
13-02-2022, 07:28 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,138
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (93)
صـ53 إلى صـ 63
المسألة الخامسة :
جلب المصلحة ، أو دفع المفسدة إذا كان مأذونا فيه على ضربين :
أحدهما : أن لا يلزم عنه إضرار الغير .
والثاني : أن يلزم عنه ذلك ، وهذا الثاني ضربان :
أحدهما : أن يقصد الجالب ، أو الدافع ذلك الإضرار كالمرخص في سلعته قصدا لطلب معاشه وصحبه قصد الإضرار بالغير .
والثاني : أن لا يقصد إضرارا بأحد ، وهو قسمان : أحدهما : أن يكون الإضرار عاما كتلقي السلع ، وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره ، أو فدانه ، وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع ، أو غيره .
والثاني : أن يكون خاصا ، وهو نوعان :
[ ص: 54 ] أحدهما : أن يلحق الجالب ، أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره ، أو يسبق إلى شراء طعام ، أو ما يحتاج إليه ، أو إلى صيد ، أو حطب ، أو ماء ، أو غيره عالما أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه ولو أخذ من يده استضر .
والثاني : أن لا يلحقه بذلك ضرر ، وهو على ثلاثة أنواع :
أحدها : ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيا أعني القطع العادي كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد ، وشبه ذلك .
والثاني : ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبا إلى وقوع أحد فيه ، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدا ، وما أشبه ذلك .
والثالث : ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا لا نادرا ، وهو على وجهين :
أحدهما : أن يكون غالبا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من [ ص: 55 ] الخمار ، وما يغش به ممن شأنه الغش ، ونحو ذلك .
والثاني : أن يكون كثيرا لا غالبا كمسائل بيوع الآجال فهذه ثمانية أقسام :
فأما الأول فباق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء .
وأما الثاني ، فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس ، وقصد إضرار الغير : هل يمنع منه فيصير غير مأذون فيه أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن ، ويكون عليه إثم ما قصد ؟ هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة ، وهو جار على مسألة [ ص: 56 ] الصلاة في الدار المغصوبة ، ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلا :
وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة ، أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا ، فإن كان كذلك ، فلا إشكال في منعه منه لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار فلينقل عنه ولا ضرر عليه كما يمنع من ذلك الفعل إذا لم يقصد غير الإضرار ، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير [ ص: 57 ] فحق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وهو ممنوع من قصد الإضرار ولا يقال : إن هذا تكليف بما لا يطاق ، فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار ، وهو داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه .
وأما الثالث فلا يخلو أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا ، فإن لزم قدم حقه على الإطلاق على تنازع يضعف مدركه من مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترس الكفار بمسلم ، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام ، وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملة فاعتبار الضرر العام أولى فيمنع الجالب ، أو الدافع مما هم به; لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع ، وعن بيع [ ص: 58 ] الحاضر للبادي واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة ، وقد زادوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره مما رضي أهله ، وما لا ، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة .
وأما الرابع فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين : نظر من جهة إثبات الحظوظ ، ونظر من جهة إسقاطها ، فإن اعتبرنا الحظوظ ، فإن حق الجالب ، أو الدافع مقدم ، وإن استضر غيره بذلك; لأن جلب المنفعة ، أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود ولذلك أبيحت الميتة ، وغيرها من المحرمات الأكل ، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد ، والرطب باليابس في العرية للحاجة الماسة في طريق المواساة ، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها ، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره ، وسبقه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصح ، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه ، وذلك لا يلزمه ، بل قد [ ص: 59 ] يتعين عليه حق نفسه في الضروريات ، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه لأنه من حقه على بينة ، ومن حق غيره على ظن أو شك ، وذلك في دفع الضرر واضح ، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به .
وقد سئل الداودي : هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل ؟ قال : نعم ولا يحل له إلا ذلك . قيل : له ، فإن وضعه السلطان على أهل بلدة ، وأخذهم بمال معلوم يؤدونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل ، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم ؟ قال : ذلك له ، قال : ويدل على ذلك قول مالك رضي الله عنه في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب : إنه مظلمة دخلت على من أخذت منه لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء ، قال : ولست بآخذ في هذا بما روي عن سحنون ; لأن الظلم لا أسوة فيه ولا يلزم أحدا أن يولج نفسه في ظلم مخافة أن يوضع الظلم على غيره والله تعالى يقول : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق [ الشورى : 42 ] هذا ما قال .
[ ص: 60 ] ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره إذا كان المطروح جورا بينا .
وذكر عبد الغني في المؤتلف والمختلف عن حماد بن أبي أيوب قال : قلت لحماد بن أبي سليمان : إني أتكلم فترفع عني النوبة ، فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال : إنما عليك أن تتكلم في نفسك ، فإذا رفعت عنك ، فلا تبالي على من وضعت .
ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك ، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولمانعي الحاج حتى يؤدوا خراجا ، كل ذلك انتفاع ، أو دفع ضرر بتمكين من المعصية ، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر ، أو قتل الكافر المسلم ، بل قال - عليه الصلاة والسلام - : وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل الحديث .
ولازم ذلك دخول قاتله النار ، وقول أحد ابني آدم : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك [ المائدة : 29 ] ، بل العقوبات كلها جلب مصلحة ، أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير إلا أن ذلك كله إلغاء لجانب المفسدة; لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام ولأن جانب الجالب والدافع أولى ، [ ص: 61 ] وقد تقدم الكلام على هذا قبل .
فإن قيل : هذا يشكل في كثير من المسائل ، فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار ، وما تقدم واقع فيه الضرر ، فلا يكون مشروعا بمقتضى هذا الأصل ، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض ، وإما مجانا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه ، وقد أخذ من يده قهرا لما كان إمساكه مؤديا إلى إضرار المضطر ، وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرا لما صار منعه مؤديا لإضرار الغير ، وما أشبه ذلك .
فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه ، وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن ، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب ، ودفع الدافع ، وكونه يلزم عنه إضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن .
وأيضا فقد تعارض هنالك إضراران : إضرار صاحب اليد والملك وإضرار من لا يد له ولا ملك والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق والحاصل أن [ ص: 62 ] الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار ، وكيف ، ومن شأن الشارع أن ينهى عنه ، ألا ترى أنه إذا قصد الجالب ، أو الدافع الإضرار أثم ، وإن كان محتاجا إلى ما فعل ، فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار ، بل عن الإضرار نهى ، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك .
وأما مسألة المضطر ، فهي شاهد لنا; لأن المكره على الطعام ليس محتاجا إليه بعينه حاجة يضر به عدمها ، وإلا فلو فرضته كذلك لم يصح إكراهه ، وهو عين مسألة النزاع ، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه ، وأما المحتكر ، فإنه خاطئ باحتكاره مرتكب للنهي مضر بالناس ، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به .
وأيضا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة .
هذا كله مع اعتبار الحظوظ ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان :
أحدهما : إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء ، وهو محمود جدا ، وقد فعل ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ، فهم مني ، وأنا منهم ، وذلك أن مسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه ، وكأنه هو أخوه ، أو ابنه ، أو قريبه ، أو يتيمه ، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبا ، أو وجوبا ، [ ص: 63 ] وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد ، فهو على ذلك واحد منهم ، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله ، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده ، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون رضي الله عنهم فقال - عليه الصلاة والسلام - : فهم مني ، وأنا منهم لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في هذا المعنى الإمام الأعظم ، وفي الشفقة الأب الأكبر إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|