
13-02-2022, 07:32 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,138
الدولة :
|
|
رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله

الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثالث
الحلقة (98)
صـ120 إلى صـ 132
المسألة الثانية عشرة
لما ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك; لأنه مقصود الشارع فيها كما تبين ، فإذا كان الأمر في ظاهره ، وباطنه على أصل المشروعية ، فلا إشكال ، وإن كان الظاهر موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح ، وغير مشروع; لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها ، [ ص: 121 ] وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها ، وهي المصالح التي شرعت لأجلها فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات .
فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة ، وغيرهما من العبادات إنما شرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه ، وإفراده بالتعظيم والإجلال ، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد ، فإذا عمل بذلك على قصد نيل حظ من حظوظ الدنيا من دفع ، أو نفع كالناطق بالشهادتين قاصدا لإحراز دمه ، وماله لا لغير ذلك ، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك ، أو ينال به رتبة في الدنيا فهذا العمل ليس من المشروع في شيء; لأن المصلحة التي شرع لأجلها لم تحصل ، بل المقصود به ضد تلك المصلحة ، وعلى هذا نقول في الزكاة مثلا : إن المقصود بمشروعيتها رفع رذيلة الشح ، ومصلحة إرفاق المساكين ، وإحياء النفوس المعرضة للتلف ، فمن وهب [ ص: 122 ] في آخر الحول ماله هروبا من وجوب الزكاة عليه ، ثم إذا كان في حول آخر ، أو قبل ذلك استوهبه فهذا العمل تقوية لوصف الشح ، وإمداد له ورفع لمصلحة إرفاق المساكين فمعلوم أن صورة هذه الهبة ليست هي الهبة التي ندب الشرع إليها; لأن الهبة إرفاق ، وإحسان للموهوب له ، وتوسيع عليه غنيا كان ، أو فقيرا وجلب لمودته ، ومؤالفته ، وهذه الهبة على الضد من ذلك ولو كانت على المشروع من التمليك الحقيقي لكان ذلك موافقا لمصلحة الإرفاق والتوسعة ورفعا لرذيلة الشح ، فلم يكن هروبا عن أداء الزكاة .
فتأمل كيف كان القصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا ، والقصد غير الشرعي هادم [ ص: 123 ] للقصد الشرعي ، ومثله أن الفدية شرعت للزوجة هربا من أن لا يقيما حدود الله في زوجيتهما ، فأبيح للمرأة أن تشتري عصمتها من الزوج عن طيب نفس منها خوفا من الوقوع في المحظور ، فهذه بذلت مالها طلبا لصلاح الحال بينها ، وبين زوجها ، وهو التسريح بإحسان ، وهو مقصد شرعي مطابق للمصلحة لا فساد فيه حالا ولا مآلا ، فإذا أضر بها لتفتدي منه ، فقد عمل هو بغير المشروع حين أضر بها لغير موجب مع القدرة على الوصول إلى الفراق من غير إضرار ، فلم يكن التسريح إذا طلبته بالفداء تسريحا بإحسان ولا خوفا من أن لا يقيما حدود الله; لأنه فداء مضطر ، وإن كان جائزا لها من جهة الاضطرار والخروج من الإضرار وصار غير جائز له إذ وضع على غير المشروع .
وكذلك نقول : إن أحكام الشريعة تشتمل على مصلحة كلية في الجملة ، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على الخصوص .
أما الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصيته ، وأما الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع حركاته ، وأقواله واعتقاداته ، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها حتى يرتاض بلجام الشرع ، وقد مر بيان هذا فيما تقدم ، فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب وكل قول وافق فيها هواه ، فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه ، وأمثال ذلك كثيرة .
[ ص: 124 ] فصل
فإذا ثبت هذا فالحيل التي تقدم إبطالها ، وذمها والنهي عنها ما هدم أصلا شرعيا ، وناقض مصلحة شرعية .
فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلا شرعيا ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة ، ومرجع الأمر فيها إلى أنها على ثلاثة أقسام :
أحدها : لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين .
والثاني : لا خلاف في جوازه كالنطق بكلمة الكفر إكراها عليها ، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك ، إلا أن هذا مأذون فيه لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بخلاف الأول فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق ، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق; إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع ، فكان باطلا ، ومن هنا جاء في ذم النفاق ، وأهله ما جاء .
وهكذا سائر ما يجري مجراه ، وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع .
[ ص: 125 ] وأما الثالث فهو محل الإشكال والغموض ، وفيه اضطربت أنظار النظار من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول ، أو الثاني ولا تبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مقصود له ولا ظهر أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه .
فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعا فيه ، شهادة من المتنازعين بأنه غير مخالف للمصلحة فالتحيل جائز ، أو مخالف فالتحيل ممنوع ، ولا يصح أن يقال : إن من أجاز التحيل في بعض المسائل مقر بأنه خالف في ذلك قصد الشارع ، بل إنما أجازه بناء على تحري قصده ، وأن مسألته لاحقة بقسم التحيل الجائز الذي علم قصد الشارع إليه ; لأن مصادمة الشارع صراحا علما أو ظنا لا تصدر من عوام المسلمين فضلا عن أئمة الهدى ، وعلماء الدين نفعنا الله بهم .
كما أن المانع إنما منع بناء على أن ذلك مخالف لقصد الشارع ولما وضع في الأحكام من المصالح ولا بد من بيان هذه الجملة ببعض الأمثلة لتظهر صحتها ، وبالله التوفيق .
فمن ذلك نكاح المحلل ، فإنه تحيل إلى رجوع الزوجة إلى مطلقها الأول بحيلة توافق في الظاهر قول الله تبارك وتعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، فقد نكحت المرأة هذا المحلل ، فكان رجوعها إلى الأول بعد تطليق الثاني موافقا ، ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده ، بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية .
وقوله - عليه الصلاة والسلام - : لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك [ ص: 126 ] ظاهر أن المقصود في النكاح الثاني : ذوق العسيلة ، وقد حصل في المحلل ولو كان قصد التحليل معتبرا في فساد هذا النكاح لبينه - عليه الصلاة والسلام - ولأن كونه حيلة لا يمنعها ، وإلا لزم ذلك في كل حيلة كالنطق بكلمة الكفر للإكراه ، وسائر ما يدخل تحت القسم الجائز باتفاق ، فإذا ثبت هذا ، وكان موافقا للمنقول دل على صحة موافقته لقصد الشارع .
وكذلك إذا اعتبرت جهة المصلحة فمصلحة هذا النكاح ظاهرة; لأنه قد قصد فيه الإصلاح بين الزوجين; إذ كان تسببا في التآلف بينهما على وجه صحيح ولأن النكاح لا يلزم فيه القصد إلى البقاء المؤبد ; لأن هذا هو التضييق الذي تأباه الشريعة ولأجله شرع الطلاق ، وهو كنكاح النصارى ، وقد أجاز العلماء النكاح بقصد حل اليمين من غير قصد إلى الرغبة في بقاء عصمة المنكوحة ، وأجازوا نكاح المسافر في بلدة لا قصد له إلا قضاء الوطر زمان الإقامة بها إلى غير ذلك .
وأيضا لا يلزم إذا شرعت القاعدة الكلية لمصلحة أن توجد المصلحة في كل فرد من أفرادها عينا حسبما تقدم كما في نكاح حل اليمين والقائل إن تزوجت فلانة ، فهي طالق على رأي مالك فيهما ، وفي نكاح المسافر ، وغير ذلك .
هذا تقرير بعض ما يستدل به من قال : بجواز الاحتيال هنا ، وأما تقرير [ ص: 127 ] الدليل على المنع فأظهر ، فلا نطول بذكره ، وأقرب تقرير فيه ما ذكره عبد الوهاب في شرح الرسالة ، فإليك النظر فيه .
ومن ذلك مسائل بيوع الآجال ، فإن فيها التحيل إلى بيع درهم نقدا بدرهمين إلى أجل ، لكن بعقدين ، كل واحد منهما مقصود في نفسه ، وإن كان الأول ذريعة فالثاني غير مانع ; لأن الشارع إذا كان قد أباح لنا الانتفاع بجلب المصالح ، ودرء المفاسد على وجوه مخصوصة ، فتحري المكلف تلك الوجوه غير قادح ، وإلا كان قادحا في جميع الوجوه المشروعة ، وإذا فرض أن العقد الأول ليس بمقصود العاقد ، وإنما مقصوده الثاني ، فالأول إذا منزل منزلة الوسائل والوسائل مقصودة شرعا من حيث هي وسائل ، وهذا منها ، فإن جازت الوسائل من حيث هي وسائل فليجز ما نحن فيه ، وإن منع ما نحن فيه فلتمنع الوسائل على الإطلاق ، لكنها ليست على الإطلاق ممنوعة إلا بدليل ، فكذلك هنا لا يمنع إلا بدليل ، [ ص: 128 ] [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] بل هنا ما يدل على صحة التوسل في مسألتنا وصحة قصد الشارع إليه في قوله - عليه الصلاة والسلام - : بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا فالقصد ببيع الجمع بالدراهم التوسل إلى حصول الجنيب بالجمع ، لكن على وجه مباح ولا فرق في القصد بين حصول ذلك مع عاقد واحد ، وعاقدين; إذ لم يفصل النبي - عليه الصلاة والسلام - .
وقول القائل : إن هذا مبني على قاعدة القول بالذرائع غير مفيد هنا ، [ ص: 131 ] فإن الذرائع على ثلاثة أقسام :
منها ما يسد باتفاق ، كسب الأصنام مع العلم بأنه مؤد إلى سب الله تعالى ، وكسب أبوي الرجل إذا كان مؤديا إلى سب أبوي الساب ، فإنه عد في الحديث سبا من الساب لأبوي نفسه ، وحفر الآبار في طرق المسلمين مع العلم بوقوعهم فيها ، وإلقاء السم في الأطعمة والأشربة التي يعلم تناول المسلمين لها .
ومنها ما لا يسد باتفاق كما إذا أحب الإنسان أن يشتري بطعامه أفضل منه ، أو أدنى من جنسه فيتحيل ببيع متاعه ليتوصل بالثمن إلى مقصوده ، بل كسائر التجارات ، فإن مقصودها الذي أبيحت له إنما يرجع إلى التحيل في بذل دراهم في السلعة ليأخذ أكثر منها .
ومنها ما هو مختلف فيه ، ومسألتنا من هذا القسم فلم نخرج عن حكمه بعد والمنازعة باقية فيه .
وهذه جملة مما يمكن أن يقال في الاستدلال على جواز التحيل في المسألة ، وأدلة الجهة الأخرى مقررة واضحة شهيرة فطالعها في مواضعها ، وإنما قصد هنا هذا التقرير الغريب لقلة الاطلاع عليه من كتب أهله; إذ كتب الحنفية كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب ، وكذلك كتب الشافعية ، وغيرهم من أهل المذاهب ، ومع أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورا ، وإنكارا لمذهب غير مذهبه من غير إطلاع على مأخذه فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة الذين أجمع الناس على فضلهم ، وتقدمهم في [ ص: 132 ] الدين واضطلاعهم بمقاصد الشارع ، وفهم أغراضه ، وقد وجد هذا كثيرا ولنكتف بهذين المثالين فهما من أشهر المسائل في باب الحيل ، ويقاس على النظر فيهما النظر فيما سواهما .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|