
09-02-2022, 12:46 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,345
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 67 الى صـ 71
الحلقة (12)
القول في تأويل قوله تعالى :
[21 ] يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون
يا أيها الناس اعبدوا ربكم لما ذكر الله علو طبقة كتابه الكريم ، وتحزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق : مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام . وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ، وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ؛ أقبل عليهم بالخطاب - وهو من الالتفات المذكور عند قوله جل ذكره : إياك نعبد - وهو فن من الكلام جزل ، فيه هز وتحريك من السامع -كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما : إن فلانا من قصته كيت وكيت ، فقصصت عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث ، فقلت : يا فلان ! من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك - نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ؛ وأوجدته ، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازا من طبعه ، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول ، وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة (يا أيها الناس) لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وأسباب من المبالغة . كالإيضاح بعد الإبهام . واختيار لفظ البعيد ، وتأكيد معناه بحرف التنبيه .
ومعلوم أن كل ما نادى الله له عباده : من أوامره ، ونواهيه وعظاته ، وزواجره ، ووعده ، ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك . . مما أنطق به كتابه - أمور عظام ، وخطوب جسام ، ومعان علمهم أن يتيقظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ - . أفاده الزمخشري - .
[ ص: 68 ] والمراد بالناس : كافة المكلفين - مؤمنهم وكافرهم- فطلب العبادة من المؤمنين طلب الزيادة فيها ، والثبات عليها ، ومن الكافرين ابتداؤها "الذي خلقكم" أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود "و" –خلق- : والذين من قبلكم لعلكم تتقون أي : كي تتقون ، كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله سبحانه : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وفي إيراد "لعل" ، تشبيه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول ; فإنه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار ، وطلب منهم الطاعة ، ونصب لهم أدلة عقلية ونقلية داعية إليها ؛ ووعد ، وأوعد ، وألطف بما لا يحصى كثرة ، لم يبق للمكلف عذر ، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجي منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه - مع تمكنه من خلافه - وصار طلب الله تعالى لعبادته واتقائه بمنزلة الترجي -فيما ذكرناه- .
القول في تأويل قوله تعالى :
[22 ] الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنـزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون
" الذي جعل" - خلق - : "لكم الأرض فراشا" بساطا ومهادا غير حزنة ، "والسماء بناء" البناء ، في الأصل ، مصدر سمي به المبني -بيتا كان ، أو قبة ، أو خباء .
قال بعض علماء الفلك في معنى الآية : أي كالبنيان يشد بعضه بعضا . و "السماء" يراد بها الجنس كالسماوات، والمعني بها الكواكب السيارات –قال- : فجميع السماوات [ ص: 69 ] أو الكواكب كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كل جهة ، المتماسك كأجزاء الجسم الواحد بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مداراتها ، وهو جذب الشمس لها .
"وأنزل من السماء" أي : السحاب "ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا" النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر ، كأنه قيل : إذا أمرتم بعبادة من هذا شأنه - من التفرد بهذه الأفعال الجليلة - فلا تجعلوا له أندادا شركاء في العبادة ، أي : أمثالا تعبدونهم كعبادته- جمع ند . وهو المثل ، ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ - فإن قيل : كيف صلح تسميتها أندادا ، وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه ، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده ؟ أجيب : بأنهم لما تقربوا إليها ، وعظموها ، وسموها آلهة - أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله قادرة على مخالفته ، ومضادته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم . وكما تهكم بهم بلفظ الند شنع عليهم ، واستفظع شأنهم ، بأن جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ند قط .
"وأنتم تعلمون" ما بينه وبينها من التفاوت ، وأنها لا تفعل مثل أفعاله ، كقوله : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ؛ أو وأنتم من أهل العلم والمعرفة - والتوبيخ فيه آكد - أي : أنتم العرافون المميزون ، ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا - هو غاية الجهل ، ونهاية سخافة العقل .
ومما ينبغي التفطن له - في الاعتبار بهذه الآية - ما قاله الزمخشري : من أنه سبحانه وتعالى قدم من موجبات عبادته ، وملزمات حق الشكر له : خلقهم أحياء قادرين أولا ; لأنه سابقة أصول النعم ، ومقدمتها ، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما ، ثم خلق الأرض ، التي هي مكانهم ، ومستقرهم الذي لا بد لهم منه - وهي بمنزلة عرصة المسكن ، ومتقلبه ، ومفترشه ، ثم خلق السماء- التي هي كالقبة المضروبة ، والخيمة المطنبة- على هذا القرار ، ثم ما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة [ ص: 70 ] بإنزال الماء منها عليها ، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان - من ألوان الثمار - رزقا لبني آدم ، ليكون لهم ذلك معتبرا ، ومتسلقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف . ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر ، ويتفكرون في خلق أنفسهم ؛ وخلق ما فوقهم وتحتهم ، وأن شيئا من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها ، فيتيقنوا -عند ذلك- أن لا بد لها من خالق - ليس كمثلها - حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا ، وهم يعلمون أنها [ لا ] تقدر على نحو ما هو عليه قادر .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين فمضمونه أنه الخالق الرازق ، مالك الدار وساكنيها ، ورازقهم . فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره .
ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ، ويحققها ، ويبطل الإشراك ، ويهدمه ، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك ، وتصحيحه . وعرفهم أن من أشرك فقد كابر عقله ، وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه - عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة ، وأراهم كيف يتعرفون : أهو من عند الله -كما يدعي- أم هو من عند نفسه -كما يدعون- ؟ بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ، ويذوقوا طباعهم ، وهم أبناء جنسه ، وأهل جلدته . فقال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :
[23 ] وإن كنتم في ريب مما نـزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين
"وإن كنتم في ريب مما نزلنا" - أي : من القرآن الذي نزلناه – "على عبدنا" [ ص: 71 ] محمد صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله تعالى ، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب - مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر -كما يعرب عنه قوله تعالى : "إن كنتم صادقين" إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم - وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد- هو الارتياب في شأنه (وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال ، كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع) ، وإما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإعجاز ، ونهاية قوتها ، وإنما لم يقل : وإن ارتبتم فيما نزلنا . . . إلخ ، لما أشير إليه - فيما سلف - من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبة وقوع الريب فيه -حسبما نطق به قوله تعالى : "لا ريب فيه"- والإشعار بأن ذلك - إن وقع - فمن جهتهم لا من جهته العالية . واعتبار استقرارهم فيه ، وإحاطته بهم ، لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته : لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به ، لا قلته ولا كثرته .
وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية ، مع الإضافة إلى ضمير الجلالة - من التشريف ، والتنويه ، والتنبيه على اختصاصه به عز وجل ، وانقياده لأوامره تعالى - ما لا يخفى ، والأمر في قوله تعالى : "فأتوا بسورة" من باب التعجيز وإلقام الحجر ، كما في قوله تعالى : فأت بها من المغرب أو من باب المجاراة معهم -بحسب حسبانهم- حيث كانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|