
09-02-2022, 12:47 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 77 الى صـ 81
الحلقة (14)
قال الحافظ ابن كثير : ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عمرو ، ، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة ؟ فقال له عمرو : لقد [ ص: 77 ] أنزل عليه سورة وجيزة بليغة . فقال وما هي ؟ فقال : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال : ولقد أنزل علي مثلها . قال : وما هو ؟ فقال : يا وبر يا وبر ! إنما أنت أذنان وصدر . وسائرك حفر نقر - . ثم قال - : كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم إني أعلم أنك تكذب ! . .
وحيث عجز عرب ذلك العصر ، فما سواهم أعجز في هذا الأمر . . ! وقد مضى -إلى الآن - أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، ولم يوجد أحد من معاديه البلغاء إلا وهو مسلم ، أو ذو استسلام ، فدل على أنه ليس من كلام البشر ، بل كلام خالق القوى والقدر ، أنزله تصديقا لرسوله ، وتحقيقا لمقوله ، وهذا الوجه - أعني بلوغه في الفصاحة والبلاغة إلى حد خرج عن طوق البشر - كاف وحده في الإعجاز ، وقد انضم إليه أوجه :
(منها) : إخباره عن أمور مغيبة ظهرت كما أخبر .
و(منها) : كونه لا يمله السمع مهما تكرر .
و(منها) : جمعه لعلوم لم تكن معهودة ، عند العرب والعجم .
و(منها) : إنباؤه عن الوقائع الخالية ، وأحوال الأمم ، والحال أن من أنزل عليه ، صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ، لاستغنائه بالوحي ، وليكون وجه الإعجاز بالقبول أحرى . وبذلك يعلم أن القرآن أعظم المعجزات ، فإنه آية باقية مدى الدهر ، يشاهدها -كل حين بعين الفكر- كل ذي حجر ، وسواه - من المعجزات- انقضت بانقضاء وقتها ، فلم يبق منها إلا الخبر .
وقد ذهب بعض علماء الشيعة - في وجه إعجازه - إلى : كونه قاهرا لمن يقاومه ، [ ص: 78 ] وغالبا على من يغالبه ، ونافذا في إزهاق ما يخالفه ، وكونه مؤثرا في إيجاد الأمة ، وبقاء الشريعة ، ونفوذ الحكم ، وثبوت الكلمة ، لما جعل الله فيه من النور ، والهداية ، والرحمة . وعبارته :
إن كلام الله تعالى يمتاز عن غيره بالنفوذ ، والغلبة في هداية الخلق ، وإنشاء أمة مستقلة ، وإبقاء شريعة جديدة ، وهي علامة كافية في معرفة الكلمات الإلهية ، والآيات السماوية ، ثم قال : وخلاصة تقرير الدليل أن الكلام -الذي يتحدى الداعي به ، وينسبه إلى الله- إذا ظهر منه التأثير التام في هداية النفوس المستعدة الطالبة ، وقهر الأمم المنكرة المانعة ، فأوجد أمة مستقلة نامية ، وشريعة جديدة باقية ، فلا يبقى ثمة شك أنه هو كلام الله النازل من السماء ، والقدرة الظاهرة منه هي القدرة التي منذ القديم ظهرت من المرسلين والأنبياء ، وإلى هذه النكتة أشير في قوله تعالى : ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين وقال تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد وهذه العلامة لا توجد إلا في كتب الله تعالى ، ويتمكن كل إنسان أن يدركها ويفهمها منها . سواء كان عالما ، أو أميا ، عربيا أو عجميا . شرقيا ، أو غربيا . . ! . فمن الذي يشك أن بني إسرائيل ما خرجوا عن ظلمات الجهل إلى نور الإيمان ، وعن ذلة العبودية إلى عز الاستقلال إلا بسبب التوراة . . ؟ ! ومن الذي يجهل أن الأمم الأوروبية ما وصلوا إلى عبادة الله تعالى -بعد عبادة الأوثان- إلا بواسطة الإنجيل . . ؟ ! ومن الذي لا يعرف أن الأمم الكبرى -من حدود الشرق الأقصى إلى أقاصي إفريقية- ما خرجوا عن ربقة الوثنية ، [ ص: 79 ] وعبادة النار إلى التوحيد وعبادة الله إلا بهداية القرآن العظيم ؟ وما تحرروا عن أغلال العقائد الفاسدة ، والأعمال القبيحة ، وما وصلوا إلى الأخلاق الفاضلة ، والعقائد الصحيحة إلا بنور هذا السفر الكريم . . ؟ ! ثم قال : والخلاصة أن هذه العلامة وهي هداية النفوس ، وإيجاد الديانة الجديدة - بقهر الأديان القديمة ، وتبديل العوائد العتيقة - هي العلامة الظاهرة المميزة بين الكلمات الإلهية ! والمصنفات البشرية . حتى أن أول نفس أذعنت بحقيقة رسالة رسول ، وصدق شريعته ، لو لم تعرف في نفسها هذه الهداية ، ولم تشعر في ذاتها بهذه المغلوبية لما كانت أول من صدقه ولباه ، واتبعه وآساه ، فإن محبة الدين القديم الموروث راسخة في جميع النفوس . والخوف من تبديل أركانه وآدابه متمكن في أعماق القلوب . فالهداية أظهر علامة في صدق النبوة والرسالة ; إذ هي صفة الفعل ، ومرتبطة بالدعوة - كالإبراء للطب ، ومعرفة السطوح للهندسة ، والبيع والشراء للتجارة ، وصنع الأسرة والأبواب وغيرها للنجارة - .
ثم قال : وإذا تصفحت القرآن المجيد ، تجد أن الله تعالى استدل بها في مواضع متعددة ، ووصف القرآن بأنه حجة -بما أودع فيه من الهداية والرحمة- ولا ترى موضعا واحدا وصفه بأنه أفصح الكتب وأبلغ الصحف ، فانظر في قوله تعالى : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين أترى أن الله تعالى أفحمهم بقوله : فأتوا بكتاب من عند الله هو أفصح منهما أو أبلغ منهما ؟ وكذلك لما انتقدوا على النبي صلى الله عليه وسلم بعدم صدور معجزة منه كالمعجزات السالفة ; فقال تعالى : وقالوا لولا أنـزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنـزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن [ ص: 80 ] في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون فبين الله تعالى مزية القرآن على سائر المعجزات ، وكفايته عن غيره بأن فيه الذكرى والرحمة . وقال تعالى في أول هذه السورة الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وما قال فيه فصاحة وبلاغة يعجز عن مثلها جميع العالمين . وذلك لأن الفصاحة والبلاغة من الأوصاف الخفية الغامضة الدقيقة -التي تختلف فيها الأذواق ، وتتشعب فيها الآراء والأنظار- ولكن ما ظهر من الرسول عليه السلام- بسبب نزول القرآن عليه - من العلم والقدرة على هداية الأمم ، وإزالة أسقام أهل العالم ، وتأسيس الشريعة الإلهامية ، وإيجاد الأمة الإسلامية رغما للأمم الكبرى ، ومباينا للديانات العظمى ، أمر ظاهر محسوس ، تصعب فيه المناقشة ، ولا تفيد معه المغالطة ، فمن الذي يمكنه أن ينكر أن الأمم العظيمة -كالعرب والفرس ، والخزر ، والترك ، والهنود ، والصينيين ، وأهالي إفريقية - خرجوا من ظلمات الشرك ، وعبادة النار والأوثان ، وإنكار الأنبياء ؛ ودخلوا في نور التوحيد ، وعبادة الله وحده ، والإيمان بأنبيائه ورسله وكتبه ، بنور الكتاب المبين . . . !
-كذا في كتاب (الدرر البهية) لأبي الفضائل الإيراني- ولا يخفى أن ما ذكره هو وجه متين ، ولكن لا يسوغ نفي ما عداه لأجله ، بل يجدر أن يضم إليها ، ويكون في مقدمتها والله أعلم .
ثم إن من عادته تعالى ، في كتابه ، أن يذكر الترغيب مع الترهيب ، ويشفع البشارة بالإنذار ، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني - على الأصح - وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر - أو عكسه - أو حال السعداء ثم الأشقياء - أو عكسه - وحاصله ذكر الشيء ومقابله . والحكمة في ذلك : هي إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف ، والتثبيط عن اقتراف ما يتلف . فلما ذكر الكفار وأعمالهم ، وأوعدهم بالعقاب ، قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق ، والأعمال الصالحة من فعل الطاعات وترك المعاصي- فقال عز وجل :
[ ص: 81 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[25 ] وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون
"وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات" (البشارة) : الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ، ومنه البشرة : لظاهر الجلد . وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه . وأما "فبشرهم بعذاب أليم" فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء - الزائد في غيظ المستهزأ به ، وتألمه ، واغتمامه- ففيه استعارة أحد الضدين للآخر تهكما وسخرية . و "الصالحات" ما استقام من الأعمال أي صلح لترتب الثواب عليه ، وقد أجمع السلف على أن الإيمان : قول وعمل ، يزيد وينقص . ثم إنه إذا أطلق دخلت فيه الأعمال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الإيمان بضع وستون شعبة -أو بضع وسبعون شعبة- أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|