بين النفس والعقل (2)
حسام بن عبدالعزيز الجبرين
الحمد لله الخالق البارئ المصور، المهيمن المقدم المؤخر، العزيز الجبار المتكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله والحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، افترض الله على العباد طاعته وتوقيره، ومحبته وتعزيره، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203].
عباد الرحمن، كان حديثنا الجمعة الماضية (بين النفس والعقل)، وحديثنا اليوم إكمال له.
عبدالله، إن تسألت: ما النفس؟ فالذي يظهر من الأدلة أنها هي الروح، وقال بعضهم: أن النفس هي الروح مع الجسد؛ قال سبحانه: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزمر: 42]، وفي الحديث: ((فإذا اضطجع فليقل: باسمك ربي، وضعتُ جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، فإذا استيقظ، فليقل: الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ عليَّ روحي، وأذِن لي بذكره))؛ [أخرجه الترمذي والنسائي، وحسنه الألباني]، وقد ثبت في الصحيح أن الشهداء: ((أرواحهم في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة، ثم تأوي إلى قناديلَ معلقة بالعرش))، وعالم الأرواح عالم عجيب؛ فمع علمنا بها وكونها في أبداننا، فإننا لا نعرف كنهها؛ قال سبحانه: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، وفي الحديث: ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))؛ [رواه مسلم].
أيها الأحبة، جاء في القرآن ذكر النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء؛ قال ابن تيمية رحمه الله: "النفوس ثلاثة أنواع:
النفس الأمارة بالسوء وهي: التي يغلب عليها اتباع هواها بفعل الذنوب والمعاصي.
والنفس اللوامة وهي: التي تذنب وتتوب، فعندها خير وشر، ولكن إذا فعلت الشر تابت وأنابت، فتسمى لوامة؛ لأنها تلوم صاحبها على الذنوب والمعاصي، ولأنها تتلوم؛ أي: تتردد بين الخير والشر.
والنفس المطمئنة: وهي التي تحب الخير والحسنات وتريده، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك، وقد صار ذلك لها خُلقًا وعادة وملكة، فهذه صفات وأحوال لِذَاتٍ واحدة، وإلا فالنفس التي لكل إنسان هي نفس واحدة، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه"؛ [انتهى كلامه رحمه الله، الفتاوى، 9/ 294].
وقال العثيمين رحمه الله: "والإنسان يحس بنفسه بهذه الأنفس، يرى في نفسه أحيانًا نزعة خير، يحب الخير، يفعله، هذه هي النفس المطمئنة، ويرى أحيانًا في نفسه نزعة شر يفعله، هذه نفس أمارة بالسوء، تأتي بعد ذلك النفس اللوامة التي تلومه على ما فعل، فتجده يندم على ما فعل من المعصية".
وقال ابن القيم: "بل إن النفس ربما تتقلب في اليوم الواحد بل في الساعة الواحدة".
إخوة الإيمان، خلق الله العقل ليدل ويتفكر ويُري صاحبه الطريق، والنفس خُلقَت لتشتهي وتهوى وترغب، تحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، والعقل يميز لها الخير من الشر، والنافع من الضار من طبائعها وشهواتها وأعراضها بحسب ما فيه من علم ومعرفة، وخبرة وتجربة في هذه الحياة.
عباد الله، ليس كل ما تشتهي النفس يصح أن تُعطاه على النحو الذي تحب وبالقدر الذي تريد، بل لا بد من عقل يضبطها؛ فالمريض ببعض أمراض الجلد تحب نفسه الحك ما دام يستمتع بالحكة ويجد تخفيفًا للألم، ولكن العقل يمنعه من القدر الزائد لئلا يتضرر.
والعقل ليس عدوًّا للنفس ولو حرمها، ولكنها هي قد تكون عدوة للعقل؛ فالمبتلى بإدمان المخدرات مثلًا يأمره عقله باجتنابها وفي ذلك مصلحته، ولكن نفسه تأمره بمزاولة ما اعتادته وألفته ولو كان ضارًّا مهلكًا، وتزين ذلك مع الشيطان؛ ولذا في الحديث: ((أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان...))؛ [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي].
إخوة الإيمان، استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، وقد فسَّره الإمام أحمد بفقر النفس، والنفس الفقيرة هي النفس المأسورة بالشهوات، وإذا كانت النفس فقيرة لم ينفع الغنيَّ غناه، وإذا اغتنت لم يتضرر الفقير بفقره؛ لأن غنى النفس بقناعتها بما عندها؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس))؛ [أخرجه الشيخان]، واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من نفس لا تشبع.
نفعني الله وإياكم بالكتاب والسنة، وبما فيهما من الآي والحكمة، واستغفروا الله إنه كان غفارًا.
♦ ♦ ♦
الحمد لله القائل: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، وصلى الله وسلم على رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:
إخوة الإسلام، فالنفوس لها طباع، والطبائع النفسية منها ما يُخلق عليها الإنسان ويُصبغ عليها كالنفس العَجِلة أو الغضوبة أو المتأنية أو الحليمة، وقد شُبِّهت تلك الطبائع التي يخلق عليها الإنسان بمعادن الأرض التي خلقت فيها؛ ففي الحديث: ((الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقِهوا))؛ [رواه مسلم].
وللنفوس شهواتٌ يشترك الناس في بعضها ويختلفون في بعضها، وما يتفقون فيه يتفاوتون في مقدار تعلق نفوسهم به، فهم مثلًا يشتركون في حب المال والطعام والجاه والسمعة الطيبة، ولكنهم يتفاوتون في مقدار تعلقهم بذلك، والمحذور من شهواتها ما يصل بصاحبه إلى مخالفة الشرع، كأن يصل به حب المال إلى تحصيله عن طريق الغش أو الرشوة أو الشح، وأمُّ شهوات النفس حبها للجاه، والمقصود: حب الجاه الزائد الذي يجعله الغاية ومنتهى المطالب؛ ولذا فبعض النفوس مع حبها للمال، فإنها قد ترخصه وتجود به لتحصل على الجاه عند الناس، بل قد تقدم على الموت لتحصل على مدح الناس؛ وفي حديث: ((أول من تسعر بهم النار يوم القيامة)) عند مسلم، نجد صنفًا بذل حياته: ((ولكنك قاتلت ليُقال: فلان جريء))، وصنفًا بذل ماله: ((ولكنك فعلت ليقال: هو جواد))، وآخر بذل وقته: ((ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ))، فكلهم لم يخلصوا لله التعبد، وغايتهم الجاه، نسأل السلامة والعفو والعافية، ومن ابتُليَ بحب الجاه ابتلي بالكبر والحسد؛ أما الكبر؛ فلأن النفس تريد بالجاه علوًّا؛ ولذا قال أبو جهل: "والله إني أعلم إنه لنبي، ولكن متى كنا لبني عبدمناف تبعًا؟"، وفيه نزل قول الله: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33]، فالإقرار بما جاءت به الرسل يكسر جاهَ تلك النفوس المتكبرة؛ قال الله عن فرعون وقومه: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، وقال سبحانه عن بني إسرائيل: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ [البقرة: 87]، وفي الحديث: ((الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس))؛ [رواه مسلم]، فالكبر يجعل الإنسان لا يخضع للحق ولو تبين له.
وإذا زاد حب الجاه جلب الحسد؛ فإذا وجد المنافس أو الأعلى، أحبت النفس أن يتأخروا ليظهر تقدمها فيراها الناس؛ كالنور أمام الأعين لا يرى الأضعف مع الأقوى، وعلامة الحسد في النفس: أنها تفرح بأخطاء منافسيها أكثر من فرحها بصوابهم؛ لأنها تريد نزولهم لا صعودهم، فهي ترى تأخرهم يقدمها ولو كانت في مكانها، أما النفوس الزكية فهي التي تطلب أسباب الفضل، ولا تقصد الجاه بذاته، وإن أتاها تبعًا، حمدت الله واستعاذت من فتنته، واحتاطت من تغير القصد ولو بعد حين.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها.