَ إِلَّا وَهُوَ لِحَاجَتِكَ قَاضٍ . فَكَذَلِكَ سَوَاءٌ قَوْلُ الْقَائِلِ : اللَّهُمَّ إِنَّا إِيَّاكَ نَعْبُدُ فَأَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ ، وَقَوْلُهُ : اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى عِبَادَتِكَ فَإِنَّا إِيَّاكَ نَعْبُدُ . [ ص: 164 ]

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ الْغَفْلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :


ولَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي ، وَلَمْ أَطْلُبْ ، قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ


يُرِيدُ بِذَلِكَ : كَفَانِي قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ وَلَمْ أَطْلُبْ كَثِيرًا . وَذَلِكَ - مِنْ مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَمِنْ مُشَابَهَةِ بَيْتِ امْرِئِ الْقَيْسِ - بِمَعْزِلٍ . مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَكْفِيهِ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَالِ وَيَطْلُبُ الْكَثِيرَ ، فَلَيْسَ وُجُودُ مَا يَكْفِيهِ مِنْهُ بِمُوجِبٍ لَهُ تَرْكَ طَلَبِ الْكَثِيرِ ، فَيَكُونَ نَظِيرَ الْعِبَادَةِ الَّتِي بِوُجُودِهَا وُجُودُ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا ، وَبِوُجُودِ الْمَعُونَةِ عَلَيْهَا وُجُودُهَا ، فَيَكُونَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا دَالًّا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَعْتَدِلَ فِي صِحَّةِ الْكَلَامِ تَقْدِيمُ مَا قُدِّمَ مِنْهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ ، أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا فِي دَرَجَتِهِ وَمُرَتَّبًا فِي مَرْتَبَتِهِ .

فَإِنْ قَالَ : فَمَا وَجْهُ تَكْرَارِهِ : "إِيَّاكَ " مَعَ قَوْلِهِ : "نَسْتَعِينُ " ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ قَبْلَ "نَعْبُدُ " ؟ وَهَلَّا قِيلَ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ " ، إِذْ كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ الْمَعْبُودُ ، هُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَنَّهُ الْمُسْتَعَانُ ؟

قِيلَ لَهُ : إِنَّ الْكَافَ الَّتِي مَعَ " إِيَّا " ، هِيَ الْكَافُ الَّتِي كَانَتْ تَتَصِلُ بِالْفِعْلِ - أَعْنِي بِقَوْلِهِ : "نَعْبُدُ " - لَوْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً بَعْدَ الْفِعْلِ . وَهِيَ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطِبِ الْمَنْصُوبِ بِالْفِعْلِ ، فَكُثِّرَتْ بِ "إِيّا " مُتَقَدِّمَةً ، إِذْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ إِذَا انْفَرَدَتْ بِأَنْفُسِهَا لَا تَكُونُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ .

فَلَمَّا كَانَتِ الْكَافُ مِنْ " إِيَّاكَ " هِيَ كِنَايَةَ اسْمِ الْمُخَاطَبِ الَّتِي كَانَتْ تَكُونُ كَافًا وَحْدَهَا مُتَّصِلَةً بِالْفِعْلِ إِذَا كَانَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ ، ثُمَّ كَانَ حَظُّهَا أَنْ تُعَادَ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ اتَّصَلَتْ بِهِ ، فَيُقَالُ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعْبُدُكَ وَنَسْتَعِينُكَ وَنَحْمَدُكَ وَنَشْكُرُكَ " ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْصَحَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَنْ يُقَالَ : "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعْبُدُكَ وَنَسْتَعِينُ وَنَحْمَدُ " - كَانَ كَذَلِكَ ، إِذَا قُدِّمَتْ كِنَايَةُ اسْمِ الْمُخَاطَبِ قَبْلَ الْفِعْلِ مَوْصُولَةً بِ "إِيَّا " ، كَانَ الْأَفْصَحُ إِعَادَتَهَا مَعَ كُلِّ فِعْلٍ . كَمَا كَانَ الْفَصِيحُ مِنَ الْكَلَامِ إِعَادَتَهَا مَعَ [ ص: 165 ] كُلِّ فِعْلٍ ، إِذَا كَانَتْ بَعْدَ الْفِعْلِ مُتَّصِلَةً بِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُ إِعَادَتِهَا جَائِزًا .

وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُنْعِمِ النَّظَرَ أَنَّ إِعَادَةَ " إِيَّاكَ " مَعَ " نَسْتَعِينُ " ، بَعْدَ تَقَدُّمِهَا فِي قَوْلِهِ : "إِيَّاكَ نَعْبُدُ " ، بِمَعْنَى قَوْلِ عُدَيِّ بْنِ زَيْدٍ الْعَبَّادِيِّ :


وجَاعِلِ الشَّمسِ مِصْرًا لَا خَفَاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهَارِ وَبيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلَا


وَكَقَوْلِ أَعْشَى هَمْدَانَ :


بَيْنَ الْأشَجِّ وبَيْنَ قَيْسٍ بَاذِخٌ بَخْ بَخْ لوَالِدِهِ وَلِلْمَولُودِ


وَذَلِكَ مِنْ قَائِلِهِ جَهْلٌ ، مِنْ أَجْلِ أَنْ حَظَّ "إِيَّاكَ " أَنْ تَكُونَ مُكَرِّرَةٌ مَعَ كُلِّ فِعْلٍ ، لِمَا وَصَفَنَا آنِفًا مِنَ الْعِلَّةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمَ " بَيْنَ " لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ - إِذِ اقْتَضَتِ اثْنَيْنِ - إِلَّا تَكْرِيرًا إِذَا أُعِيدَتْ ، إِذْ كَانَتْ لَا تَنْفَرِدُ بِالْوَاحِدِ . وَأَنَّهَا لَوْ أُفْرِدَتْ بِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ ، فِي حَالِ اقْتِضَائِهَا اثْنَيْنِ ، كَانَ الْكَلَامُ كَالْمُسْتَحِيل ِ . وَذَلِكَ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ : "الشَّمْسُ قَدْ فَصَلَتْ بَيْنَ النَّهَارِ " ، لَكَانَ مِنَ الْكَلَامِ خَلْفًا لِنُقْصَانِ الْكَلَامِ عَمَّا بِهِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ ، مِنْ تَمَامِهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ " بَيْنَ " .

وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : " اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ " ، لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا تَامًّا . فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ حَاجَةَ كُلِّ كَلِمَةٍ - كَانَتْ نَظِيرَةَ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " - إِلَى " إِيَّاكَ " كَحَاجَةِ [ ص: 166 ] " نَعْبُدُ " إِلَيْهَا وَأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا " إِيَّاكَ " ، إِذْ كَانَتْ كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهَا جُمْلَةَ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ ، وَبَيَّنَّا حُكْمَ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ حُكْمَ " بَيْنَ " فِيمَا وَفَّقَ بَيْنَهُمَا الَّذِي وَصَفْنَا قَوْلَهُ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.94 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.93%)]