
09-02-2022, 12:46 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,270
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 72 الى صـ 76
الحلقة (13)
و(السورة) : الطائفة من القرآن العظيم المترجمة ، وأقلها ثلاث آيات ، وواوها أصلية ، منقولة من سور البلد - لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة ، محوزة ، أو محتوية على فنون رائقة من [ ص: 72 ] العلوم ، احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السورة التي هي الرتبة . فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتبا- من حيث الفضل والشرف ، أو من حيث الطول والقصر - فهي من حيث انتظامها مع أخواتها في المصحف : مراتب يرتقي إليها القارئ شيئا فشيئا . و"من" في قوله تعالى : "من مثله" بيانية متعلقة بمحذوف صفة لسورة ، والضمير "مما نزلنا" أي : بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة ، وسمو الطبقة ، والنظم الرائق ، والبيان البديع ، وحيازة سائر نعوت الإعجاز . وقيل "من" زائدة -على ما هو رأي الأخفش- بدليل قوله تعالى : فأتوا بسورة مثله بعشر سور مثله
وقوله تعالى : وادعوا شهداءكم من دون الله إرشاد لهم إلى إنهاض أمة جمة، ليحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورجلهم ، ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحد من أبناء جنسهم ، وهذا كقوله تعالى في سورة هود : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين
و"الشهداء " جمع شهيد ، بمعنى : الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر . و(من) لابتداء الغاية متعلقة بـ " ادعوا " ، والظرف مستقر . والمعنى : ادعوا ، متجاوزين الله تعالى للاستظهار ، من حضركم -كائنا من كان- أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم - الذين تفزعون إليهم في الملمات ، وتعولون عليهم في المهمات - أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم -من [ ص: 73 ] أمنائكم المتولين لاستخلاص الحقوق ، بتنفيذ القول عند الولاة - أو القائمين بنصرتكم -حقيقة أو زعما- من الإنس والجن ليعينوكم . وإخراجه ، سبحانه وتعالى ، من حكم الدعاء في الأول - مع اندراجه في الحضور - لتأكيد تناوله لجميع ما عداه ، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه ، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه . وأما في سائر الوجوه : فللتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى ، وكونهم في عدوة المحادة والمشاقة له ، قاصرين استظهارهم على ما سواه ؛ والالتفات لإدخال الروعة ، وتربية المهابة : "إن كنتم صادقين" أي : في زعمكم أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ، واستلزام المقدم للتالي من حيث إن صدقهم في ذلك الزعم يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله ، بقضية مشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في البشرية والعربية ، مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار ، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ، لا سيما عند المظاهرة والتعاون - ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ، ودواعي الأمر به - .
القول في تأويل قوله تعالى :
[24 ] فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين
"فإن لم تفعلوا" أي : ما أمرتم به من الإتيان بالمثل ، بعد ما بذلتم في السعي غاية المجهود "ولن تفعلوا" اعتراض بين جزأي الشرطية ، مقرر لمضمون مقدمها ، ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها ، وهي معجزة باهرة : حيث أخبر بالغيب الخاص - علمه به عز وجل - وقد وقع الأمر كذلك : "فاتقوا النار" جواب الشرط ، على أن اتقاء النار كناية عن الاحتراز من العناد ، إذ -بذلك- يتحقق تسببه عنه ، وترتبه عليه ، كأنه قيل : فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله -كما هو المقرر- فاحترزوا من إنكار كونه منزلا من عند الله سبحانه ; فإنه مستوجب للعقاب بالنار ، لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على [ ص: 74 ] تصوير العناد بصورة النار ، وجعل الاتصاف به عين الملابسة بها ، للمبالغة في تهويل شأنه ، وتفظيع أمره ، وإظهار كمال العناية - بتحذير المخاطبين منه ، وتنفيرهم عنه ، وحثهم على الجد في تحقيق المكني به - وفيه من الإيجاز البديع ما لا يخفى . حيث كان الأصل : فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم ، وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد ، وترككم الإيمان به ، سببا لاستحقاقكم العقاب بالنار ، فاحترزوا منه واتقوا النار "التي وقودها الناس والحجارة" صفة للنار مورثة لها زيادة هول وفظاعة - أعاذنا الله منها برحمته الواسعة - .
و"الوقود" : ما توقد به النار ، وترفع من الحطب . وقرئ بضم الواو ، وهو مصدر سمي به المفعول مبالغة - كما يقال : فلان فخر قومه ، وزين بلده - . فإن قيل : صلة الذي والتي يجب أن تكون قصة معلومة للمخاطب ، فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة ؟
قلت : لا يمتنع أن يتقدم لهم بذلك سماع من آيات التنزيل المتقدمة عليها ، أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو من أهل الكتاب . والمراد بالحجارة الأصنام ، وبالناس أنفسهم - حسبما ورد في قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم فإنها مفسرة لما نحن فيه - ، وحكمة اقترانهم مع الحجارة في الوقود : أنهم لما اعتقدوا في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشفعاء والشهداء الذين يستنفعون بهم ، ويستدفعون المضار عن أنفسهم بمكانهم ، جعلها الله عذابهم ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم - إبلاغا في إيلامهم ، وإغراقا في تحسيرهم ، ونحوه ما يفعله بالكانزين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة ، فشحوا بها ، ومنعوها من الحقوق ، حيث يحمى عليها في نار جهنم . فتكوى جباههم وجنوبهم .
"أعدت للكافرين" هيئت لهم ، وجعلت عدة لعذابهم ، والمراد : إما جنس الكفار -والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا- وإما هم خاصة ، ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمهم ، وتعليل الحكم بكفرهم - والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها ، ومبينة لمن أريد بالناس ، دافعة لاحتمال العموم .
[ ص: 75 ] (تنبيه) :
هذه الآية الجليلة من جملة الآيات التي صدعت بتحدي الكافرين بالتنزيل الكريم ، وقد تحداهم الله تعالى في غير موضع منه ، فقال في سورة القصص : قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين وقال في سورة الإسراء : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وقال في سورة هود : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقال في سورة يونس : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وكل هذه الآيات مكية .
ثم تحداهم أيضا في المدينة بقوله "وإن كنتم في ريب" إلى آخر هذه الآية فعجزوا عن آخرهم : - وهم فرسان الكلام ; وأرباب النظام ، وقد خصوا من البلاغة والحكم ، ما لم يخص به غيرهم من الأمم ، وأوتوا من ذرابة اللسان ، ما لم يؤت إنسان . ومن فصل الخطاب ، ما يقيد الألباب ، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة ، وفيهم غريزة وقوة ، يأتون منه على البديهة بالعجب ، ويدلون به إلى كل سبب ، فيخطبون بديها في المقامات وشديد الخطب ، ويرتجزون به بين الطعن والضرب ، ويمدحون ، ويقدحون ، ويتوسلون ، ويتوصلون ، ويرفعون ، ويضعون ، فيأتون بالسحر [ ص: 76 ] الحلال ، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سمط اللآل ، فيخدعون الألباب ، ويذللون الصعاب ، ويذهبون الإحن ، ويهيجون الدمن ، ويجرئون الجبان ، ويبسطون يد الجعد البنان ، ويصيرون الناقص كاملا ، ويتركون النبيه خاملا ، منهم البدوي : ذو اللفظ الجزل ، والقول الفصل ، والكلام الفخم ، والطبع الجوهري ، والمنزع القوي . ومنهم الحضري : ذو البلاغة البارعة ، والألفاظ الناصعة ، والكلمات الجامعة ، والطبع السهل ، والتصرف في القول القليل الكلفة ، الكثير الرونق ، الرقيق الحاشية ، وكلا البابين فلهما - في البلاغة - الحجة البالغة ، والقوة الدامغة ، والقدح الفالج ، والمهبع الناهج ، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم ، والبلاغة ملك قيادهم ، قدحوا فنونها ، واستنبطوا عيونها ، ودخلوا من كل باب من أبوابها ، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها ، فقالوا في الخطير والمهين ، وتفننوا في الغث والسمين ، وتقاولوا في القل والكثر ، وتساجلوا في النظم والنثر - ومع هذا فلم يتصد للإتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم ، ولم ينهض - لمقدار أقصر سورة منه - ناهض من بلغائهم ، على أنهم كانوا أكثر من حصى البطحاء ، وأوفر عددا من رمال الدهناء ، ولم ينبض منهم عرق العصبية مع اشتهارهم بالإفراط في المضادة والمضارة ، وإلقائهم الشراشر على المعازة والمعارة ، ولقائهم دون المناضلة عن أحسابهم الخطط ، وركوبهم في كل ما يرومونه الشطط : إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر ، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر . وقد جرد لهم الحجة أولا ، والسيف آخرا ، فلم يعارضوا إلا السيف وحده . فما أعرضوا عن معارضة الحجة إلا لعلمهم أن البحر قد زخر فطم على الكواكب ، وأن الشمس قد أشرقت فطمست نور الكواكب ؛ وبذلك يظهر أن في قوله تعالى "ولن تفعلوا" معجزة أخرى ، فإنهم ما فعلوا ، وما قدروا ، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم - كمسيلمة - كشف عواره لجميعهم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|