
09-02-2022, 12:48 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,725
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 87 الى صـ 91
الحلقة (16)
"فأما الذين آمنوا" شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر [ ص: 87 ] تحقيق حقية صدوره عنه تعالى -أي : فأما المؤمنون "فيعلمون أنه الحق من ربهم" كسائر ما ورد منه تعالى- والحق : هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره . وذلك لأن التمثل به مسوق على قضية مضربه ، ومحتذى على مثال ما يستدعيه - كما جعل بيت العنكبوت مثل الآلهة التي جعلها الكفار أندادا لله تعالى -وجعلت أقل من الذباب ، وأخس قدرا ، وضربت لها البعوضة فما دونها مثلا ; لأنه لا حال أحقر من تلك الأنداد وأقل . . . . . . . ! .
فالمؤمنون الذين عادتهم الإنصاف ، والعمل على العدل والتسوية ، والنظر في الأمور بناظر العقل - إذا سمعوا بمثل هذا التمثيل علموا أنه الحق الذي لا تمر الشبهة بساحته ، والصواب الذي لا يرتع الخطأ حوله "وأما الذين كفروا" ممن غلبهم الجهل على عقولهم ، وغشيهم على بصائرهم- فلا يتفطنون ، ولا يلقون أذهانهم ، أو عرفوا أنه الحق ، إلا أن حب الرياسة ، وهوى الإلف والعادة ، لا يخليهم أن ينصفوا : "فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا" أي : فإذا سمعوه عاندوا ، وكابروا ، وقضوا عليه بالبطلان ، وقابلوه بالإنكار ، ولا خفاء في أن التمثيل بالبعوضة وبأحقر منها- مما لا تغبي استقامته وصحته على من به أدنى مسكة ، ولكن ديدن المحجوج المبهوت الذي لا يبقى له متمسك بدليل ، ولا متشبث بأمارة ولا إقناع ، أن يرمي لفرط الحيرة ، والعجز عن إعمال الحيلة ، بدفع الواضح ، وإنكار المستقيم ، والتعويل على المكابرة والمغالطة- إذا لم يجد سوى ذلك معولا . "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا" جواب عن تلك المقالة الباطلة ، ورد لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة ، وغاية جميلة ، هي كونه ذريعة إلى هداية المستعدين للهداية ، وإضلال المنهمكين في الغواية ، وقدم الإضلال على الهداية -مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ، ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوؤهم ، ويفت في أعضادهم ، وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر "وما يضل به" أي بالمثل أو بضربه "إلا الفاسقين" تكملة للجواب والرد ، وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ، ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له .
[ ص: 88 ] القول في تأويل قوله تعالى
[27 ] الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون
"الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" صفة للفاسقين للذم ، و"العهد" الذي وصفوا بنقضه : هو وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه ، وعلى لسان رسله - ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به : "ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل" عام في كل قطيعة لا يرضاها الله تعالى : كقطع الرحم ، والإعراض عن موالاة المؤمنين ، والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق ، وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر ، فإنه يقطع ما بين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل "ويفسدون في الأرض" بالمنع عن الإيمان ، والاستهزاء بالحق ، وقطع الوصل التي بها نظام العالم وصلاحه : "أولئك هم الخاسرون" لأنهم استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، والفساد بالصلاح ، وعقابها بثوابها . وهذه الصفات المسوقة في الآية صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى في سورة الرعد : أفمن يعلم أنما أنـزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب الآيات -إلى أن قال- : والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار
[ ص: 89 ] القول في تأويل قوله تعالى
[28 ] كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون
"كيف تكفرون بالله" التفات إلى خطاب المذكورين ، مبني على إيراد ما عدد من قبائحهم السابقة ، لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع . والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع ، واستبعاده ، والتعجيب منه ، لأن معهم ما يصرف عن الكفر ، ويدعو إلى الإيمان "وكنتم أمواتا" أجساما لا حياة لها عناصر ، وأغذية ، ونطفا ، ومضغا مخلقة وغير مخلقة -وإطلاق الأموات على تلك الأجسام الجمادية ، إما حقيقة- بناء على أن الميت عادم الحياة مطلقا . كما في قوله تعالى : بلدة ميتا و : وآية لهم الأرض الميتة أو استعارة ، جريا على أن إطلاق الميت فيما تصح فيه الحياة ، لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس . "فأحياكم" بخلق الأرواح ، ونفخها فيكم . وإنما عطفه بالفاء لأنه متصل بما عطف عليه ، غير متراخ عنه ، بخلاف البواقي "ثم يميتكم" عندما تقضى آجالكم "ثم يحييكم" بالنشور ، والبعث ، للحساب والجزاء "ثم إليه ترجعون" -بعد الحشر- فيجازيكم بأعمالكم : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . فما أعجب كفركم مع علمكم بحالتكم هذه . . . !
فإن قيل : إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه [ ص: 90 ] يرجعون ، فكيف نظم ما ينكرونه ، من الإحياء الأخير والرجع ، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول ، والإماتة . . . . ؟
قلت : تمكنهم من العلم بهما -لما نصب لهم من الدلائل- منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر . سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما ، وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا ، قدر على أن يحييهم ثانيا ، فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته . . ! أو الخطاب ، مع أهل الكتابين ، وإنكار اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها الله تعالى- إما لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر ، أو على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر ، أو لإرادة الأمرين جميعا . فإن ما عدده آيات ، وهي -مع كونها آيات- من أعظم النعم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[29 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم
"هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" بيان نعمة أخرى مرتبة على الأولى ، فإنها خلقهم أحياء قادرين مرة بعد أخرى ، وهذه خلق ما يتوقف عليه بقاؤهم ، ويتم به معاشهم ، ومعنى "لكم" لأجلكم ، ولانتفاعكم . وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل . ولا فرق بين الحيوانات وغيرها ، مما ينتفع به من غير ضرر . وفي التأكيد بقوله "جميعا" أقوى دلالة على هذا .
ثم استوى إلى السماء قال أبو العالية الرياحي: استوى إلى السماء أي : ارتفع . نقله عنه البخاري في صحيحه ، ورواه محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن الربيع بن أنس . [ ص: 91 ] وقال البغوي : قال ابن عباس وأكثر المفسرين : ارتفع إلى السماء . وقال الخليل بن أحمد في "ثم استوى إلى السماء" : ارتفع . رواه أبو عمر ابن عبد البر في شرح الموطأ ، نقله الذهبي في "كتاب العلو" . وقد استدل بقوله "ثم استوى" على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء ، وكذلك الآية التي في (حم السجدة) . وقوله تعالى في سورة (والنازعات): والأرض بعد ذلك دحاها إنما يفيد تأخر دحوها ، لا خلق جرمها ، فإن خلق الأرض وتهيئتها -لما يراد منها- قبل خلق السماء . ودحوها بعد خلق السماء ، والدحو : هو البسط ، وإنبات العشب منها ، وغير ذلك . مما فسره قوله تعالى : أخرج منها ماءها ومرعاها الآية -وكانت قبل ذلك خربة وخالية . على أن "بعد" تأتي بمعنى "مع" ; كقوله : عتل بعد ذلك زنيم أي : مع ذلك ، فلا إشكال . وتقديم الأرض –هنا- ; لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة فسواهن سبع سماوات أي : صيرهن ، كما في آية أخرى : فقضاهن
(تنبيه) قال بعض علماء الفلك : السماوات السبع -المذكورة كثيرا في القرآن- هي هذه السيارات السبع . وإنما خصت بالذكر -مع أن السيارات أكثر من ذلك- لأنها أكبر السيارات وأعظمها ؛ على أن القرآن الكريم لم يذكرها في موضع واحد -على سبيل الحصر- فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|